-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التّجسيم والتّأويل.. والنّافخون في الكير!

سلطان بركاني
  • 1604
  • 2
التّجسيم والتّأويل.. والنّافخون في الكير!

لقد شغلت الأمّة الإسلاميّة قرونا من الزّمان، بخلافات فقهية احتدمت بين أتباع المذاهب الفقهيّة المعروفة، وصلت بأطرافها إلى حدّ التقاطع والتّدابر، وتجنّدَ أتباع كلّ مذهب للإغارة على أتباع المذاهب الأخرى تسفيها وتضليلا، بل وبلغ الخلاف في بعض محطّاته إلى حدّ إخراج فتاوًى تحرّم على الأتباع الصّلاة خلف أتباع مذهب آخر وتمنع الزّواج من امرأة مخالفة في المذهب، كما حصل بين الشافعية والحنفية في القرن الرابع الهجري، بل وصل الأمر إلى حدّ المناوشات العنيفة، كما حصل بين الحنابلة والشافعية في القرن ذاته.
ليس الخلاف الفقهيّ وحده هو ما أنشب الصّراعات بين أتباع المذاهب المختلفة، بل إنّ الخلاف شمل كثيرا من قضايا العقيدة، التي احتدم فيها النّزاع، خاصّة بين الحنابلة والأشاعرة، وكان الخلاف في مسائل صفات الخالق -جلّ وعلا- أبرز ساحات الصّراع؛ حيث اشتطّ بعض الحنابلة في الإثبات وأشرفوا على الوقوع في التّجسيم، بينما اشتطّ بعض الأشاعرة في التّأويل وبلغوا حدّ التّعطيل، وكادت عقيدة الفطرة تضيع بين هؤلاء وأولئك، وكادت كلمات المنصفين من الحنابلة والأشاعرة تنسى، وتمادى غلاة كلّ طرف في إلزام الطّرف الآخر بلوازم يتوصّل بها إلى تضليله وتكفيره، وشغل المسلمون في تلك القرون بقضايا فلسفية جدليّة تتعلّق بمسائل الصّفات، بعيدة كلّ البعد عن مقاصد الدّين وعن واقع الأمّة، كان يفترض أن يكفّ العلماء عن الخوض فيها، وألا يفتنوا عامّة المسلمين بها، وأن يمرّوا عليها كما كان يفعل الأوّلون.
لقد خَفَتت هذه الخلافات في القرون المتأخّرة، وانحسرت في زوايا ضيّقة، وكادت الأمّة تنساها، لولا أنّ أتباع سلفية الجرح والتّجريح تعمّدوا إحياءها ليستعينوا بها على تصنيف العلماء والدّعاة، وعلى جرحهم وإخراجهم من دائرة أهل السنّة والجماعة، وقد بلغ الغلوّ والشّطط ببعضهم إلى حدّ لمز أئمّة أعلام من أمثال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانيّ –رحمه الله- لأنّه مال إلى التّأويل في شرح أحاديث الصّفات في سفْره الماتع “فتح الباري”..
وفي مقابل هؤلاء نشط غلاة التّجريح من المنتسبين إلى الأشاعرة بدورهم في إعادة إحياء الجدل في مسائل الصفات، وأخذوا ينبشون في بطون الكتب ليتوصّلوا إلى تضليل العلماء الذين يرجع إليهم السلفيون، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي اشتطّ بعض غلاة التّجريح من الصّوفية والأشاعرة في إعلان الحرب عليه واتّهامه في عقيدته ودينه، بما يستلزم كفره ومروقه من الدّين؛ وكانت تهمة التّجسيم، أبرز تهمة رمي بها، مع أنّه -رحمه الله- ردّ في مواضع كثيرة من كتبه على المجسّمة، ومن أقواله المشهورة في ذلك، قوله في “مجموع الفتاوى”: “وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لا أصل لها في الكتاب والسنّة، ولم يتكلّم به أحد من السّلف والأئمّة، وأهل السنّة والجماعة لا يطلقون هذا اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً، كما أنّهم لم يثبتوا لفظ التحيّز ولا نفوه ولا لفظ الجهة ولا نفوه، ولكنْ أثبتوا الصّفات التي جاء بها الكتاب والسنّة، ونفوا مماثلة المخلوقات”، ونسب التّجسيم إلى أصله، فقال: “وإنّما يطلقه أهل الكلام مثل هشام بن الحكم الرّافضي وهشام الجواليقي فإنّه أوّل من قال إنّ الله جسم”، كما عرف عن ابن تيمية أنّه أنكر على بعض الحنابلة الذين غلوا في إثبات الصّفات كالقاضي أبي يعلي الحنبلي صاحب كتاب إبطال التأويل، حيث انتقده ابن تيمية لأنه حشا كتابه بالضعيف والموضوع من روايات ونصوص الصفات التي لا تليق بالله تعالى.. فلماذا يصرّ غلاة التّجريح من متأخّري الأشاعرة على نسبة التّجسيم إلى ابن تيمية ويغضّون الطّرف عن متولّي كبره، هشام بن الحكم (ت 179هـ) شيخ الشّيعة وراويتهم وواضع أسس الإمامة عندهم؟ لماذا يصرّون على الشّطط والتكلّف في اتّهام ابن تيمية بالتّجسيم وهم الذين يدافعون في مقابل هذا عن أئمّة التصوّف الحلوليّ، ويتكلّفون تكلّفا بالغا في تأويل كلامهم الذي يجعل الخالق مخلوقا والمخلوق خالقا، وحمله على أحسن المحامل؟ لماذا لا يعاملون ابن تيمية بما يعاملون به ابن عربي والحلاّج وابن الفارض؟ لماذا يرفض غلاة التّجريح هؤلاء الوقوف عند كلمات كثير من أعلام الأشاعرة الذين أثنوا على ابن تيمية، وأغدقوا عليه بأرفع الألقاب، ويأتي على رأس هؤلاء: الإمامان ابن حجر العسقلاني والسّيوطي، اللذان –رغم مخالفتهما لابن تيمية في كثير من المسائل- إلا أنّهما وصفاه بالحافظ والعلاّمة وشيخ الإسلام ومجتهد وقته وبحر عصره.
ابن تيمية عالم من علماء المسلمين، اجتهد، فأصاب وأخطأ، ومن حقّ كلّ أحد أن يختلف معه في قليل أو كثير، لكن أن يصل الأمر إلى حدّ ترويج الكذب الصّراح عليه، فهذا ما لا يقرّه دين ولا خلق؛ لقد بلغ الأمر بغلاة التّجريح إلى أنّهم نسبوا إلى ابن تيمية ما لم يعتقد وما لم يقل وما لم يخطّ بنانه، وراحوا ينشرون هذه الأكاذيب على أوسع نطاق لتتحوّل مع كثرة تداولها وترديدها إلى حقائق لا تقبل الردّ، ومن ذلك ما روّجوه عنه بأنّه نزل يوما من على المنبر وقال: إنّ الله ينزل كنزولي هذا!، تعالى الله عن هذا علوا كبيرا، واستندوا في هذه الفرية إلى ما ورد في كتاب “تحفة الأنظار” المعروف برحلة بن بطوطة، وفاتهم أنّه علاوة على كون ابن بطّوطة -كما أكّد الحافظ ابن حجر- لم يكتب تفاصيل رحلته إنّما جمعها ونمّقها أبو عبد الله بن جزي الذي اختُلف في أمره فكذّبه قوم وبرّأه آخرون؛ علاوة على هذا فإنّ ابن تيمية كان قد سجن بقلعة دمشق قبل مجيء ابن بطوطة إليها بأكثر من شهر، وقد اتّفق المؤرّخون –منهم ابن كثير وابن رجب وابن عبد الهادي- أنّه اعتقل بقلعة دمشق آخر مرّة في 6 شعبان سنة 726هـ ولم يخرج منها إلا ميتاً، بينما ذكر مؤلّف رحلة ابن بطوطة أنّه وصل دمشق في 9 رمضان!.
إنّ الواقع المرير الذي تعيشه أمّة الإسلام في هذا الزّمان ليُحتّم على شباب الأمّة أن ينصرفوا عن هذا الميدان الذي يزيد الأمّة وهنا إلى وهنها وتفرقا إلى تفرقها، ويصرفوا أسماعهم عن غلاة التّجريح من السلفيين وغلاة التّضليل والتّبديع من الأشاعرة، ويشغلوا أنفسهم بما ينفعهم وينفع أمّتهم من مسائل العلم والعمل، يقول الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي -رحمه الله-: “ونحن نعجب عندما نجد غلاةً يكفّرون ابن تيمية -رحمه الله- ويقولون إنّه كان مجسّدا، ولقد بحثت طويلاً كي أجد الفكرة أو الكلمة التي كتبها أو قالها ابن تيمية والتي تدلّ على تجسيده، فيما نقله عنه السبكي أو غيره، فلم أجد كلاماً في هذا قط، وكلّ ما وجدته أنّه في فتواه يقول إنّ الله يدا كما قال واستوى علي العرش كما قال، وله عين كما قال”، وأضاف البوطي: “ورجعتُ إلى آخر ما كتبه أبو الحسن الأشعري -وهو كتاب الإبانة – فرأيته هو الآخر يقول كما يقول ابن تيمية، واقرؤوا كتاب الإمام أبي حسن الأشعري “الإبانة” الذي يقول فيه: “نؤمن أنّ لله يدا كما قال، وأنّه على العرش استوى كما قال”.. إذن فلماذا نحاول أن نعظّم وهماً لا وجود له؟ ولماذا نحاول أن ننفخ في نار الشقاق؟ والله سبحانه وتعالى سيحاسبنا على ذلك” (ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، 264– 265، مجموعة محاضرات ألقيت في البحرين في 25/ 2/ 1985م).
الأمّة المسلمة تتعرّض لهجمة صهيو-صليبية-صفوية، ولا وقت لمثل هذه الخلافات التي بدا واضحا أنّ الطّائفيين من الشّيعة وأشياعهم ينفخون في كيرها ويسعون سعيا حثيثا لبعثها.. هم الآن يحاولون ركوب الموجة الصّوفيّة الأشعريّة، لكنّهم إذا ما لاحت لهم بعض بوادر النّصر والتّمكين في أقطار الأمّة المنهكة، فإنّهم سيُسفرون للأشاعرة والصّوفيّة عن وجههم الحقيقيّ، ويعاملونهم وفق ما أصّله أساطين المذهب الشّيعيّ الاثني عشريّ من أقوال تذهب إلى حدّ تكفير الأشاعرة والبراءة من دينهم، فهذا مثلا نعمة الله الجزائريّ (من جزائر البصرة) يقول: “الأشاعرة لم يعرفوا ربّهم بوجه صحيح، بل عرفوه بوجه غير صحيح، فلا فرق بين معرفتهم هذه وبين معرفة باقي الكفار”.
لقد آن لعشّاق الأضواء من دعاة التّهريج والتّهييج، أن يبحثوا عن الأضواء فيما يعود بالنّفع على أمّة الإسلام، ويكفّوا عن إثارة الجدل في مسائل لم يتعبّد الله أمّة نبيّه –صلّى الله عليه وآله وسلّم- بالخوض فيها، وإنّما تركها لتتعامل معها بفطرتها، ورُبّ مسلم عاميّ، تقوده فطرته إلى الحقّ في مسائل جدلية يتراشق فيها العلماء ويتناطح فيها الدّعاة.. المسلم بفطرته إذا أراد أن يدعو خالقه، يتوجّه بقلبه ويديه إلى السّماء، ولا يفكّر مجرّد تفكير في أنّ الله في جهة أو أنّ السّماء تحويه، وما من مسلم إلا وهو يتمنّى أن يرى خالقه في الجنّة، من دون أن يدخل في تفاصيل هذه الرّؤية كيف تكون، لأنّه يعلم أنّ الله -جلّ وعلا- على كلّ شيء قدير.. فليُترك المسلمون لفطرتهم، وكفانا فرقة وانقساما بسبب مسائل نهينا عن الخوض فيها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • عبد الله

    بارك الله فيك كفيت و وفيت

  • علي

    جزاك الله خيرا على هذا المقال الرائع و الممنصف