-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الثالوثُ المعطِّل لعملية الإصلاح

الثالوثُ المعطِّل لعملية الإصلاح

يقول “غوبلز”، وزير الدعاية في حكومة هتلر: عندما أرى مثقفا أضع يدي فوق مسدسي..

في اعتقادي –القابل للنقاش والنقد- أن المجتمعات الإنسانية المتطورة والمتخلفة إنما تقدمت أو تأخرت بمدى اهتمامها من عدمه بالثالوث المهم: “الإعلام” بمختلف أشكاله وفضاءاته، و”المجتمع المدني” بمختلف فعالياته المحلية والوطنية و”النخب” على تعدد مشاربها الإيديولوجية وانتماءاتها الفكرية وميولها السياسية، ولعل المتتبع والدارس لتاريخ أوروبا مثلا يدرك إدراكا جازما كم أن هذا الثالوث قلَّب الموازين رأسا على عقب وأنتجت تفاعلاته مجتمعاتٍ راقية وبلدانا متحضرة ذات هيبة وقوة هي التي تطبع المجتمع الدولي في زماننا الحاضر، ولا أحد ينكر أننا كشعوب نتمنى بما يصطلح عليه بـ”العالم الثالث” أن لدينا نفس الرغبة والهدف والطموح في أن نكون أيضا دولا وحضارات متقدمة لها ميولها وجولاتها في المسرح الدولي الذي لم يعد يؤمن سوى بالقوي، قوة الأرقام وعظمة المنجزات لا قوة الشعارات والإنجازات الهزيلة التي سرعان ما تزول عند أول عاصفة ثقافية أو فكرية أو سياسية…

ملاحظات مهمة في البدء

نريد من خلال هذه المساهمة إبراز أمل ممكن التحقيق، لا مجرد وصف أو انتقاد ثالوث أصابته العطالة مؤقتا وليس قدرا.

هي مساهمة لإبراز دور هذا الثالوث المهم، وليس نقدا فارغا لمؤسسة إعلامية بعينها أو ذراعا من أذرع المجتمع المدني القائمة أو بعضا من نخبنا التي نسيت أو تناست دورها.

ليس بالضرورة أي تحرك واع أو سلمي عبر الفضاءات الثلاثة المذكورة سالفا بالضرورة هو ضد أو مع السلطة، فقد تصبّ جهود الثالوث محليا ووطنيا كما يمكن أن تصب هذه الجهود –وهذا الأهم- في صناعة ثقافة واعية ورؤية مستقبلية تنعكس على الجميع انعكاسا إيجابيا ضمن نهضة شاملة تمس كل جوانب الحياة المختلفة.

لست أعمِّم وإن كنت أقصد عموم فضاءات هذا الثالوث، ولست أشخِّص فالمهم هو التجارب القابلة للنقاش والنقد والتصويب، فهناك تجارب كثيرة تستحق التثمين والتقدير على نضالها اليومي، لكن لم تظهر ثمارها لأسباب عديدة سنتطرق لبعضها في هذه المساهمة.

لماذا هذا الثالوث تحديدا؟

الموضوعية تقتضي القول إن التغيير الهادئ والهادف تساهم فيه فعاليات كثيرة لعل أبرزها السلطة الحاكمة والأحزاب السياسية والشعوب، إلا أنني وكقناعة شخصية قد يشاطرني فيها الكثير أن الإعلام والنخب والمجتمع المدني تبقى المحطات الأبرز لتأطير أي حراك واع أو تغيُّر مجتمعي، وفيما يلي بعض التأصيل الإجرائي المبسط:

النخب:

هي المؤطرة لكل حراك والموجِّهة لكل نهضة فكرية أو معرفية أو حضارية، النخب هي ببساطة التي تجاوزت عموم الناس والشعوب بفهمها المتقدِّم وتأصيلها الاستشرافي، وقد تكون هذه النخب سياسية أو اقتصادية أو فكرية، لكن تبقى نخبا مشتتة الوجهة غير واضحة الرؤية، ما لم تنتظم في وحدات بحث يقدم نتاجها للهيئات المتخصصة رؤيتها للحل وتنظيراتها للاعوجاج الذي يطال المجتمع، وهذا الذي لا يوجد في عالمنا الثالث وفي الجزائر على وجه التحديد، يكفي أن نذكر أن في إسرائيل وحدها 1200 مركز بحث فاعل، وعلى هذا يمكن القول إن تخلف أي مجتمع سببه الرئيس هو تقاعس النخب عن أداء دورها، إما استسلاما أو تواطؤا أو كسلا فكريا وسلوكيا على حد السواء، وتجدر الإشارة أن الجزائر توفرت منذ استقلالها إلى اليوم على إطارات ونخب هائلة، لكن بعضها هاجر والبعض الآخر ضُيِّق عليه والبقية تقاوم على أمل أن يلوح أمل في المستقبل القريب أو المتوسط.

الإعلام:

يكفي في الجزائر مثلا عرض الإحصائيات التالية لتدرك كم للإعلام من أهمية إستراتيجية أدركت قيمته أنظمة الحكم في العالم بأسره ووظَّفته في البقاء والهيمنة: قرابة 17 مليون جزائري يشاهدون التلفزيون في أوقات الذروة يوميا، إضافة إلى أن أكثر من 19 مليون جزائري مشتركون في خدمة 3G وأن أكثر من 23 مليون جزائري مشترك في موقع التواصل الاجتماعي الشهير “فايس بوك”، إضافة إلى الإعلام الثقيل والمكتوب والإلكتروني والذي لا يزال متحكما فيه من قبل السلطة من جهة، وتقاعس أهل التخصص من جهة أخرى (ليس الأمر للتعميم طبعا) فإعلامٌ قوي معناه مجتمع قوي، إعلام واع معناه مجتمع متحضر يقدم المعلومة ويحارب الإشاعة والأهم من ذلك أنه يقف على مسافة واحدة ومتساوية مع الجميع.

المجتمع المدني:

يمكن تعريف المجتمع المدني باختصار مفيد في كونه تأطيرا للقدرات الشعبية ضمن فضاءات قانونية وخطط واضحة في مجالات محددة ومضبوطة تكون لها مخرجاتٌ مثمرة ومفيدة على مجالاتها من جهة وعلى الوعي العام من جهة أخرى، إضافة إلى أن المجتمع المدني هو النشاط الموازي للنشاط الرسمي الذي من المفترض أن يكون مستقلا عن الجهات الوصية والمؤسسات الرسمية لكي يؤدي دوره المنوط به على أكمل وجه، إلا أن في العالم الثالث وفي الجزائر على وجه التحديد تحاول السلطة تأطير هذا المجتمع بما يصبُّ في رؤيتها والتعامل بيد صارمة مع كل من يخالف توجُّهها أو أن يشتغل ضمن مساحات قد تقلق السلطة وتجلب لها إزعاجا غير مرغوب فيه.

من له مصلحة بتعطيل ماكنة هذا الثالوث؟

تشير تجارب الصراع والحَراك التي عرفتها المجتمعات البشرية بما في ذلك الجزائر التي لم تخرج على هذا السياق الذي عرف احتكاكا وصداما مؤلما بين أركان هذا الثالوث وبين من له مصلحة في تعطيل عمله وتفريغ جهوده، ويمكن حصر هذه الجهات المستفيدة في ما يلي:

السلطة الحاكمة التي عادة ما تنزعج من هذا الثالوث، ولعل الصراع والحصار والحرب الباردة هي عناوين طبعت العلاقة بين السلطة في الجزائر وبين النخب والإعلام والمجتمع المدني، فمنطق السلطة إما الهيمنة أو الاحتواء أو الإقصاء، وتجسَّد ذلك في حزمة القوانين والتشريعات والمراسيم التي وصفها المراقبون والمتابعون بأنها مجحفة وتحدّ من نشاط هذا الثالوث وتعطله عن الانتشار من جهة، وعن تحقيق رسالته من جهة أخرى.

قوى المجتمع المهيمنة والمتجذرة (عروش، رجال مال وأعمال، أعراف وتقاليد متجذرة…) والتي لا تقبل عادة أيَّ موجة تغيير (هذا واقعٌ يحتاج فعلا إلى دراسات سوسيولوجية معمقة) لأنها ترضى من حيث تعي أو لا تعي بالواقع الموجود، لأنها تخاف من عملية التغيير التي قد تؤدي حسبها إلى مستقبل غامض ومجهول المآلات ومنطق هذه القوى: “واقعٌ معلوم خير من تغيير مستقبلي مجهول العواقب..”

الأمر الصعب والخطير على الإطلاق هو وجود أطراف من داخل هذا الثالوث والذي يقوم هو الآخر من حيث يدري أو لا يدري لعب دور المقاومة الداخلية، فتجده منخرطا إما في مشروع السلطة الحاكمة أو متقاعسا عن أداء دوره ويثبِّط الإرادات ويزرع اليأس من أن كل تحرك لن يأتي بنتيجة مرجوة، وأغلب هذه القوى تجدها ذات نفَس ليس بالطويل، تملّ بسرعة، تيأس فجأة وتخاف وتهاب كل تهديد يواجهها أو خطر يداهمها، في حين أن منتسبي هذا الثالوث ينبغي أن لا يحملوا مثل هذه الأوصاف، فإذا استسلم الجميع يبقون هم في الصفوف الدفاع الأولى.

هل يتحمّل هذا الثالوث المسؤولية؟

نظرية المؤامرة مسألة نسبية دائما دون أن ننفيها، لذلك ذكرنا في العنصر السابق الأسباب الخارجية التي قد تحاصر وتؤثر على أضلاع ثالوث التغيير (الإعلام والنخب والمجتمع المدني) إلا أن البيئة الداخلية في هذه الفضاءات الثلاثة تنطوي على كثير من التناقضات والفوارق التي أخرت هي الأخرى من تنامي حَراك هذه الفواعل والذي يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

عدم وضوح الرؤى وعدم جدية فواعل هذا الثالوث في إحداث حَراك نوعي ومتحضر لإحداث نهضة حقيقية كما يحدث في عديد الدول الشبيهة بالجزائر.

تقليدية الوسائل المستعمَلة وعدم تجديد أطرها وتقنايتها ما شكل انتكاسة عدم متابعة الحراك الدولي والعالمي القوي الطرح سريع الحراك.

الاستجابة للإغراءات والمناصب من قبل منتسبي هذه الفضاءات ونسيان الرسالة التي من أجلها تتشكل هذه الفضاءات.

التقوقع الفكري ونقص التكوين النظري والميداني وهشاشة البيئة والإرادة في عملية الاستمرار بالمقاومة المدنية.

عدم خلق فضاءات قانونية ونقابية موحِّدة لكل هذه الجهود، ما شتَّت الجهود وبدَّد كل المجهودات الفردية على جودتها وقوتها ونوعيتها لكنها لا تكف مادامت منفردة ومعزولة في زمن أصبح كل العالم موحدا وذلك لأن فواعله الحية (الإعلام والنخب والمجتمع المدني) استطاعت أن تحدث الفارق في الدول المتقدمة ولا تجرؤ أي قوى أن تحيدها على أهدافها ومؤسساتها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!