-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
بعد نصف قرن من رحيل المفكر مالك بن نبي

ابنة شقيقة بن نبي تروي محطات من حياة مفكر الأمة (الحلقة الأولى)

ابنة شقيقة بن نبي تروي محطات من حياة مفكر الأمة (الحلقة الأولى)
ح.م
ابنة شقيقة مالك بن نبي زينب مسقالجي

 خمسون سنة مرّت الآن، على رحيل أحد أعظم رجالات الجزائر، والعالم الإسلامي، مفكر شغل الناس وخدم الإنسانية، ولكنه، للأسف، حمل حقيبته المعرفية مبكرا، وغادرنا، تاركا الكثير من علامات الاستفهام، التي حاولنا أن نفكها مع وريثته، ابنة أخته الكبرى، السيدة زينب مسقالجي، التي استقبلتنا في منزلها الكائن بحي الدقسي عبد السلام بقسنطينة رغم ثقل السنوات.
عمرها الآن، قارب التسعين، فهي من مواليد 1934، تربّت في بيته، فكان مالك- رحمة الله عليه- إلى جانبها قبل الاستقلال، هو خالها ووالدها في نفس الوقت، منه غرفت المعارف، ولأجله غاصت في ذاكرتها، حتى قاربت أعماق ثمانين سنة، في عمق العمر، لتكشف لنا بعض الأسرار والحميميات في حياة مفكر الأمة، وبعض الحسرة تعتصرها أيضا، وهي نفس الحسرة التي وجدناها عليها، منذ عشر سنوات عندما خصت “الشروق اليومي” بحوار من حلقات، نقلته صحف وشخصيات حرفيا، ومازالت تزيّن به صفحاتها، ومنها ما تبنته كما تبنى آخرون أفكار مالك بن نبي ونسبوها لأنفسهم.

خمسون سنة مرت على رحيل خالك المفكر مالك بن نبي ؟
– خمسون سنة، فيها الكثير من الحسرة، الجميع يعلم بأن الرجل سبق عصره وقدّم حلولا لمشاكل كثيرة، ولكننا لم نجن ما غرسه، ما يذهلني، هو الصمت المطبق تجاه من سرقوا أفكاره ونسبوها لأنفسهم، وحتى شخصيات عالمية ودول تبنت ما بذله من جهد، ما كنت أسمعه من خالي عن الاستعمار الحديث منذ أكثر من سبعين سنة، صرت أعيشه، وما زلت متشبثة بأن نغرف من أفكاره كما فعلت أمم كثيرة.

الذكرى الخمسون لرحيل مالك بن نبي تزامنت مع العدوان على غزة الذي تجاوز كل حدود الوحشية؟
– ما لا يعرفه الكثير، أن من أوائل الكتب التي ألفها مالك بن نبي، قبل أيام قليلة من ثورة الجزائر 1954 كان بعنوان المسألة اليهودية، وهو الكتاب الذي أخذ عنوانا آخر، وهو وجهة العالم الإسلامي، قام فيه في جزئه الأول، بتقسيم تاريخ المجتمع الإسلامي، وصولا إلى ما سماه بفوضى العالم الإسلامي الحديث، وحذر من المدّ الصهيوني ومن مشروع اليهود وكيفية توغلهم في مختلف البلدان، وهدفهم إضعاف شوكة الإسلام، صدقني لو عاصر مالك بن نبي الأحداث الأخيرة لكان من الحلول المؤكدة، لأن ما يحدث حاليا هو تصادم أفكار قبل تصادم السلاح.
لا أدري لحد الآن أين اختفى الجزء الثاني من كتاب المسألة اليهودية، لأن فيه أبوابا كثيرة، مثل اليهود والاقتصاد واليهود والمجتمع، نحن في العائلة من زمان قبل حتى احتلال إسرائيل فلسطين عندما نسمع بأي مشكلة نقول بأن سببها هو “السّوسة”، أي اليهود.. وهذا من زمن الثلاثينيات، كان مالك بن نبي يتساءل دائما، كيف نعمل لدين معين، دولة، ثم نهجّر إليها الناس من كل بقاع العالم، باسم الديانة اليهودية، للتذكير، فقط، فإن أول كتاب لمالك بن نبي، هو الظاهرة القرآنية ثم لبيك ثم شروط النهضة وتبعه بالمسألة اليهودية، وهو الكتاب القيّم الذي يتحدث عن مخاطر الصهيونية وعن المشروع اليهودي الكبير، وأعتقد أنه لا أحد فهم اللعبة الصهيونية، مثل مالك بن نبي، كان يتحدث عن الدولة العبرية قبل سنوات من قيامها عام 1948، ولم يقل ذلك في مؤلفاته فقط، وإنما في محاضراته، وأيضا في جلساته الحميمية والعائلية، كان يقول دائما إن الأمور خطيرة وإن القدس يتهددها الخطر، إلى أن أفقنا على فاجعة النكبة الكبرى في ماي 1948 فكانت المأساة الكبرى وتبعتها مآس، وآخرها العدوان النازي على غزة الدائر حاليا في فلسطين.

نعود إلى المفكر الخالد، حدثينا عن مالك وعائلة بن نبي؟
– والد مالك هو الحاج ساعد، الذي كان يعرف باسم عمار، وجده هو ابن الخذير ابن مصطفى، أما أمه التي ارتبط بها كثيرا وكانت قرّة عينه، فهي الحاجة زهيرة بن عيسى، وينتمي من جهة أبويه إلى عائلة قسنطينية عريقة جدا من أصول تركية، واستوطن عدد من عائلة بن نبي مدينة تبسة منذ بداية القرن الماضي، ووالد مالك الحاج ساعد أحب عادات وتقاليد منطقة النمامشة.
ولد مالك بن نبي في الأول من شهر جانفي من سنة 1905 في مسكن يقع بشارع الروتيار بعاصمة الشرق الجزائري، تعرض للهدم منذ عشرين سنة، بحجة إنجاز مساحة لركن السيارات، واشتغل الحاج ساعد والد مالك في التعليم في مدرسة ابتدائية بقسنطينة، وكان مالك هو الطفل الذكر الوحيد لأمه وأبيه فوجد عناية خاصة منهما حتى بعد بلوغه وزواجه مرتين، حيث خصّاه برعاية ذكرها في كتابه الشهير، مذكرات شاهد على القرن، وللمفكر شقيقة كبرى هي والدتي فاطمة التي كانوا ينادونها باسم عتيقة، وولدت في سنة 1902 ولاقت ربها في تونس عام 1982 وأخت صغرى تدعى سكينة، من مواليد 1906 أي أقل من مالك بسنة واحدة، وتوفيت بعد وفاة مالك بن نبي في سنة 1979، وحتى والد المفكر مالك بن نبي، الحاج ساعد توفي في سنة 1977 في مدينة عنابة، عن عمر ناهز الثالثة والتسعين، أي إنه حضر جنازة ابنه مالك.

والدتك فاطمة هي من كان يذكرها في كتابه مذكرات شاهد على القرن؟
– للأسف، خالتي سكينة لم تُرزق بالخلفة، وقامت بتربية طفل، أصبح الآن شيخا يعيش حاليا في مدينة عنابة، أما والدتي فاطمة، فأنجبت سبعة أبناء من بينهم خمس بنات وأنا منهن، أنا الحاجة زينب من مواليد عام 1934، على مشارف التسعين سنة، وابنة السيد عبد الحميد مسقالجي الذي توفي عام 1971، يجب التنويه إلى أن كل عائلة مالك بن نبي دخلت المدارس، وكانت تعتبر التعليم أمرا مقدسا، والذين لم يسعفهم الحظ في التعلم منذ الصغر بسبب الظروف الاستعمارية، أكملوا دراستهم وباللغتين بطرقهم الخاصة بعد الاستقلال، فتجد كل من ينتمي للعائلة، يقرأ ويكتب باللغتين العربية والفرنسية، وتبقى اللغة العربية الملهمة الأولى.

مالك بن نبي هاجر إلى فرنسا عام 1925 أي قبل مولدك ؟
– هجرة مالك بن نبي إلى فرنسا كانت أولا وأخيرا، من أجل الدراسة والتخصص في الكهرباء، وفي زحمة الحياة الأوروبية، تزوّج خالي من سيدة باريسية أصيلة، هي سيليستين بول فيليبون، لم تلبث أن دخلت الإسلام، وأصبحت تعرف باسم خديجة، هي بيضاء البشرة وجميلة جدا، وقد شاهدتها في طفولتي وشبابي منذ أول زيارة لها لبيتنا في تبسة، في سنة 1939 وكنت في الخامسة من العمر، أذكر أنها كانت أول زيارة لمالك قادته إلى الجزائر بعد أربع عشرة سنة من الغربة، ومكث عندنا بعض الوقت ثم اختفى نهائيا وانقطعت أخباره، من سنة 1939 إلى سنة 1946 حتى إن والده الحاج ساعد، صار يأتي إلى أمي فاطمة، ويقول لها عليك أن تنسي أنه كان لك أخ، أما خالتي الصغرى سكينة، فلم تصبر على فراقه، فراسلت في الأربعينيات السلطات الفرنسية وطلبت معرفة مصيره، فبوشر البحث عنه، لنعلم بأنه كان موجودا في ألمانيا، وبالضبط في السجن من أوت 1945 إلى شهر أفريل 1946 بسبب محاضرة ألقاها في فرنسا عام 1933 بعنوان “لماذا نحن مسلمون؟”، حضرها اتحاد الشباب المسيحيين، وعملت ضجة كبرى، فبدأ البحث عنه، في كامل أوربا بمذكرة بحث فرنسية، في الوقت الذي تنقل للعيش مع زوجته خديجة إلى ألمانيا.

هل كان فعلا من الأوائل الداعين للثورة ؟
– كان يقول لوالدتي أي شقيقته الكبرى فاطمة باللهجة القسنطينية الدارجة: “العرب، القمّل مكبّش فيهم وهوما مكبشين في الحياة”، كان يحزنه خمول الناس، وعندما تحرك الشارع التونسي في الثلاثينيات، صار يقول لها: “الآن تعلم العرب كيف يمسحون أنوفهم”، كان مفتونا حتى بالمختلين عقليا في مدينة تبسة ومنهم المجنون المسمى “تيرار” الذي كان يسكر، ثم يضرب الفرنسيين بزجاجات النبيذ، فكان مالك يعود إلى البيت منتشيا فرحا، ويبقى يروي الحادثة، وهو يقول: يا ليتني كنت أنا هو “تيرار”، حتى أمارس ضرب الفرنسيين، ومع مرور الوقت صار يقوم بتوزيع المناشير في المدرسة التي يُدرّس فيها الشيخ العربي التبسي وفي المساجد، كانت هذه المناشير تتحدث عن أحدث الثورات التي اندلعت في العالم.

متى دخل السجن في الجزائر؟
– أظنه في سنة 1951 عندما زارنا في منزلنا بتبسة مفتش شرطة من أصل جزائري، نصح مالك بن نبي بترك المنزل، والاحتياط لما يخبئه له الفرنسيون، وأخبره بأنهم سيفتشون المنزل، وباشر مالك بن نبي جمع أشياءه، وأخفى كل الوثائق وراديو صغير عند أمه زهيرة، وكانت هذه الوثائق اختراعات في مجال تخصصه، في الكهرباء والميكانيكا، وأسرّ لأمي ولي أيضا، بأن نحتاط لأي طارئ، فإذا لم يطلقوا سراحه بعد التحقيق معه في سكيكدة خلال ثلاثة أيام، فعلينا أن نمزق ونحرق وندفن كل الوثائق، وفعلا لم يطلق سراحه لمدة فاقت ثلاثة أيام، وباشرنا حينها حرق تلك الوثائق.

هاجر إلى باريس للدراسة فتزوج من فرنسية ؟
– الزواج كان في سنة 1932 بقراءة الفاتحة على الطريقة الإسلامية، وتم توثيقه في أفريل من سنة 1935، راسل أمه بعد أن أتمّ الزواج دون أن يعلمها، وقال لها: لقد قررت يا أمي أن أتزوج فما رأيك؟ فاشترطت عليه أن تكون زوجته طويلة القامة، ففرح مالك بن نبي، وأرسل لها صورة زوجته خديجة الجميلة الطويلة القامة، وكانت والدته زهيرة متشوقة لرؤيتها، وعندما أدت مناسك الحج بالأراضي المقدسة سنة 1936 أحضرت لها مجموعة من الألبسة من الحجاز وخبأتها لأجلها، وكانت تنتظر بشوق لترى زوجة ابنها الذكر الوحيد، ولكن للأسف حدثت المصيبة التي أحزنته، عندما رجع خالي مالك إلى تبسة عام 1939 رفقة زوجته الفرنسية خديجة، وفي محطة قطار مدينة تبسة أدهشه تواجد جمع غفير من المنتظرين، إلا والده الحاج ساعد، فراح يسأل عن صحة والده ليخبره المدعو الصادق بوذراع الذي أصبح والده وزيرا بعد الاستقلال، بأن والدته زهيرة توفيت منذ ثلاثة أيام فقط، ووالده منشغل بتلقي العزاء، والحكاية موجودة في كتاب مذكراته، حيث كان أحزن خبر سمعه في حياته، فأصيب بوهن شديد، وحزنت لحزنه زوجته الفرنسية خديجة التي أحبت الجزائر كثيرا وطلبت من مالك أن تستقر هنا، كانت جزائرية أكثر من الجزائريات، ترتدي الملاءة القسنطينية السوداء، وتعلمت طبخ الكِسرة، وما عرفته عنها أنها باريسية ووحيدة أمها، التي كانت تسكن بالضاحية الباريسية، كانت مختصة في الديكور ووالدها متوفى، تعرفت على خالي بالصدفة في مكتبة للمطالعة بباريس، كان كلما طلب كتابا قيل له إن قارئة أخذته، وكلما طلبت هي كتابا قيل لها إن قارئا أخذه، اهتما معا بمعرفة هذا الثاني الذي يتوافق مع الآخر، فكانت قصة تعارف، فحب، فزواج، ظل قويا إلى أن توفيا في نفس العام، بعد عِشرة بمرّها وحلوها دامت قرابة الأربعين سنة، وللأسف لم تنجب أطفالا، ويبيّن محضر الزواج الذي اطلعت عليه “الشروق اليومي”، بأن الشهود هم المغربي محمد الفاسي والتونسي الحبيب تامر الذي قضى في حادث تحطم طائرة في كراتشي، وجزائريان هما صالح بن ساعي وعلي الحمامي، إضافة إلى أصدقاء مسيحيين، استقدموا معهم جوقا موسيقيا، وقامت خديجة في حفلة زفافها من المفكر مالك بن نبي، بطهي الكسكسي وتحضير السلطة للمدعوين، أما عن تاريخ اعتناقها الإسلام فلا أحد يعلمه.

وفاء متميز.. لكن المفكر بن نبي أعاد الزواج من جزائرية؟
– الخِلفة هي السبب الأول، بعض أفراد العائلة كانوا يترجون مالك إعادة الزواج، هو الابن الذكر الوحيد في عائلة بن نبي، وقد يزول لقب بن نبي إن لم يرزق خالي بالابن الولد، رجاؤهم لم يتوقف عند الطلب بل باشروا اختيار زوجة سبق لها الزواج من تبسة، تدعى السيدة خدوجة حواس، رحمة الله عليها، لها ابن يدعى مقداد مازال على قيد الحياة ويقطن بالجزائر العاصمة، حتى يضمنوا الخلفة التي ينتظرونها. والزواج حدث في عام 1961 وكان حينها مالك بن نبي في السادسة والخمسين من العمر، قبل استقلال الجزائر ببضعة أشهر، عندما كان مقيما في العاصمة المصرية، وكانت زوجته الفرنسية في باريس، قبِل الاقتراح العائلي وتم تسفير زوجته إليه إلى القاهرة، وتم عقد القران في العاصمة المصرية، وحتى زواجه الثاني لم ينجب منه الذكور، ومع ذلك كانت نعمة الله، التي أفرحته وجعلته يقضي أياما رائعة، حيث رزقه الله بتوأم من البنات، اختار لهما اسمي نعمة وإيمان وهما من مواليد أفريل 1962 ثم رُزق بطفلة ثالثة سماها رحمة، عاش معهن طفولتهن، وتوفي وهن دون العاشرة من العمر، ولكنهن كن متشبعات بالقيم، وبعد ذلك أخذت حياتهن اتجاها آخر حيث تزوجت التوأم من شقيقين سوريين، وتزوجت رحمة أيضا من سوري، وهاجرن جميعا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد توفيت ابنته نعمة بداء السرطان في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2002.

خديجة الفرنسية توفيت أسابيع قليلة قبل وفاته؟
– حبه لزوجته الفرنسية خديجة كان كبيرا، فقد قال لزوجي محمد موساوي، مرة عندما توفيت زوجته الفرنسية خديجة، “أحسست بيتم آخر بعد يتم وفاة والدتي بعد رحيلها”، رغم أنه بقي هنا في الجزائر وهي لم تزر الجزائر منذ 1939، ولكن الذي قرأ جزأي كتاب مذكرات شاهد على القرن، يدرك مدى ارتباطه بالسيدة خديجة التي بقيت وفية له ولم ترد إحراجه منذ أن أعاد الزواج، وصار له ثلاث بنات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!