-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأستاذ الباحث اللغوي بلقاسم ساعي يرحل عن دنيانا

الأستاذ الباحث اللغوي بلقاسم ساعي يرحل عن دنيانا

صحبتُ الأستاذ الدكتور بلقاسم ساعي طيلة وجوده معنا في كلية العلوم الإسلامية مدة عقدين من الزمن1996- 2015م، وبقيت على صلة وتواصل معه حتى بعد تقاعده سنة 2015م وتعاملت معه وسافرت معه مرات إلى مصر الشقيقة وأقمنا معا في شقة واحدة مددا من الزمن.. واستدنت منه وخبِرته عن كثب، وشاركنا في مؤلَّف جماعي عن منهجية البحث في العلوم الإسلامية رفقة مجموعة من أساتذة وأكابر الكلية رحمهم الله وحفظ من تبقى منهم..
هو والله نعم الأستاذ والمربي والأديب والمفكر واللغوي الهادئ جدا، والبعيد عن سفاسف الأمور، ذو همة عالية وحس حضاري متميز.. غيور على لغة الضاد ومقومات الهوية الوطنية الجزائرية، وباحث متميز ورصين ومقتدر..
ووفاء لذكراه الطيبة أكتب هذه النبذة المختصرة عنه من سيرته الذاتية التي خطها بيمينه وترصّع بها الكتاب الموسوعة الذي أعددتُه رفقة أخي الأستاذ الدكتور الشيخ عبد الباسط دردور حفظه الله ورعاه، (معجم تراجم وسير أعلام الأوراس، تحت الطبع، ج 2، ص 411 .. 443، بتصرف).
وُلد الأستاذ الدكتور بلقاسم بن عليّ المدعو ميلود مبروك ومسعودة بنت الصالح طرابسة، حسب شهادة ميلاده رقم 853، بتاريخ 20 أفريل 1949 بدوّار بومقّر التابع لبلدية نقاوس من دائرة بريكة بولاية الأوراس سابقا. وقد تزوّج والده من ابنة عمه التي أنجب منها أربعة أولاد نال واحدٌ منهم فضل الشهادة في سبيل الله أثناء الثورة التحريريّة بانضمامه لصفوف جيش التحرير في منطقة الأوراس.
وقد درج رحمه الله صغيرا في ريف بومقر، وفي السادسة من عمره انتقل إلى أخواله من أجل الالتحاق بالكُتّاب، وشرع في حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ المعلم (الطاهر فلاحي) في دوار (لحْنانشة)، وبعد عامين تحوّل الكتّابُ إلى مكان آخر يُدعى (امْعَيْزَة) لأسباب أمنيّة؛ بعد اندلاع الثورة التحريرية المباركة، ومما يزيد هذا المكان شرفا أنه كان نقطة عبور لقوافل المجاهدين القادمين من جبال الأوراس تجاه جبل على حدود ولاية سطيف.
ويروي الفقيد رحمه الله عن طفولته أثناء الثورة التحريرية قائلا: ((.. هكذا دأبتُ على الذهاب يوميا إلى هذا الكتّاب مشيا على الأقدام في الغالب، ولكن الذي مازلت أذكره أني أجد نفسي أرافق أهلي نساء ورجالا إلى هذا المكان ليلا لحضور الاجتماع الذي ينظمه أفراد من جيش التحرير وبعض الفدائيين والمتطوعين لتوعية المواطنين وتوجيههم إلى طريقة التعامل مع العدو، وتجنّب شره، وكان المشرفون على هذه التجمعات اللّيليَّة يُلقون الخطب الحماسية، ويشجعون الشباب على إلقاء الخطب بحضور أوليائهم، واذْكر أنّي دُعيت -على صغر سنّي- لإلقاء كلمة، ولم تكن هذه الكلمة سوى موضوع عن العام الجديد مقتطف من كتاب مطالعة يسْتغله المؤدّبون في تعليمنا بعض مبادئ العربيّة موازاة مع حفظ القرآن الكريم، وحظي الإلقاء الذي قمتُ به بتصفيقات حارة، وترك نشوة كبيرة لدى أهلي وأترابي وبخاصة والديّ الكريمين. ومازلت أتذكر أنّي ذهبت مع أهلي إلى موضع يدعى (بورقبة) يقع أسفل الجبل لمشاهدة نزول المجاهدين من الجبال للاحتفال بميلاد النّصر والاستقلال يوم 05/07/1962م..)).
وبعد الاستقلال لم تكن هناك مدارس في القرى، عدا الكتاتيب القليلة الّتي كانت موزعة في القرية، وبعون الله فقد كان من بين خمس تلاميذ تم انتقاؤهم من أجل إيفادهم إلى المعهد الإسلامي بباتنة الذي كان يديره الشيخ الفاضل المجاهد والعالم الرباني (عمر دردور. ت 2009م)، وكان ذلك ربيع سنة 1963م. وبعد الاختبار وُضع في مستوى السنة الأولى تكميلي فيما يقابل مرحلة التعليم المتوسط حاليا ومن أجل إعداد شهادة الأهلية، وكان يشرف على التدريس ثلّة من علماء الأزهر الذين قدِموا في بعثة من أجل نشر اللغة العربيّة في الجزائر، وكان طلبة المعهد الإسلامي يتلقون دروسًا في العلوم اللّغوية والشرعية والجغرافيا والتّاريخ وقليل من العلوم الطبيعيّة والرياضيات بما تتفرّع إليه من هندسة وجبر.. وفق مقرّرات المدارس الأزهرية في مصر.
ويضيف الراحل قائلا: (.. وقد درست في المعهد الإسلامي السنة الأولى والثانية والثالثة وختمتها بالسنة الرّابعة وهي السنة الحاسمة التي اجتزت فيها شهادة الأهلية التي تمنحها وزارة الأوقاف آنئذٍ، وظهرت النتائج في نهاية جوان سنة 1966م بواسطة الإذاعة الوطنيّة، ومازلت أتذكّر أنّ والدي قد أيقظني من النوم ورسم على جبيني قُبلة وهنَّأني بالنّجاح. وسُلّمت لي فيما بعد شهادة مؤقتة بتاريخ 16/08/1966م تحت رقم 53.
بعد تخرّجه من المعهد الإسلامي يحمل شهادة الأهلية سنة 1967م تم توظيفهم في درجة معلم مساعد في التعليم الابتدائي. والتحق بالمدرسة المختلطة ببلدية الجزّار (مشتة المعذر) وانتقل بعدها للمدرسة الابتدائية ببلدية برهوم.
ومع اضطلاعه بمَهمّة التعليم، تابع دراسته بالمراسلة ونال شهادة البكالورية سنة 1971م في شعبة الآداب، وقدّر الله له أن يحضر فعاليات ملتقى الفكر الإسلامي الخامس الذي عُقد بوهران شهر جويلية 1971م، وكانت محاور الملتقى هي: محور الأسرة وقضايا المرأة، ومحور اللّغة والثورة الثقافية، ومحور الاقتصاد مع السؤال عن البترول: أنعمة هو أم نقمة؟ وهناك التقى كبارَ مثقفي العالم العربي والإسلامي والجزائر أمثال عثمان أمين ومالك بن نبي ومولود قاسم وزيغريد هونكة وعبد العزيز الحبابي وشاعر الجزائر مفدي زكريا والشيخ أحمد حماني. في حين كان الطلبة في القاعة يردّدون لازمتَها المشهورة بقولهم:
شغلنا الورى وملأنا الدّنا
بشعر نرتّله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر
يروي الأستاذ بلقاسم عن حضوره فعاليات ملتقى الفكر الإسلامي قائلا: ((..كما استفدت من معرض الكتاب المقام ببهو قصر المؤتمرات بنادي الصنوبر، واقتنيت بعض الكتب المعروضة، ومنها كتاب تاريخ الجزائر العامّ للمؤرخ عبد الرحمن الجيلالي والذي اتصلت به والتمست منه أن يخط لي عبارة إهداء، فما كان منه إلا أن كتب لي: “أفتخر بالشباب الذي يمثله لي بلقاسم ساعي وأتمنى له ولأترابه كل نجاح”.
كما حضر أشغالَ ملتقى الفكر الإسلامي السادس، وفي هذا الملتقى حظي المشاركون باستقبال الرئيس هواري بومدين في قصر الشعب، وقد رأى الرئيس عن قرب. وآخر ملتقى شارك فيه هو ملتقى ورجلان بمدينة ورقلة، وزار مع ضيوف الملتقى مدينة غرداية التي شعر فيها أنّه في بلاد الحجاز للشّبه الموجود بين الحاضرتين.
وفي العام الجامعي 1971/1972م سجّل في جامعة قسنطينة بكلّيَّة الحقوق والعلوم الاقتصادية، وصار أستاذا في إكمالية نقاوس في العام نفسه. ثم عاد إلى مدرسة حَسُّون ببومقر مسقط رأسه، ولم يوفّق لمتابعة الدراسة الجامعية بقسنطينة لبُعد المسافة. وبعد انقضاء عام دراسي بحسّون ترشّح للالتحاق بالمعهد التكنولوجي لتكوين أساتذة التعليم المتوسط في مدينة قسنطينة في العام الدراسي 1972/1973. ولم يستطع إكمال دراسته بها بسبب كثافة البرنامج الدراسي في المعهد التكنولوجي. وبعد دراسة عام في مدينة قسنطينة تخرّج في نهاية السنة بالحصول على شهادة الأستاذية في التعليم المتوسط تخصص أدب عربي، وعلى إثر ذلك تم تعيينه في تكميلية نقاوس للموسم الدراسي 1973/1974. وظل يعمل في التعليم المتوسط منذ يوم 17 سبتمبر 1973 إلى غاية الفاتح من سبتمبر 1985.
تزوَّج الراحل ابنة شهيد شهر مارس 1981م تُدعى رقية مرازقة، وهي الوحيدة لدى والدها مع أربعة ذكور. جمعته بها أيام سعيدة؛ لأنها تدرك واجباتها وتعرف معنى المسؤولية، وقد رُزق منها خمسة أبناء ذكور وأربع بنات وهم حورية وسمية والطاهر وغزالة ونور الهدى، وكلهم بالمستوى الجامعي في تخصصات الإعلام الآلي والتاريخ والهندسة المعمارية والطب والصيدلة. وكان من أفضال هذه الزوجة عليه أنها يسّرت له الدراسة في الجامعة والحصول على الدكتوراه.
واستفاد من قرار الترقية المتمثل في الانتداب إلى جامعة باتنة في السنة الدراسية 1985/1986 في معهد التعليم العالي للغة العربية وآدابها، وتخرّج عام 1989-1990م. وصار أستاذا في التعليم الثانوي بثانوية متقن مروانة.
وفي سنة 1991م، شارك في مسابقة الدخول إلى السنة الأولى ماجستير مرحلة ما بعد التدرّج. وأُعفي من المسابقة رفقة الطالب عبد الحميد علاوي لتصدّر كل واحد منهما شعبته.
وأتم دراسته العليا سنة 1993م وسجّل موضوع الرسالة وعنوانها: أسلوب الاستثناء في القرآن الكريم دراسة نحوية تحليلية مع الأستاذي الفاضل الدكتور السعيد هادف حفظه الله. وأعانه الكثير من الأساتذة في إنجاز بحثه على عادة المشرفين والطلبة القدامى مثل الأستاذ الدكتور عبد الهادي الفضلي المتخصص في اللغويات بإيعاز من أستاذي الدكتور عبد الباقي الخزرجي من جامعة باتنة. الذي اعتبره مشرفي الثاني.
وبعد أربع سنوات من البحث تمّت مناقشته في مدرج الآداب يوم 2 جويلية سنة 1996 من قبل لجنة المناقشة والتحكيم ونال به تقدير مشرّف جدًّا مع تهنئة اللجنة.
صار أستاذا جامعيا مساعدا بالمعهد العالي للعلوم الإسلامية بباتنة بتاريخ 30 أكتوبر 1996م تحت إدارة الأستاذ الدكتورمحمد خزار رحمه الله. ت 2007م. وكان والله نعم الأساتذة الذين عرفتهم كلية العلوم الإسلامية.
وقد تقاعد عن العمل شهر أكتوبر 2015م. بعد أن ترك أثرا تربويا وتعليميا بارزا وثلاثة مؤلفات والعديد من المقالات والأبحاث اللغوية والأدبية والدراسات القرآنية. وقد توفي يوم الاثنين 23/جمادى الآخرة/1445هـ الموافق 08/01/2024م، بعد مرض عضال ألم به منذ خمس سنوات.. ولطالما كنت أتصل به هاتفيا وأطمئن على صحته ونتناقش في الكثير مما أكتبه وأنشره على صفحات الجرائد اليومية الجزائرية.. وشُيّعت جنازته في موكب مهيب بمقبرة نقاوس، فليرحمه الله في الخالدين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!