-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإمام المغيلي والحوكمة واستقرار المجتمعات الإفريقية

الإمام المغيلي والحوكمة واستقرار المجتمعات الإفريقية

لعلّ من أهمّ مرجعياتنا العلميّة في الجزائر شخصية الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي، رحمه الله، الّذي تبوّأ مكانة علميّة عالية بين معاصريه من العلماء؛ وسجلّ تاريخا حافلا بجلائل الأعمال، في بلاده وفي الجوار الإفريقيّ؛ إذ كان له حضور فاعل، وقدّم الكثير للمجتمعات الإفريقية، من أجل وحدتها واستقرار ممالكها وأوطانها؛ وترك من بعده جميل الذكر وطّيب الأثر.
لقد حباه الله بالفهم وسعة العلم؛ وكان محلّ تقدير وإكبار من أئمة أعلام، نعتوه بأوصاف تدلّ على عظمته وجلال قدره؛ وقد ذاع صيته في كثير من المناطق؛ إذ اقترن اسمه بواحة تمنطيط، وأرض توات، ومناطق السودان الغربيّ، وتكرور. ولا نجد كتاب تراجم أو نوازل أو تاريخ يخلو من ذكر اسمه على رأس شيوخها وعلمائها وأعيانها والمصلحين فيها. كان المغيلي رجل علم ومعرفة. وكان من أجلّ شيوخ التربية. وله منهج متميّز في الدعوة والإصلاح، ورد في بعض وصاياه قوله لمريده: “… أوصيك بتقوى الله، وبالحذر والعزم، والتخفيف بما استطعت. واعلم أنّ الله هو الرزّاق؛ وإنّما الأسباب على الأرزاق كالقناديل على الأطباق. فخذ من الأسباب بأحسنها وأحلّها وأهونها، متوكّلا على الله، راضيا بقضاء الله “. وفي وصية أخرى جاء قوله: “إنّ الخير كلّه في التقوى، والشرّ كلّه في الهوى. اصبر ولا تضجر، فإنّ الله مع الصابرين بقوّته ونصره. ارحموا من بأيديكم من رعيتكم، فإنّ الرحماء يرحمهم الرحمن. ومن لا يرحم عباد الله يخاف على نفسه أن لا يرحمَه الله”. “ثمّ قال: “النصيحة مُرّة، لا يقبلها إلاّ من أراد اللهُ به خيرا. انصحوا واقبلوا النصيحة؛ فإنّ الدين والدنيا على النصيحة؛ من قبِلها صلح دينه ودنياه؛ ومن ردّها فسد دينه ودنياه”.
إنّ الأمّة، منذ فجر تاريخها الإسلاميّ، تعارفت على احترام علماء الدين، وتوقيرهم؛ لأنّهم حملة الشريعة، وحرّاس تعاليم الدين. والأمّة الواعية هي التي تعرف للعلماء فضلهم، وتحفظ عهدهم. وتَقدِّرهم حقّ قدرهم، وتحيي ذكراهم، ليعرف الناس مآثرهم، ولتقتدي الأجيال بسيرتهم وأعمالهم. ولا كرامة للأمّة، إذا لم يكن علماؤها في موطن التقدير والاحترام؛ وإذا هي لم تحفظ حقوق علمائها الذين يخدمونها في أقدس مقدّساتها؛ ألا وهو دينها، مصدر عزّتها، وضامن وحدتها وقوّتها.
والعلماء الربّانيون هم ورثة علم الرسالة، وخلفاء صاحب الرسالة، صلى الله عليه وسلم، المتّبعون لهديه، المحيون لما مات من سنّته. ومَثلُهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، والإمام المغيلي خير مثال لأولئك الأخيار من العلماء الربّانيين، الذين كانوا مرابطين في هذه القلاع الحصينة؛ فذادوا عن عقيدة الأمّة وقيمها الروحية، ومقوّمات شخصيتها الإسلامية؛ ومثّلوا في مجتمعهم قيم الإسلام السّامية ومبادئه السمحة؛ كما مثّلوا في الأمّة مرجعيتها الدينية الجامعة، الّتي أنعم الله بها على شعوب المغرب وأقطار إفريقيا، التي عاشت الإسلام منذ أن أنارها الله بهدايته، في عقد الأشعريّ وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السّالك؛ وكانت لها هذه المرجعية، عبر الأجيال، حصانة ذاتية، وصمام أمان من التطرّف والغلوّ في الدين، ومن أضرار التشرذم المذهبيّ، والتفرّق الطائفيّ.
لقد اشتهر المغيلي بوصف الأشعري. والعقيدةُ الأشعرية هي عقيدة السواد الأعظم من المسلمين؛ فهي عقيدة أهل السنة والجماعة. ومن أهمّ مميزاتها الوسطية؛ فقد عُرفت بتوسّط فكرها بين مدرسة النقل ومدرسة العقل. والمنهج الصحيح، بلا ريب، هو الذي يجمع بين نور الشرع وأداة العقل، باعتبار العقل سبيلا إلى استنباط الأحكام التشريعية، وإدراك مقاصد الشريعة وغاياتها السّامية.
والمذهب السائد في هذه البلدان هو مذهب الإمام مالك، رحمه الله. ومن فضل الله علينا أن اختار لهذا الجزء من العالم الإسلامي، في بلدان المغرب وإفريقيا، أن تتوحّد شعوبها، في عباداتهم ومعاملاتهم، على مذهب إمام دار الهجرة؛ فقد اتّسم المذهبُ المالكي بالتوسّط والاعتدال، وهو منهج الإسلام؛ وعُرفت المدرسة المالكية، في مناهج تعليمها، بالعمل لتوحيد أهل المغرب، عقيدة وفكرَا، ومذهبا وسلوكا. واستطاعت أن تعرّب لسانهم، وتوحّد لغتهم الدينية والعلمية. لقد كانت مدرسة واحدة موحّدة المنهج واللغة والفكر؛ تؤثّر في تربية الناس، وتوحّد سلوكهم، وتؤثّر في علاقاتهم وتعاملاتهم الاقتصادية والسياسية، وفي علاقاتهم مع غيرهم من المسلمين؛ كما تؤثّر في نظرة الناس إلى الكون والحياة والإنسان.
ومنهجنا في السلوك والتصوّف السنيّ هو طريقة الإمام الجنيد. والتصوّف، بصورته الناصعة، هو روح الإسلام، وحقيقة الإيمان، ومقام الإحسان. إنّها الحياة الإيمانية الراقية، التي ترتفع بالإنسان المخلوق إلى معرفة خالقه، وعبادته ومحبّته، وإيثاره على كلّ ما سواه، عن طريق تزكية النفس، ومجاهدتها في الله، حتى يهديها سبيله، وتنتصر على أهوائها وشهواتها الظاهرة والباطنة، ولا فلاح للنفس البشرية إلاّ بالتزكية كما قال الله تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا”. الشمس/9.8.7. وقال تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ”. العنكبوت/69.
إنّه المنهج الربّاني الّذي يوازن بين المادّة والرّوح؛ بل يتجاوز الماّدة إلى الرّوح، والدّنيا إلى الآخرة؛ وتتحقّق به الحياة الإسلامية المتوازنة، وترتبط برسالته الحياة الروحية بالحياة الاجتماعية.إنّ الإسلام، بلا جدال، هو أعظم دين أغنى الحياة الرّوحية، ورسم معالمها، ووضع لها أسسها ومقوّماتها. وقمّة الحياة الرّوحية تتجلّى في سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المثل الكامل للسّموّ الرّوحيّ، والعظمة الأخلاقية، والترقّي في مدارج الكمالات الإنسانية. فهو خير من وازن بين متطلّبات الرّوح ومطالب الجسد، بين حقوق الله وحظوظ النفس، بين المثال والواقع؛ ومن بعده خلفاؤه وأصحابه الّذين تخرّجوا من مدرسته، واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه؛ وبعدهم تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم الّذين اتبّعوهم بإحسان. أولئك الأخيار الّذين كانوا يعبدون الله ويتّقونه حقّ تقاته؛ وكانوا، على تقواهم واستقامتهم، يخشون ربّهم ويرهبونه، وكأنّ النار لم تُخلَق إلاّ لهم؛ يبتغون فيما آتاهم الله الدّار الآخرة، ويحثّون إليها مطاياهم؛ ويجعلون من رضوان الله غايتهم ومناهم.
إننا نربط الماضي بالحاضر؛ ونتحدّث عن تحدّيات الحاضر والمستقبل؛ وفي طليعتها حماية مجتمعاتنا من المخاطر الّتي تهدّد أمنها وتماسكها. نبحث عن أفضل السبل للحفاظ على وحدتنا الجامعة، وقطع الطريق على المذاهب الوافدة، والنِّحل الضّالّة، والتيارات الدخيلة المفرِّقة؛ ولاسيما التيار التكفيريّ الّذي يتغذّى من إشاعة الفهوم الخاطئة للدين، والتأويلات الباطلة لمقاصد شريعته؛ ممّا يستوجب التصدّي، بحزم، لحركات لم تصدّر للأمّة سوى مزيد من عوامل التفرّق والتمزّق؛ فضلا عن جفاف الأرواح، واختلاف القلوب، وتزهيد طائفة من المسلمين في حبّ نبيّهم، والتأسّي بقدوتهم، وحجبهم عن مصادر النور كيلا ينفذ إلى قلوبهم. إنّها الحركاتُ المتطرّفة الّتي نشأت منها تنظيماتٌ إرهابية تهدّد في شعوبنا السلم الاجتماعيّ؛ وتدمّر في بلداننا تماسك النسيج الثقافيّ والاجتماعيّ.

* إنّ ما تشهده المجتمعات الإسلامية في واقعها الراهن، لهو أكثر خطورة، وأعمق تأثيرا ممّا كان عليه الأمر، من قبل. فقد برزت فكرة الطائفية من جديد، وهي تلقى العناية والرعاية، تحت ذرائع متنوّعة؛ كما توافرت لها سياقات إقليمية ودولية، شجّعت أنصارها على التّهديد بتدمير مكتسبات الوحدة والاندماج المتراكمة في بلداننا، منذ قرون.
إنّ ما تشهده المجتمعات الإسلامية في واقعها الراهن، لهو أكثر خطورة، وأعمق تأثيرا ممّا كان عليه الأمر، من قبل. فقد برزت فكرة الطائفية من جديد، وهي تلقى العناية والرعاية، تحت ذرائع متنوّعة؛ كما توافرت لها سياقات إقليمية ودولية، شجّعت أنصارها على التّهديد بتدمير مكتسبات الوحدة والاندماج المتراكمة في بلداننا، منذ قرون.
إنّ ما ينبغي التذكير به وإشاعته بين المسلمين أنّ الأخوّة هي الرابطة الوثقى بينهم؛ وممّا يترتّب عليها أن يكون الحبّ والسلام، والتعاون والوحدة، هي الأصل في الجماعة المسلمة؛ وأن يكون الخلاف هو الاستثناء، الذي يجب أن يُردَّ إلى أصله، فور وقوعه، محافظة على الكيان العامّ لجماعة المسلمين، وإبقاء لعلاقات المودّة والإخاء فيما بينهم، وحفظا لمجتمعهم من عواقب التفكّك والخصام، تحت تأثير النزوات والاندفاعات. يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتّقوا الله لعلكم ترحمون﴾ الحجرات/10.
فما كان إلاّ الإسلام وحده، ليجمع النفوس المتنافرة؛ وما كان إلاّ حبل الله يعتصم به الجميع، فيصبحون بنعمته إخوانا؛ وما يمكن أن يجمع القلوب إلاّ أخوّة الإيمان، تصغر إلى جانبها وتمّحي الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والنعرات العرقية، والرايات العنصرية، والنزعات الفردية، والأطماع الشخصية. فيتجمّع الصفّ، تحت لواء الله الواحد الأحد، تحت راية لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله!.
وكما يتعيّن علينا التصدّي لكلّ تيار متطرّف دخيل، فإنّ علينا كذلك أن نحذّر من مخاطر تيار تغريبيّ، يعمل دون هوادة لكي تظلّ مجتمعاتنا تحت الهيمنة الثقافية والحضارية للغرب. يريد للأمّة أن تتنكّر لهوّيتها، وتتجرّد من ثوابتها، وتتنازل عن خصوصياتها. يريد أن تشيع فيها مظاهر الاغتراب وثقافة الاستلاب. يريد للأسرة المسلمة أن تنساق وراء الشعارات البرّاقة، وتستجيب للدعوات المشبوهة، التي تقلب سلّم القيم؛ ويراد منها تحطيم منظومة القيم الأخلاقية، وإحلال القيم الهابطة محلّها، لتمييع شباب الأمة، وإسقاط المرأة في أوحال الرذيلة والفساد. وهذا ما يسعى إليه دعاة الإباحية والتغريب. يريدون لنا أن نكون نسخة من المجتمعات المنحلّة؛ حيث يُترك للناس الحبل على القارب، يعيشون كما يشتهون، بلا ضابط ولا زاجر، ومن غير وازع ولا رادع، باسم “الحداثة”، وشعار “الحريات الشخصية”، وسوء استعمال هذه الحريات المغشوشة، التي تردينا في المهالك، وتسلك بنا أسوأ المسالك. إنّهم يريدون لمجتمعاتنا أن تنجرّ إلى مهاوي الحضارة المادية، الخاوية من مقوّمات الروح والإيمان؛ وتوشك أن تنحدر إلى الهاوية، لأنها فرّطت في أهمّ مقوّمات البقاء؛ إذ أهدرت القيم الإنسانية؛ وتجاهلت روح الإنسان وقلبه ووجدانه؛ ولم تنسجم مع فطرته التي فطره الله عليها؛ بل قدّمت له الشهوات البهيمية، بدعوى “الحرية الشخصية”؛ وراحت تقنن للشذوذ، وتشرّع للانحراف. وما فتئت صيحات العقلاء تتعالى، من هنا وهناك، منذرة بسوء مصير البشرية، في ظلّ الحضارة المادّية.
إنّنا مدركون لسرعة التطوّر الّذي طبع مختلف مجالات الحياة، في عصرنا هذا. وإننا واعون بضرورة التفاعل مع هذا التطوّر. ونبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أنّ الوضع الحضاري المتميّز الذي يشهده العالم من حولنا مطبوع بفلسفة العولمة، التي ترمي إلى إعادة صياغة مختلف نواحي الحياة؛ وذلك بالاختراق الثقافي للإعلام والتعليم والأسرة، ولكافة مؤسّسات المجتمع.
ونحن ندرك كذلك أنّنا طرفٌ في صراع حضاري غير متكافئ؛ ولكنّ ذلك ينبغي أن لا يثنينا عن السّعي إلى تحقيق معاني التفاعل الإيجابي مع الغير، والتفتّح الواعي عليه، والاستفادة الحكيمة ممّا لديه. والإصرار على إظهار ما عندنا مما هو حقّ لا يمكن التغاضي عنه ولا المساومة فيه.
وهنا نطرح جملة من الأسئلة، نرجو أن نجد أجوبة عليها:
-كيف نحصّن الأجيال في مواجهة التحدّيات؛ وأمّتنا أمام تحدّ كبير تفرضه العولمة، بمختلف أشكالها؛ فهي اليوم تهيمن بقوانينها ونظمها ومؤسّساتها، وسياساتها المعلنة والمضمرة، غير عابئة بالقيم الروحية والأخلاقية للمجتمعات، وغير آبهة بما تحدثه مشاريعها من تداعيات سلبية، اقتصادية واجتماعية وثقافية، على هذه المجتمعات؟
-كيف ننظر إلى إشكالية الأصالة والمعاصرة الّتي تواجه مجتمعاتنا الإسلامية، أي بين التمسّك بالعقيدة والتراث الإسلامي والانتماء الحضاريّ، وبين مسايرة التطوّر والتّغيير والتجديد، مما يفرضه منطق العصر؟

* كان المغيلي رجل علم ومعرفة. وكان من أجلّ شيوخ التربية. وله منهج متميّز في الدعوة والإصلاح، ورد في بعض وصاياه قوله لمريده: “… أوصيك بتقوى الله، وبالحذر والعزم، والتخفيف بما استطعت. واعلم أنّ الله هو الرزّاق؛ وإنّما الأسباب على الأرزاق كالقناديل على الأطباق. فخذ من الأسباب بأحسنها وأحلّها وأهونها، متوكّلا على الله، راضيا بقضاء الله”.

وفي تقديرنا أنّ السّبيل إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، نتمثّله في أن يعيش المجتمع إسلامه، في قيمه الثابتة، ومبادئه الخالدة، مثلما كان يعيشه سلفنا الصالح؛ ويعيش في الوقت ذاته واقع عصره، في صوره المتبدّلة والمتغيّرة، بفضل تقدّم العلوم والتكنولوجيا؛ وأن يخطّط المجتمع لحاضره ومستقبله، كأدقّ ما تخطّط الأمم المتقدمة لحاضرها ومستقبلها.
وبعبارة أخرى: أن يفصل المجتمع بوعي بين الثوابت والمتغيّرات، في تطوير حياته، فيظلّ متمسّكا بالمبادئ والأصول، يعظّ عليها بالنواجذ، متشدّدا في الثوابت الخالدة خلود العقيدة التي أثمرتها؛ ويكون، في الوقت ذاته، مرنا في التعامل مع المتغيّرات، باعتبارها مجرد أساليب ووسائل وكيفيات يجب أن يكتسبها كلّ جيل ليعبّر بها عن عصره وزمانه.
إنّنا مطالبون بالعمل لتحصين مجتمعاتنا، وحمايتها من أيّ انحرافات، وتأهيلها لمواجهة التحدّيات. ويتعيّن علينا ممارسة المراجعة الواعية لمنهج التلقّي من كتاب الله، وسنة رسوله الهادي، صلى الله عليه وسلم؛ وحسن تمثّل المنهاج القرآني في البناء التربويّ والاجتماعيّ.
وفي هذا السياق، نذكّر بما كنّا أعلناه، في منابر مختلفة، من أنّ أمّتنا بحاجة إلى تجديد فقهها، بما يبرز عظمة الإسلام وسماحة تشريعاته، في كافّة المجالات، التربوية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية؛ لأنّ الإسلام دينٌ لكل عصر ومصر، وشريعته ربّانية خالدة إلى يوم الدين؛ وسرّ بقائها واستمرارها وصلاحها لكلّ زمان ومكان، يكمن في مرونتها وحيويتها، وتفاعلها ومواكبتها للتغيّرات، ومراعاتها لتطوّرات الحياة. والإسلام لا يقف عاجزا أمام ظروف التطوّر؛ فليس التحجّر والجمود من شيم ديننا الحنيف؛ وهو بريء من كلّ من يقف في وجه التقدّم باسم الدِّين.
إنّ الاجتهاد هو بمثابة الروح للشريعة الإسلامية ومنبع الحياة لفقهها. ولا يعقل أبدا أن تؤدّي الشريعة وظيفتها، وأن يكون لها فقهٌ حيّ ينظّم مصالح البشر باستمرار، دون الاجتهاد. ومن هنا تبرز أهمية الاجتهاد وأثره في تجديد حياة الأمّة الإسلامية، وفعاليته في النهوض بالمجتمعات الإسلامية.
والاجتهاد المطلوب يجب أن يرتكز على أصول الدِّين وثوابته، وقواعده المقرّرة. ومهمّة تجديد الفقه الإسلامي ليست ميسّرة لكلّ الناس؛ وإنّما يضطلع بها المؤهّلون لها؛ وهم العلماء العدول، والثقاة من أهل الخبرة والاختصاص، رائدهم الإخلاص لدينهم؛ وتحرّكهم الغيرة على أمّتهم؛ ولهم معرفة واسعة بقضايا العصر، فضلاًعن رسوخ قدمهم في علوم الإسلام ومعرفتهم بمقاصد رسالته. وهذا ما نجده في الإمام المغيلي وأمثاله من العلماء الربّانيين الذين جاء وصفهم في الحديث: “يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”.
إنّ المسلمين لا تستقيم لهم حياة إلاّ إذا اعتمدوا الإسلام، في تشريعاتهم وأنظمتهم، وفي تخطيطهم لحاضرهم ومستقبلهم. فلقد كان الإسلام مصدر عزّ الأوّلين ومجدهم، وعامل تحرّر المتأخّرين ونهضتهم. والغاية المنشودة أن يكونوا في مستوى عظمته، مثلما كان أسلافهم؛ وذلك بإخلاص النية، وصدق العزم، وتنسيق الجهود، وتوحيد الأهداف.
نحن المسلمين، لدينا أعظم ذخيرة من القيم الحضارية في المجالات: الروحية والخلقية والعلمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فإذا أفدنا منها، كما أفاد منها أسلافنا، كان بإمكاننا أن نُسهم بالحظ الأوفر في إصلاح مجتمعاتنا، بل وفي إصلاح العالم من حولنا، وتقويم مساره، وإنقاذه من المظالم التي طغت على شعوبه، وإشاعة روح التسامح والتعاون في مجتمعاته.
فما أحوج البشرية، كلّ البشرية، إلى هداية الإسلام، لتتحرّر من عبودية الدنيا، وترتقي إلى عبودية الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!