-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحكم العثماني في الجزائر.. وصال لا احتلال

محند أرزقي فراد
  • 14434
  • 0
الحكم العثماني في الجزائر.. وصال لا احتلال

ليس من الموضوعية أن ندرس الفترة العثمانية في الجزائر خارج سياقها التاريخي، أي إنه لا يمكن تشريح هذه الفترة تشريحا سياسيا بمفاهيم وأدوات هي وليدة العصر الحديث، كالقومية والقطرية وحقوق الإنسان والتداول على السلطة والمؤسسات الديمقراطية. لقد جاء العثمانيون إلى الجزائر بطلب من سكانها، في ظرف سياسيّ عصيب يتمثل في تمدّد الخطر الإسباني المسيحي، الذي كان يسعى إلى تنصير شمال إفريقية بعد طرد المسلمين من ديارهم في إسبانية، في وقت غابت فيه السلطة المركزية في الجزائر، بسبب انقسام البلاد إلى إمارات كثيرة (إمارة آث عباس في القبائل الصغرى/ إمارة أحمد بن القاضي في جرجرة/ إمارة الثعالبة في مدينة الجزائر/ إمارة بني جلاب في توڤرت/ إمارة تنس/ إمارة الذواودة في الحضنة والزاب/ مملكة تلمسان) متصارعة عاجزة عن صدّ الخطر الإسباني، الذي فرض نفوذه على هؤلاء الأمراء الذين لا تهمهم إلاّ مصالحهم الشخصية، وتذكّرنا حالة الانقسام هذه في الجزائر، بعهد ملوك الطوائف في الأندلس، الذي تسبب في نهاية الوجود الإسلامي في إسبانية، وكاد أن يتكرر السيناريو في الجزائر لولا الاستنجاد بالدولة العثمانية وريثة الخلافة الإسلامية. وفي هذا السياق التاريخي، فإن الوطن كان يمتد حيث تمتد العقيدة الإسلامية العابرة للأعراق.

تحالف القادة العثمانيين مع فعاليات المجتمع الجزائري

قد يتفاجأ البعض عند سماعهم أن العثمانيين في الجزائر لم يتجاوز عددهم حدود عشرين ألف شخص تقريبا طيلة القرون الثلاثة من وجودهم في الجزائر، وهو الأمر الذي أجبرهم على التحالف مع شيوخ القبائل، ومع قبائل المخزن التي منحوا لها امتيازات مقابل وضع نفسها في خدمة النظام العثماني، خاصة في قمع الثورات المحلية وفي دعم المحلة العثمانية (فرقة عسكرية) المكلفة بجمع الضرائب. كما نسج الدايات علاقات طيبة مع الزوايا وشيوخ الطرق الصوفية، التي ساعدتهم في التنقل بين المناطق بأمان، وفي إقامة أسواق أسبوعية كان يقصدها السكان لبيع منتجاتهم ولأغراض اجتماعية أخرى متنوعة. أما التجارة والصناعة والحرف في المدن، فقد تركها حكام الإيالة الجزائرية لفئة السكان المحليين يسيّرونها وفق تنظيم الأمناء الدقيق. وفي الميدان العسكري، كان الدايات يجنّدون الجزائريين في إطار فرق عسكرية خاصة بهم؛ فرقة الزواوة، وفرقة الڤوم، وفرقة السبايسية، وهناك أيضا قوات محلية كان يجندها شيوخ القبائل المتحالفة مع حكام الإيالة الجزائرية عند الحاجة.

وكان الجزائريون موجودين أيضا في الإدارة التي كانت تعتمد في معاملاتها على اللغتين العربية والتركية. والجدير بالذكر، أن الحكام العثمانيين لم يفرضوا لغتهم التركية/العثمانية أو مذهبهم الديني الحنفي على الجزائريين، وعُرف عن البايات والدايات حبّهم للأعمال الخيرية المتمثلة في بناء المساجد والمدارس، وفي رعاية شيوخ التصوف وزواياهم لمكانتهم المرموقة في المجتمع، ولدورهم الجهادي ضد الإسبان.

تمدين الجزائر في العهد العثماني

 خلافا للصورة السوداوية التي رسمها جيش الاحتلال الفرنسي للتواجد العثماني في الجزائر، من أجل تحييد الجزائريين، فقد اعترف المؤرخ الفرنسي هنري-ديلماس دي ڤرامو Henri-Delmas de Grammont النزيه إلى حدّ ما، أن مدينة الجزائر التي كانت عند وصول العثمانيين مدينة مغمورة، قد عرفت في عهدهم تطورا في العمران، وفي زراعة البساتين، والصيد البحري، والقطاع التجاري الذي كانت تديره جالية أندلسية ويهودية (نحو ألفي تاجر). وإليكم ما قاله دي ڤرامو عن تمدين مدينة الجزائر بالتصرف: «لقد عرفت المدينة نموا خلال حكم بايربايات الذين حصّنوها بالأسوار، وبنوا فيها قصورا وحمامات ومساجد، زُيّنت بالرخام المجلوب من برّ إيطالية وجزيرة صقلية، وتدعّمت المدينة بنزوح الأندلسيين الذين حملوا معهم أموالهم ومعارفهم في الصناعة والتجارة. ويحيط بالمدينة فحص ذو بساط أخضر تتخلله منازل جميلة بناها المتقاعدون من البحرية الجزائرية. وقدّر الكاتب الإسباني هايدو (في القرن السادس عشر) عدد المزارع المحيطة بمدينة الجزائر بنحو عشرة آلاف بستان، يقوم بفلاحتها نحو 25 ألف أسير مسيحيّ. وكانت مدينة الجزائر تحتوي على 12500 منزل، تحرسها ثلاثة أبراج عسكرية، ويبلغ عدد سكانها نحو مئة ألف نسمة، يرتادون مئة مسجد، وكنيستين للنصارى، وكنيسين لليهود، وهناك ثمانية موارد مائية كبيرة موزّعة على حارات المدينة الرئيسة، توفر ماء الشرب لأهلها، وبها حمامات عمومية مجّانية مبنية بالرخام، بناها حسن باشا، ومحمد صالح رايس، وكان الصيد البحري وافرا. وبالمدينة سبع ثكنات كبيرة للجنود الانكشاريين غير المتزوّجين. إن ازدهار المدينة قد جعل الحياة ميسّرة.».

الهيبة الدولية لإيالة الجزائر في العهد العثماني

ومن فضائل الحكم العثمانيّ، أن صنع للجزائر هيبة دولية بفضل سيطرة الأسطول الجزائري على الحوض الغربي للبحر المتوسط، إلى درجة أن الدول الغربية وأمريكا كانت تدفع الرسوم إلى الجزائر، وفق معاهدات ثنائية توقعها مع حكام الجزائر دون استشارة الدولة العثمانية، مقابل حماية سفنها من القراصنة الأوروبيين. وكانت بحريتنا تقوم بالجهاد البحري ردا على عدوان الصليبيين الذين طردوا المسلمين من الأندلس، وأرادوا تنصير شمال إفريقية. هذا، ولعل ما يؤكد طابع الجهاد في نشاط البحرية الجزائرية، استمرار الحرب بين الجزائر وإسبانية لمدة تقارب ثلاثمائة سنة، تحدث الأستاذ أحمد توفيق المدني عن تفاصيلها في كتاب له. وكانت وهران آخر مدينة جزائرية تم تحريرها من قبضة الإسبان، على يد محمد الكبير سنة 1792م.

 الفترة العثمانية استمرار للسيادة الجزائرية

بالنظر إلى فضائل العهد العثماني في الجزائر، المتمثلة في التصدي للخطر الإسباني المسيحي، وفي إقامة نظام سياسي مركزي جمهوري اكتملت هياكله، وفي تأسيس الجزائر الحديثة بحدود واسعة، وفرض سيطرة الأسطول الجزائري على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، فإنه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نصنف الوجود العثماني في الجزائر ضمن خانة الاستعمار، بل هو فصل من تاريخ الجزائر المنضوية في إطار الخلافة العثمانية وريثة الخلافة الإسلامية، من حقنا أن نعتز به لأنه نقل الجزائر من حالة التشرذم والتفكك المشابهة لحالة ملوك الطوائف إلى حالة القوة الإقليمية، بفضل الأسطول البحري الذي جعل الدول الغربية تتسابق لخطب ودّ الجمهورية الجزائرية كما كانت تسمى، لعقد المعاهدات معها.

حاجتنا إلى رسم سياسة ثقافية/ تعليمية جديدة

أمام ظهور حملة شرسة ضد تاريخ الأمة الجزائرية، أدعو القائمين على الشؤون التربوية والثقافية والإعلامية، إلى التفكير في تأسيس سياسة ثقافية/ تربوية واضحة المعالم، هدفها تطهير تاريخنا من القراءة الاستعمارية التي تنفي وجود الأمة الجزائرية. لقد آن الأوان أن نعيد إلى مركز اهتمامنا وصية المثقف المناضل، رجل دولة محمد الشريف ساحلي رحمه الله، الذي أوصانا بتصفية تاريخنا المجيد من القراءة الاستعمارية المغرضة التي مازالت تفعل فعلها في عقول بعض شبابنا. آن الأوان لترسيخ تفسير الأستاذ عبد الرحمن الجيلالي للعلاقة بين الجزائريين والعثمانيين المبنية على أساس العقيدة وليس العرق، كما جاء في حديثه عن استنجاد الجزائريين بالعثمانيين: «… وكان مِمّن كاتب الأتراك مستنجدا بهم يومئذ لهذا الشأن، أحمد بن القاضي الزواوي صاحب جبل كوكو، وكان ذلك منه بدافع الدين الذي كان يربط العرب والعجم والبربر والأتراك معا، من غير التفات إلى الطابع الطائفي الذي لم يكن له اعتبار ولا أهمية يومئذ تُذكر.».

إن أفضل طريقة لتحصين شبابنا بالوعي التاريخي الصحيح، تتمثل حسب رأيي في نفض الغبار عن المؤلفات التاريخية والثقافية التي كتبها الجزائريون عبر التاريخ، وفي إدراج فقرات منها ضمن البرامج التعليمية، ليعرف الشباب أن أمّتهم واحدة، ولم تكن عاقرا في الفكر والأمجاد والبطولات منذ الأزمنة القديمة، وأنها عريقة في التاريخ كغيرها من الأمم، وساهمت في بناء صرح الثقافة الإنسانية عبر العصور، وأنها أمة متميّزة منفتحة على العالم منذ القديم، لكنها تخالط ولا تختلط بتعبير المؤرخ أحمد توفيق المدني.

كما يجب أن نعيد إلى الأذهان أن الجزائر المعاصرة قد تشكّلت تاريخيا وثقافيا من الأمازيغية والإسلام والعربية، بالإضافة إلى العنصر العثماني الوافد في إطار الإسلام، باعتباره امتدادا طبيعيا للخلافة الإسلامية. فكل هذه العناصر انصهرت في بوتقة الجغرافية الجزائرية عبر القرون، لذا لم يعد الانفصام بينها ممكنا.

أمّا النقائص والسلبيات التي لازمت الفترة العثمانية، خاصة في مجال الضرائب واستعمال التعسف في جمعها، فهي على العموم من طبيعة الأنظمة الاستبدادية السائدة في تلك العهود، إذ لم تظهر مفاهيم حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمكاسب الديمقراطية التي تملأ عقولنا اليوم، إلاّ في النصف الثاني من القرن 19م، أي بعد نهاية الوجود العثماني. لذا، فمن الخطإ إسقاطها على العهد العثماني وتقييمه على أساسها.

هذا، وقد أخبرني المؤرخ الدكتور أرزقي شويتام المتخصّص في العهد العثماني بجامعة الجزائر، أن هناك جهودا علمية تبذل في جامعة الإسكندرية، من أجل إعادة الاعتبار لتاريخ الدولة العثمانية، التي ظلمها المشارقة حين أدرجوها ضمن خانة الاستعمار، وهي ليست كذلك في رأي المؤرخين أصحاب هذه المبادرة العلمية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!