-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

احذر أن تكون معاقبا وأنت لا تشعر!

سلطان بركاني
  • 1727
  • 0
احذر أن تكون معاقبا وأنت لا تشعر!

يُروى في الأخبار القديمة أنّ رجلا من بني إسرائيل، كان مسرفا على نفسه بالمعاصي، والله -جلّ وعلا- يعافيه ويرزقه، فسأل الله يوما: يا رب، كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبيّ ذلك الزّمان أن قل للرجل: “كم أعاقبك ولا تدري! أليس قد حرمتك حلاوةَ مناجاتي؟”.. كان الرّجل يظنّ أنّ العقوبة لا تنزل إلا بلاءً ظاهرا في البدن أو المال أو الأهل والولد، فلمّا لم يصبه شيء من ذلك ظنّ أنّه معافى، وهو قد عوقب بحرمانه من أعظم نعمة في الدّنيا وهي حلاوة مناجاة الله والتذلّل والفقر له.
حال هذا الرجل من بني إسرائيل قديما، هي حال كثير منّا في هذا الزّمان، إذا سلم لأحدنا راتبه أو ربحه من تجارته، وسلمت له سيارته، وسلم له أبناؤه، ظنّ أنّ الله لا يعاقبه على المعاصي التي يقيم عليها العبد بالليل والنهار.. يظنّ أنّ العقوبة هي أن تنزل به مصيبة في بدنه أو ماله أو أبنائه، ولا يدري أنّ العقوبة قد تكون أعظم من ذلك، قد تكون قسوة في القلب وحرمانا من الطاعة ومحقا للبركة وتشتتا للشّمل وقلة في التوفيق وفسادًا في الرأي.. يعاقب العبد بقلب قاس لا يؤثّر فيه القرآن ولا تحرّكه المواعظ ولا أخبار الموتى ولا مشاهد الجنائز والقبور، ويعاقب بضيق صدره من العبادة، فتصبح ثقيلة على نفسه، يقوم إليها متثاقلا ليتخلّص منها ويلقيها عن ظهره.. قد يعصي العبد مولاه بالنظر إلى الحرام فيعاقبه الله بحرمانه من الاستيقاظ لصلاة الفجر، ويحرمه لذّة حثّ الخطى إلى بيت الله في ظلمات الليالي. يحرمه صلاة الجماعة، فلا يدخل المسجد إلا يوم الجمعة، وهو يظنّ أنّه لا يصلّي في المسجد لأنّه معذور أو لأنّه مشغول، بينما هو يعاقب ولا يشعر.. يُحرم قيام الليل، يحرم الصيام فلا يصوم إلا رمضان على مضض. يُحرم لذّة الصدقة فلا يُخرج من جيبه دينارا ولا درهما إلا حياءً من النّاس. يحرم لذّة تلاوة كلام الله سبحانه ومتعة ثني الركبتين أمام كتاب الله. يُحرم لذّة ذكر المولى سبحانه ومناجاته. يثقل لسانه عن الدّعاء؛ يريد أن يدعو الله ولكنّ لسانه لا يطاوعه كأنّما هو جبل لا يتزحزح.. يُحرم أجر البرّ بوالديه، فلا يراهما إلا عبئا ثقيلا على كاهله يشغلانه عن التمتّع بدنياه مع زوجته وأبنائه، ويستعجل رحيلهما عن الدّنيا.
يعاقب العبد بحرمانه من الطّاعة، وربّما يعاقب بذهاب البركة من ماله ووقته وعمره؛ يكسب من الأموال الكثير لكنّه لا يشعر كيف تخرج من جيبه ويده. في آخر الشهر يحسب كم أنفق فيجد نفسه قد أنفق الملايين ولا يرى لها أثرا، ولعلّه يقول: “أنا مسحور أو محسود”، وينسى ذنوبه ومعاصيه، ينسى أنّه يعاقب بسبب لقمة الحرام التي يأكل وبسبب نظرة الحرام التي يقلب في العورات، وبسبب حقّ الجار الذي أخذه وحقّ القريب الذي جحده!
تنزع البركة من وقته، فلا ينتفع بساعات يومه، بل تمضي وتذهب في غير ما ينفعه: جلسات قيل وقال، وتصفحٌ لفُتات الفايسبوك ومواقع التواصل، وهكذا.. سنوات عمره تتعاقب وهو لم يقدّم شيئا لآخرته ولا لدينه، وربّما لم يقدّم شيئا لدنياه غير الأكل والشّرب والنّوم.
يعاقب العبد على معاصيه وذنوبه بقلّة التوفيق، فلا يبدأ مشروعا حتى يفاجأ بالفشل، ولا يطرق بابا إلا وجده مغلقا. يظنّ أنّ السبب هو سحر السّحرة وحسد الحاسدين، وهو الذي أتي من ذنوب الليل والنهار، أتي من إضاعة الصّلاة والبخل بالصدقات وهجر كتاب الله والنّظر إلى الحرام وأكل الحرام.
يعاقب العبد المقيم على المعاصي بتسلّط الهموم والغموم والأحزان، فلا تراه إلا وهو يشكو: “كرهنا.. ديقوتينا”، عنده من المال ما يكفيه، معافى في بدنه، يأكل ما اشتهى، لكنّ الهمّ والغمّ يملآن قلبه وصدره، وجهُه مكفهرّ وبدنه مثقل.. وأكثر من هذا ربّما يحرم اجتماع الشّمل، فلا يجتمع مع أهله وأبنائه على خير. الخصومات في بيته لا تنتهي حتّى تبدأ من جديد، والخلافات في كلّ ساعة… كلّ هذا بسبب ذنوبه ومعاصيه وهو يظنّ أنّ المشاكل التي في بيته هي بسبب العين والحسد والسّحر!
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “وكما أن للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، فإن للسيئة في المقابل سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق”، ويقول: “وكذلك فإن المعاصي تورث قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وخمول الذكر، وإضاعة الأوقات، ونفرة الخلق، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، وحرمان العلم، ولباس الذل، وضيق الصدر، والهم، والغم، وهكذا تتوالد هذه الآفات بسبب المعاصي، والحرمان من السعة في الرزق بسبب الذنوب أمر واضح، فإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه”.
لأجل هذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه وينظر في حاله ويبحث عن الذّنوب والمعاصي التي بسببها تسلّطت عليه الهموم والغموم وبسببها كثرت المشاكل والخصومات في بيته، وبسببها تتابعت عليه المصائب، وبسببها حرم البركة في ماله، وبسببها ضاع أبناؤه وأصبحوا شياطين يمشون على الأرض يحصدون له اللعنات، وبسببها أصبحت زوجته تستهين بحقّه ولا تطيعه وترفع صوتها في وجهه ولا ترضى بشيء يفعله، وبسببها نزعت البركة من ماله، وبسببها تضيع ساعات عمره من دون فائدة… يبحث عن الذّنوب التي بسببها حرم صلاة الفجر في وقتها، وحرم التبكير لصلاة الجمعة، وحرم الحرص على الرواتب والنوافل، وبسببها بخلت نفسه بالصدقات، وبسببها ما عاد يستطيع الصبر على تلاوة القرآن ولو ربع ساعة.
حتّى ولم سلم العبد من كلّ عقوبة، فينبغي له أن يفتّش نفسه وينظر في حاله، ويبحث في حياته عن كلّ عمل لا يحبّه الله ولا يرضاه، فلا يأمن العبد أن يستدرجه الله بذنوبه ويمهله إلى آخر لحظة في حياته، فينزل به عقوبته، ويختم له بالسّوء. يقول أحد العلماء: “الواجب على العاقل أن يحذر مغبَّةَ المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة ثم فَجَأت، فمن الاغترار أن تسيء فترى إحسانًا، فتظن أنك قد سُومِحت؛ وتنسى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، وقد تتأخر العقوبة وتأتي في آخر العمر، فيُهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب، ولا يُدرى أن ذلك لإهماله حق الله تعالى في شبابه، فمتى رأيت مُعاقَبًا فاعلم أنه لذنوب، فبادِرْ بإطفاء ما أوقدتَ من نيران الذنوب، ولا ماءَ يطفئ تلك النار إلا ما كان من عَين العَين” ا.هـ
أعظم عقوبة أن يعاقب العبد في آخر عمره، فيكسى رداء الذلّ والهوان، ويسلّط عليك الخلق، ويحرم التوبة، حتى ولو أراد التوبة فإنّه لا يستطيع ولا تطاوعه نفسك، ويظلّ مقيما على المعاصي والذّنوب لا يرعوي ولا يرتدع في أرذل العمر، حتى يعجب النّاس من حاله ويتعوّذوا بالله من مآله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!