-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التيار السلفي والمدارس الفقهية

التهامي مجوري
  • 4537
  • 11
التيار السلفي والمدارس الفقهية

نشأ التيار السلفي على أنقاض التقليد والجمود والتعصب، من أجل استعادة صفاء الفكر الإسلامي، وعقيدته السمحة، ومناهجه الفكرية الراقية، كما كان في القرون الأولى الفاضلة، وذلك بتجديد الدين ومحاربة البدعة ومظاهر الشرك المتنوعة، ومن ثم إيقاظ الهمم وإعادة بعث ثورة ثقافية تعيد للإسلام صفاؤه ونقاوته.

ولكن هذه المحاولة، لم تستطع تحقيق ما تريد، ولا ثبتت على حد أدنى من مبررات الوجود والبقاء، وإنما على مر الأيام تحول هذا التيار إلى مدرسة انتقائية، لا تهتم إلا ما تشعر أنه ميزها عن سواد الأمة، ولا تكترث إلا بما تخالف به الواقع وكفى، ولا يهم أن يكون هذا التميز أو تلك المخالفة، مصيبا للغاية أو مصيبة عليها، حتى أضحى التيار السلفي، وكأنه توجه طائفي، لا يملك من الالتزام الاسلامي الصافي، الذي كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا الشعار والاسم وحسن النية، أما جوهر الإسلام ومنهجيته الهادية إلى صراط الله، فلا وجود لها، إلا بمقادير ضئيلة.

لقد كان لهذا التيار صيت ومسحة تجديدية، على يد شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله، اللذين كانا بين نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الهجري، عندما كان التعصب المذهبي، العقدي والفقهي، ضارب أطنابه في الأمة. فقد خاض ابن تيمية وتلميذه معارك طاحنة مع المتعصبين، من الفقهاء والمتكلمين ورجال الطرق الصوفية، في جميع مجالات الفكر الإسلامي والإنساني، في العقيدة والفقه والسلوك، وفي علم الكلام والفلسفة والتاريخ، ويمكن لأي باحث اليوم، أن يحوصل لهذين الرجلين من رجال الأمة، خلاصات هامة في الفكر الإسلامي الناضج، ما يفيد به الأمة والإسلامية اليوم، وليس في ذلك الوقت فحسب، بفضل ما أنتجا من أساليب وفهوم لنصوص الوحي وواقع الناس، رغم أنهما لم يخرقا القاعدة العلمية، التي درج عليها العالم الإسلامي قرونا طويلة، وهي التمذهب والاستيعاب والتجاوز، فهما يعدان من أقطاب المذهب الحنبلي، حيث لم يخرجا عنه إلا قليلا، ولا ينتهيا في البحث عند قول زيد أو عمرو حتى يقتلاه بحثا ويتجاوزاه إلى الأفضل والأحسن.

والمتتبع لحركة تطور هذا التيار، يلاحظ أنه تراجع كثيرا، عن المقاصد التي أسس لها ابن تيمية رحمه الله، وعن روح التجديد التي يتطلع إليها المسلمون، منذ ذلك التاريخ على الأقل، حيث حصر مشكلات الاسلام والمسلمين، في قضايا ضيقة وأحيانا قضايا جزئية، أعلى ما يمكن أن توصف به هو، أنها ليست من الأولويات، حتى أضحى الواحد من المنتمين لهذا التيار أو بعض فصائله، يعتبر المبتدع من المسلمين أخطر على الإسلام من الكافر الأصلي  !!!

لقد تأسست حركة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهي تمثل المنعرج الأساس في هذا التيار، في الجزيرة العربيبة، في القرن الثاني عشر، أي بعد أربعة قرون من عصر ابن تيمية، بناء على اجتهادات ابن تيمية وحركته العلمية، ولكنها لم ترتق في مستواها التنظيري إلى القدر المطلوب، أو على الأقل القدر الذي كانت عليه حركة ابن تيمية، وإنما اقتصرت على بعض جوانبها التعبدية العملية، مقلدة في ذلك ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، فركزت على محاربة مظاهر الشرك، التي كان يعج بها العالم الإسلامي، من تعظيم القبور والابتداع في الدين، وتغليب العادات على العبادات، وإلى جانب هذا العمل القاعدي الجماهيري، كان هناك فعل جهادي، تقوم به هذه الحركة الإصلاحية، التي كانت تهدف في غاياتها إلى الإصلاح الشامل، بقطع النظر مكامن الخطإ والصواب في اجتهاداتها، ثم جاء من بعد المؤسسين للوهابية خلف، لم يبقوا على الإهتمام بالدين إلا محاربة مظاهر الشرك، الذي تطور إلى مبالغات كبيرة، بلغت حد الانشغال به عن باقي قضايا الإسلام، ثم انتقلت هذه الاهتمامات من كليات الإسلام إلى جزئياته، وانتشر هذا الهوى في باقي أصقاع العالم الإسلامي، بعدما انقسم هذا التيار على نفسها إلى تيارات جزئية انتقائية، فكانت السلفية الجهادية، التي انحرفت إلى اتجاه تكفير أهل القبلة والانشغال به، والسلفية العلمية، التي نحت منحى تحرير المسلمين من التمذهب في الفقه والعقيدة، وجعله الدين الذي لا دين بعده ولا قبله، والسلفية المعتدلة، التي تعد الأقرب إلى سواد الأمة، ولكنها لم تتخلص من بقايا منهجية، تجعلها تتبنى التمذهب وهموم الأمة عموما ولكن بنفس سلفي، أي يهتم الواحد منها بالقضية كما يهتم بها غيره من سواد الأمة الأعظم، ولكنه في الإسقاط الواقعي، ينحرف عن المسار المنهجي إلى تغليب الفروع عن الأصول.

والقاسم المشترك بين هذه التيارات الجزئية، التي يجمع بينها التيار الأصل، وهو التيار السلفي، هو منهجية التعامل مع الوحي والواقع، المخالفة لما أسس له علماء الأمة منذ عصر الصحابة، وهو منهج تراكمي اكتملت صورته على أيدي علماء المذاهب الفقهية والمدارس الإسلامية عموما، وهي في مجملها أربعة مدارس.

المدرسة الأولى مدرسة الرأي، وهي المدرسة التي بدا عليها تغليب الاجتهاد على نصوص الوحي، وذلك لا يعني أنها تركت الوحي إلى الاجتهاد، وإنما غلُّبت الاجتهاد بسبب ضغط الواقع، وهو أن هذه المدرسة نشأت بين العراق وفارس، ملتقى مجموعة من الثقافات والأعراف والشعوب، العرب والرومان والفرس، وهي المنطقة التي نشطت فيها حركة وضع الحديث، أي الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقلب الصراعات الفئوية داخل الصف الإسلامي، مما جعل رجال هذه المدرسة، تفرض واجب التحفظ على الكثير من المرويات الحديثية، حماية للدين ومقاصده، فانطلقوا من كليات الإسلام، وهي القرآن الكريم والمتواتر والمشهور من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أي ما اشتهر منه وكثر تداوله، وبذلك وضعوا أسس المدرسة.

2. مدرسة الأثر: وهي المدرسة المقابلة لمدرسة الرأي، وهي كذلك لم تلغ العقل، وإنما اجتهدت في تقليص مساحاته، حتى أنه روي عن الإمام أحمد أنه قال: العمل بالحديث الضعيف أولى عندي من القياس، ولكن الظاهر أن الإمام أحمد –كما روي ذلك عن أهل الاختصاص-، لم يقصد الحديث الضعيف، وإنما قصد الحديث الذي لم يرتق إلى الصحيح، وهو الحديث الحسن، حيث أن هذا المصطلح، لم يكن متداولا في عهده، وإنما كان المعروف عنده الصحيح والضعيف، والشاهد على تبني هذه المدرسة للأثر لم يكن يعني إلغاء العقل، أنها من أصولها في الاستنباط المصلحة المرسلة، والمرسلة يعني منقطعة الصلة المباشرة بالنصوص، وإنما مجموع النصوص يوحي بمراعاتها.

3. مدرسة التوفيق والجمع: أي مدرسة توفق بين الوحي والاجتهاد، وهي مزيج من المدرستين السابقتين؛ لأنها تعتبر أن الوحي الذي أنزله الله، يمثل التكليف الإلهي للبشرية، والعقل الذي خص به الانسان هو مناط التكليف، ومن ثم فإن الالتقاء بينهما هو في الأصل التقاء تكامليا، وليس مجرد لملمة وتلفيق، وكما قال ابن تيمية رحمه الله، صحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول، في كتابه الضخم، “درء تعارض العقل والنقل”.

 

4. المدرسة الطائفية: وهي المدرسة التي تعتمد الفروع كأصول فتحاكم الأصول إليها، وذلك بسبب الغلو وانكسار سلم الاولويات في أذهان أهل هذه المدرسة، وإذا كان مفهوم الطائفية هو الخروج عن المألوف إلى الغريب، وتبني الشاذ من الأقوال، على حساب الشائع والمشهور منها، فإن مفهوم الطائفية في الجانب العلمي والعملي، هو التنكب للعمل المنهجي الذي فطرت عليه البشرية، سواء في تدينها أو في معاملاتها الدنيوية، حيث أن الطبيعة البشرية التي راعاها الله في التكليف، أن الأمور في حياة الإنسان، فيها الكلي والجزئي، والأصل والفرع، والمهم والأهم والأقل أهمية، وترتيبه يكون بطبيعة الحال، تقديم الكل على الجزء، والأصل على الفرع، والأهم على المهم، والمهم على الأقل أهمية.. وهكذا، والمنهجية الطائفية تقلب هذه الأمور رأسا على عقب، فتتعلق بفرع علمي أو عملي، وتصر عليه بنائ على غايات لا علاقة لها بالعلم والمنهج، ولو أدى ذلك إلى نسف أصل ينبني عليه، مثلما وقع للخوارج عندما كفروا أهل الكبائر، او الشيعة عندما صنفوا الناس بناء على ولاءات سياسية، أخضعوا إليها كل الدين بأصوله وفروعه، وكذلك بعض فصائل التيار السلفي، فقد تشبثت بمسائل فرعية، واعتبرتها معلما هاما من معالم تصنيف الناس، والحكم عليهم بالإيمان والكفر والالتزام والإنحراف. فقد تبنت أراء في مسائل خلافية، وأخضعت إليها جميع تصرفات المسلمين، بحجة مناصرة السنة ومحاربتها، أو الالتزام بها والتحلل منها. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
11
  • بدون اسم

    قولك صالح لكل زمان و مكان هل هذه آية من القرآن، مع أن من وضع هذه المقولة نيته صالحة لكنها تستعمل ممن يريدون الباطل و الأصح مثل ما بينه كثيرون أن يقال مصلح لكل زمان و مكان و بهذا نغلق الباب في وجه أهل الباطل
    الذي لا أفهمه كيف لمن لم يلمس علوم الشريعة أن يتكلم ببساطة عن تجديد الدين و فق هواه الذي يعبده من دون الله
    الشاطبي أبو المقاصد كما يقال عندما يتكلم عنها يقول أنه لا يعرفها إلا من رسخت قدمه في علوم الشريعة ثم يأتي واحد بكل بساطة و يهدم جل الترات بدعوى كاذبة هي التجديد و مراعاة العصر

  • عبد الرحيم

    بل قصد بقوله: "نشأ التيار السلفي على أنقاض التقليد والجمود والتعصب" أنه نشأ في مرحلة فيها جمود و تعصب من أجل العودة إلى صفاء الفكر الإسلامي كما قال مباشرة بعد ذلك.

  • خوخي

    مهما حاول محاول في تشويه صورة السلفية بما استطاع من وسيلة فإنه لا يستطيع خدشها حتى!
    فمن وقت بن باديس و الإبراهيمي رحمهما الله و الصوفية و القبورية يحاولون لكن بقي المصلح مصلحا و المفسد مفسدا!
    فكل من أراد الطعن في الإسلا م لا بد له أن يطعن في رموزه و حملته و أشهر رموزه ابن تيمية و ابن عبد الوهاب رحمهما الله

  • أمانة

    السلفية كما يدل عليها اسمها تيار رجعي لا يمكن أن يكون تجديدي وحتى لو فرضنا جدلا أن ابن تيمية مجدد عصره فلا يمكن وصف الذين يعيدون انتاج فكر ابن تيميمة مجددون عليهم فقط التمعن في عصر ابن تيميية القرن السابع الهجري وننحن الان في القرن الخامس عشر اذا كان الاسلام دين صالح لكل زمان ومكان فلا يمكن لفهم بشري مهما بلغ من علوه أن يتجاوز المكان والزمان الذي هو فيه
    نحن في حاجة إلى فهم جديد للإسلام يستوعب الزمان والمكان مرتكز على دعامة قوية لا يأتيها الباطل ألا وهي القرآن أما ما عدى ذللك فهو انتاج بشري

  • LOTFI

    اصبت و في نفس الوقت اخطأت "نشأ التيار السلفي على أنقاض التقليد والجمود والتعصب" من اين اتيت بهذا ! هذا بهتان وافتراء على السلفيه

  • اياد

    بسم الله الرحمان الرحيم و بعد ....لن يصلح اخر هده الامة الا بما صلح به اولها.

  • نور الدين

    ما هي الميزة التي تميز ابن تيمية كي يطلق عليه(شيخ الاسلام).؟اللهم الا ميزة التشدد والغلو في الدين,واتباعه حاليا من التيار السلفي حصروا الاسلام في اطالة اللحية وتقصير السروال ومناصرة الاستبداد.

  • أحمد

    السلام عليكم
    جيد لأنه ربما جاء على وفق هواك، و بيني وبينك حتى أنا لما أجد مقالات وفق ما أعتقد و ضد ما لا أعتقد أطير فرحا بها.
    كنا ندرس عند أستاذ المنهجية و هو يحظرنا لكتابة الرسالة تكلم عن الموضوعية، سألته يا أستاذ و هل توجد فعلا الموضوعية التي تتحدث عنها كتب المنهجية و خاصة في العلوم الانسانية و بقيت أنافح على عدم وجودها بتلك الصورة فلا يوجد من يكتب بدون خلفية لأن الكاتب إنسان مؤثر و متأثر و ليس آلة و كلما تقدمت في السن أزيد تمسكا بما قلته منذ سنوات

  • منير

    السلفية ليست تيار و هي تحارب التقليد والجمود و التعصب
    السلفية هي الاسلام و الاسلام هو السلفية
    السلفية هي الاسلام الصافي المصفى .

  • zaid

    بحث قيم وفي غاية الاهميةأرجو إعادة نشره للاستفادة منه،جزي الله الاستاذ والقائمين غلي الشروق خير الجزاء.

  • محمد

    قول فيه كثير من الصحة دست به مغالطات اريد بها باطل
    جعلت اتباع منهج السلف منهج استحدث حديثا وصنفته مع قسم الطائفية
    يبقى كلامك رأي لم تستند فيه لدليل على تصنيفك وتشبيهك للامور دون تاصيل الحال تاصيلا شرعيا
    ارجوا مراجعة رأيك والتمحيص في القضية مرة أخرى بارك الله فيك