-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إنسان اليوم بين الدين والدنيا

التهامي مجوري
  • 1387
  • 0
إنسان اليوم بين الدين والدنيا

بدا للناس منذ قرنين على الأقل، أن الدين لا علاقة له بالدنيا، وذلك بسبب استبعاد القيم الدينية عن الأوعية المعرفية التي تقود العالم اليوم، فيما يعرف بالعلمانية أو اللائكية أو الحداثة أو غير ذلك من المصطلحات المعبرة عن لادينية المعرفة الإنسانية…؛ بحجة أن المعرفة تبحث في قضايا الإنسان من حيث هو إنسان، وليس لكونه مسلما أو نصرانيا أو يهوديا أو حتى ملحدا.

وهذا الواقع في أصله رد فعل طبيعي عن واقع خرافي كانت تتبناه الكنيسة في الغرب اصطدم مع العلم، حيث كانت تعز من تشاء وتذل من تشاء باسم الله والدين، على اعتبار أن الكهنة والقساوسة يمثلون ظل الله في الأرض، ولا يعترفون بما يقوله العلماء والفلاسفة، فثار العلماء على هذا واقع الخرافي عندما اصطدمت الحقائق العلمية التي توصل إليها أهل الإختصاص بهذا الواقع الخرافي، فكانت النتيجة أن ابتعدت النخب عن الدين كمصدر إلهام للفكر الإنساني، بسبب ما آلت إليه الأمور من فرقة وتمزيق بين فئات البشر المختلفة، فوجب البحث عما يقرب الناس من بعضهم البعض واستبعاد ما يختلفون فيه…، فكانت هذه الصيغ التوفيقية التي أخذت لبوس العلم بدل الدين والمصالح بدل القيم ليُحكم بها الناس بالحق وبالباطل.

أما الدين فيمكن للناس أن يمارسوه كقيم وطقوس فردية يقوم بها كل مؤمن على حدة، فالمسلم يقوم بعبادات الإسلام، والنصراني يقوم بعبادات النصرانية، واليهودي يقوم بعبادات اليهود…، وما زاد عن ذلك فلا دخل للدين فيه، وإنما هي مصالح يهدف إليها كل الناس كغايات محل إجماع بينهم، على خلاف قضايا التدين التي هي قضايا فردية، فلا يتفقون على وجودها، ولا على كيفية في ممارستها.

أما الدنيا فهي قضايا مصلحية تهدف إلى غايات مشتركة بين بني الإنسان، يشعر بها كل الناس بنفس المستوى من الحاجة، المأكل والملبس والعدل والحرية وغير ذلك من الحاجات الإنسانية الكثيرة، التي تختلف عن الدين الذي هو بالأساس أمور غيبية يختلف فيها الناس كثيرا كما أسلفنا.

ومن هنا كان مبرر الفصل بين الدين والدنيا…، فغايات الدين شيء وغايات الدنيا شيء آخر مختلف تماما فلا يمكن الجمع بينهما، كما اكنت نظرة هذا الاتجاه ولا زالت.

وترسخت هذه المعاني في أذهان الناس بمن في ذلك المسلمون أنفسهم، الذين لا يزالون الأكثر تمسكا بالدين وعلاقته بالدنيا، ومع ذلك فإن التيار الإسلامي نفسه سقط في هذا المطب –لا سيما في المجال السياسي-، بسبب انشغاله بالنضال السياسي وفق المنظومة نفسها، والتي تمثل مفرداتها جوهر المسألة الدنيوية –السياسة- مستبعدا –بغير شعور منه- قيمه الدينية ذاتها التي هي في الأصل تحمل في جوهرها رؤية كونية لا تستبعد الدين من مساحات الحياة.

وبحكم أن هذا الاستبعاد للدين من الحياة وحرمان الدنيا من آثاره الإيجابية، شعرت الإنسانية بمستوى من الفراغ الروحي الكبير، الذي لا يملؤه إلا الدين أو ما يماثله في غاياته غير المادية، فكانت الدعوة إلى العودة إلى الأخلاق وإلى الدين كمقوم أساس في الحياة، ولكن المشكلة في المنظومة الفكرية والرؤية الكونية للفكر الإنساني اليوم، لا تستطيع أن تستحضر شئيا من خارج المنظومة المادية، فكل ما لا يهيمن عليه العقل وسلطته، لا يصلح لأن يكون في المنظومة الحاكمة لأنظمة المجتمع الإنساني؛ لأن ما توصل إليه الإنسان بما أنتجت الحداثة وما بعد الحداثة، هو عدم الثبات والإستقرار، لا وجود لثابت قار؛ بل الثابت الوحيد هو التغير المطرد، كما جاء في كتاب “الحداثة السائلة”، لعالم الإجتماع البولوني زيجومنت باومان.

إذن حتى الدين والأخلاق التي يريد الفكر الإنساني اليوم الوصول إليها والاستنجاد بها، هي مما ينطبق عليه هذا التغيير وعدم الثبات، يعني أن يكون هذا الدين خاضع لتغيرات الإنسان، وكذلك الأخلاق لا بد من أن تكون من جنس الفكر الناظم للحياة، المبني أساسا على قانون الطبيعة، مثل الإنسان الطبيعي والدين الطبيعي.

ذلك أن الفكر الإنساني اليوم يريد البحث عن الخروج من مأزق وقع فيه ولم يستطع الخروج منه بآلياته؛ لأنه أشبع كل شيء في الإنسان، ولكنه عجز عن إشباع روحه، فإنسان اليوم شبع من كل شيء ولكنه يشعر بالجوع، فرح بكل ما يملك ولكنه لا يشعر بالسعادة، ولا بالطمأنينة ولا بالفرح المنعش… وحتى إذا فرح في لحظة من لحظات عمره، فإن تلك الفرجة لا تدوم، وسرعان ما تفر ولا يجد لها طريقا.

والسبب الذي لم ينتبه إليه إنسان العصر والمنظرون له أو يغفلون عنه هو أن الدنيا وسيلة إلى غاية عاجلة، بمبادئها ووسائلها وغاياتها، بحيث يفكر ويعمل الإنسان في شيء يرى نتائجه في الواقع، والدين وسيلة لغاية مستقبلية، أي غاية متعلقة بالغيب.

ثم إن الدنيا وسيلة لغاية قريبة؛ لأنها بالنسبة للأفراد لا تمثل إلا مدة العمر التي يمر بها الإنسان، ما بين الميلاد والوفاة، وأما الدين كوسيلة لغاية غير محدودة، فمهمته تحقيق ما بعد الموت، وهو الخلود والرضوان الإلهي.

لا شك أن انشغال الناس بتحقيق الحاجات الإنسانية المتمثلة في تقدير الذات والحاجات النفسية والمكاسب المحتلفة من العلم وطلب الرزق والمأكل والملبس [أنظر: هرم ماسلو]، وبناء المؤسسات التي تنظم له حياته، وهي حاجات ضرورية لاستقامة الجانب الدنيوي من الحياة، ولكن الدين باعتباره وسيلة لغاية غيبية، لا يهتم بذلك إلا بالقدر الذي يحقق الحياة واستمرارها، أما ما ينبغي التركيز عليه أو هكذا يفترض، فينصب على كل ما يضمن الخلود، بما في ذلك الأمور التي تبدو وكأنها أمور دنيوية محضة، مثل طلب العلم والعمل الخيري ومساعدة الناس وإنجاب الأبناء القيام على تربيتهم والإحسان إليهم، كل ذلك مما يحقق الخلود، باعتبار أن ذلك من الأنشطة ذات البعد المنفصل عن الوسائل الدنيوية العاجلة والمحدودة في نتائجها، وهي بالدين ألصق من حيث هي أنشطة لتحقيق غايات بعيدة، وليست لتحقيق مصالح عاجلة وذاتية، فطلب العلم وتعليمه للناس، تبقى آثاره بعد موت صاحبه، والعمل الخيري تبقى آثاره كذلك في واقع الناس، والذرية الصالحة تمد في عمر الإنسان كما يقال.

ومن ثم فإن علاقة الدين بالدنيا علاقة المتبوع بالتابع؛ لأن الله خلق البشر ليعبدوه وليس لشيء آخر، فكانت العبادة أولا، ثم تأتي الدنيا تابعة لهذه الغاية الكبرى التي هي العبادة، اما الدنيا فهي وسيلة لتحقيق تلك الغاية.

ربما نستغرب هذا لأننا تعودنا على إعطاء الدنيا الأولوية، بسبب ضغط المنظومة الفكرية التي تحكم البشر اليوم، وقصر النظر على ما يحقق المصالح العاجلة… ولكن عندما نلاحظ أهمية العمل التطوعي واهمية التضحيات والمضحين واهمية الخلود في الاخرة، ندرك معنى الدين والعبادة وتمتين العلاقة بالله، التي يمثل جوهرها الإخلاص لله سبحانه وتعالى…، وحبذا لو يجمع الإنسان بين الحسنيين فيمتلك الدنيا التي لا تشغله عن الآخرة، ويملأ روحه بكل ما يرضي الله وينفع الناس، وصدق ما قال “اعمل لدنياك كانك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كانك تموت غدا” [أثر ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه].

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!