-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الخَلَاصُ من الغرب

ناصر حمدادوش
  • 928
  • 0
الخَلَاصُ من الغرب

صدرت سنة 2021م الطبعة الأولى لكتاب “الخَلَاص من الغرب.. الأوراسية: الحضارات البرية مقابل الحضارات البحرية والأطلسية”، للفيلسوف والمفكر الروسي “أليكسندر دوغين”، وقد ترجمه الدكتور: “علي بدر”.

ويعدّ “دوغين” العقلَ المنظِّر للفكر السِّياسي الروسي بعد تفكُّك “الاتحاد السوفياتي”، فهو من بين الثلاثة كتَّابٍ الأكثر إنتاجًا في روسيا، وخاصة بعد صعوده الصاروخي المتزامن مع صعود “بوتين” إلى السُّلطة سنة 1999م، فهو من أكثر المؤثِّرين في الشَّخصيات السِّياسية وصنَّاع القرار وجمهور المثقفين، حتى لُقِّب بـ”عقل بوتين”.

ونظرية الأوراسية هي أطروحةٌ فلسفيةٌ سياسيةٌ معاديةٌ تمامًا لليبرالية وللحداثة الغربية وللحضارة الأطلسية، هدفها هو التكامل الإقليمي مع أوراسيا، والذي يجب أن يؤدي دورًا رئيسيًّا في عالَمٍ متعدِّد الأقطاب، ويذهب صاحبها في قراءته المعمَّقة إلى كشف عورات هذه الحضارة الغربية وفضح تناقضاتها الخطيرة، والتنبؤ بانهياراتها الوشيكة، والجزم -كحتميةٍ تاريخية- بالانتصار السَّاحق للنظرية الأوراسية، كفلسفةٍ متواضعةٍ غير متغطرسة، لا تدَّعي العالمية ولا الأحادية القطبية.

ويقصد بالحضارة البرِّية الأرضية: الحضارة الأوراسية، بشقِّها الإيديولوجي والسياسي، وبشقِّها الجيوسياسي كمنطقةٍ جغرافيةٍ أوراسية، وككيانٍ قاريٍّ يمتد من أوروبا إلى آسيا، وتشمل الحضارات الأربع (الحضارة الروسية، الصينية، الهندية، والفارسية)، وهي الفلسفة التي تتميَّز بتفسير حياة الناس وثقافاتهم من خلال الأرض التي يسكنونها، فهي فلسفةٌ مرتبطةٌ بالقديم وبما هو روحاني، وتتَّصف بالشُّمولية والمحافظة، في مقابل الحضارات البحرية الأطلسية الدنيوية (البريطانية والفرنسية سابقًا، والأمريكية حاليًّا).

ويعزِّز “دوغين” أفكاره الاستشرافية بما سمَّاه “النظرية الرابعة”، بعد فشل “الشيوعية” و”الفاشية” و”الماركسية”، وهي “الأوراسية” كإيديولوجيةٍ رابعةٍ تملأ الفراغ التاريخي في مواجهة المركزية الغربية، والمتمثِّلة في الأحادية القطبية الأمريكية الحالية، وهو يعتقد أنَّ جميع الأنظمة السِّياسية في العصر الحديث لا تخرج عن نِتاج الإيديولوجيات الثلاثة المتميِّزة: الماركسية والفاشية اللتين فشلتا وتلاشتا من صفحات التاريخ، والديمقراطية الليبرالية الغربية التي تعمل كإيديولوجية متجذِّرة، يُراد لنا أن نُسلَّم بها كنهايةٍ للتاريخ على حدِّ تعبير المفكِّر الأمريكي- الياباني الأصل “فرانسيس فوكوياما”، وكأنها ذروة الكمال التاريخي للإنسانية، وهي الليبرالية التي تهدِّد العالم باحتكار الخطاب السِّياسي والقيم الإنسانية والعولمة المعتدية على الخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية للشعوب والدول، وأنَّ البديل عن هذه “الليبرالية الغربية” هي الحضارة الأوراسية، التي لا تتَّصف بالعنصرية، ولا بتهميش الثقافات الأخرى، بل تحترم الأقليات والقيم الخاصَّة، وتؤمن بالمركزية المطلقة للدولة وبالتعددية القطبية.

إنَّ رصد تأثيرات الأوراسية في ظلِّ هذا الصِّراع الدولي والمحاولات المستميتة للتحرُّر من الهيمنة الغربية يفسِّر هذه التكتلات والفضاءات الإقليمية والدولية التي تتشكَّل في وجه “الهيمنة الغربية”، مثل: العلاقات المتميِّزة بين روسيا وتركيا، وتأسيس منظمة معاهدة الأمن الجماعي كتحالفٍ عسكريٍّ منذ 1994م، والتي تضمُّ (روسيا، بيلاروسيا، أرمينيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان)، ومنظمة شنغهاي الأوراسية (54 بالمائة من سكان العالم)، كمنظمةٍ سياسيةٍ اقتصاديةٍ وأمنية، والتي تضمُّ الآن (روسيا، الصين، طاجيكستان، قرغيزستان، أوزبكستان، كازاخستان، الهند، باكستان، وإيران)، وكمنظمة “البريكس” الاقتصادية والمالية، والتي تجمع الآن أيضًا من بين أعضائها الدول الأوراسية التالية (الصِّين وروسيا والهند وإيران).

لقد تشكَّلت الحضارة الغربية المادية وبسطت هيمنتها على العالم -بقيادة أمريكا– بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، وظلَّ هذا الانتصار بالنسبة للأميركيين مصدر إلهامٍ للذاكرة، ثم مثَّل سقوط جدار برلين سنة 1989م، وتفكُّك الاتحاد السُّوفياتي سنة 1991م لحظة الغرور بالأحادية القطبية، وبدل تقليص وجود حلف “الناتو” أو إنهائه، وهو الذي تأسَّس منذ 1949م للدفاع عن أعضائه كما ينصُّ ميثاقه، فقد عزَّزت أمريكا هذا الحِلْف، واعتبرته أحد أدوات هيمنتها، بالتوسُّع والتدخُّل واحتلال الدول باسم “الحروب الاستباقية” وإستراتيجية “الحروب الكونية ضدَّ الإرهاب”، فقد قُدِّر الإنفاقُ العسكري الأمريكي في حروبها الوحشية التي لم تستثنِ أيَّ بقعةٍ في العالم بحوالي 21 تريليون دولار (21 ألف مليار دولار) في الفترة الممتدة من 2001م إلى 2020م، وبسط القوة العسكرية الضخمة الموزَّعة على نحو 800 قاعدة عسكرية في جميع أنحاء العالم، وازداد جنون الأحادية القطبية بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001م، فأقرَّ “الكونغرس” قانونًا يمنح لأيِّ رئيسٍ أمريكيٍّ صلاحيات شنِّ الحروب العدوانية ضدَّ الدول والمنظمات والأشخاص على خلفية تلك التفجيرات، وتوظيف “هيئة الأمم المتحدة” عبر “مجلس الأمن” بفرض تعهُّداتٍ ملزمةٍ لكلِّ الدول بتغيير القوانين وتجريم الإرهاب دون تعريفه، وفرض الرقابة على الحدود والتحويلات المالية ومحتويات وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وتشكيل لجنةٍ أمميةٍ لمتابعة مدى امتثال الدول لذلك.

ومن آليات فرض الهيمنة الغربية: إستراتيجية الحروب الاقتصادية، وتوظيف الهيئات والمنظمات والمؤسسات الدولية كأسلحةٍ غير تقليدية بيد الأحادية القطبية، كهيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ونظام سويفت، وكمثالٍ صارخٍ على ذلك: حجم العقوبات الغربية القاسية على روسيا على خلفية عمليتها العسكرية في أوكرانيا منذ 24 فيفري 2022م، والتي شملت مجالاتٍ عدة، منها: البنوك ومصادر الطاقة والتجارة والنقل والإعلام والتكنولوجيا والصناعة وحتى الرياضة، والتي بلغت 14022 عقوبة، وهي الدولة الأكثر تعرُّضًا للعقوبات في العالم.

كما أنَّ “الدولار” الأمريكي هو أحد الأدوات الإستراتيجية للهيمنة الغربية، بعد عسكرته وتسليحه كعملةٍ احتياطية للعالم، ومع أنه كان محكومًا ككتلةٍ نقديةٍ متداولةٍ بسعر الذَّهب إلا أنَّ أمريكا تخلَّت عن هذا الرَّبط بينهما أثناء الحرب على الفيتنام لتغطية تكاليفها منتصف سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك فهو يبلغ نسبة 63 بالمائة من احتياطيات العالم، فأمريكا هي الدولة الوحيدة التي لا تأْبَه بالعجز التجاري وحجم الديون السيادية التي ارتفعت إلى 26 تريليون دولار، وذلك بسبب هيمنة الدولار كعملةٍ تحكم النظام المالي العالمي، وعبثية أمريكا في طباعة الدولار دون سعرٍ للصَّرف مقابل الذَّهب، لحاجة أغلب الدول إليه في فواتير الاستيراد وشراء الطاقة والاستثمار في سندات الخزينة الأمريكية والادخار فيها.

ومع أنَّ مفهوم “سقوط الغرب” و”صعود الشَّرق” ليسا مفهومين منفصلين، وليسا مرحلتين متمايزتين بالضَّرورة، في ظلِّ نظامٍ عالميٍّ واحد، وفي ظلِّ تاريخٍ مستمرٍّ بلا انقطاع، ومهما بلغت الحضارة الغربية في سطوتها المباشرة (الاحتلال) أو الإشراف غير المباشر (الاستعمار الجديد) أو قوَّة التأثير على الدول (الهيمنة) فإنَّ صراعها الوجودي من أجل تأبيد الأحادية القطبية لن يكون إلا معاندةً للحتمية التاريخية بإعادة تشكيل النظام العالمي من جديد، وعلى قواعد من التعددية القطبية، وهو ما تصرُّ عليه روسيا والصين في مواجهة الغطرسة الأمريكية، وقد قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير (1997م– 2007م) في منتدى دعم التحالف بين أمريكا وأوروبا في محاضرةٍ تحت عنوان: “بعد أوكرانيا.. ما الدروس الحالية للقيادة الغربية”، يقول: “نحن نشهد نهاية الهيمنة السِّياسية والاقتصادية الغربية”، و”أنَّ حرب أوكرانيا أظهرت أنَّ هيمنة الغرب تشهد نهايتها في ظلِّ صعود الصِّين لتكون قوة عظمى بالشَّراكة مع روسيا في أوضح نقاط التغيُّر في المشهد العالمي منذ قرون”، مستنتجًا أنَّ “العالم سيصبح ثنائي القطب على الأقل أو متعدِّد الأقطاب.. وأنَّ التغيير الجيو سياسي في هذا القرن سيأتي من الصِّين وليس من روسيا”.

هناك عدة ملامح تؤشِّر على تراجع الهيمنة الغربية، ومن أظهرها تساقط حبَّات العِقد الفرنسي في إفريقيا، على اعتبار أنها يد الغرب في الهيمنة على إفريقيا ضمن تقسيم مناطق النفوذ بين أركان المنظومة الغربية، وما تمثُّله ثورة النخبة الإفريقية العسكرية والشعبية ضدَّ الوجود الفرنسي والنفوذ الغربي من علاماتٍ في هذا التحوُّل للنظام العالمي.

يقصد بالحضارة البرِّية الأرضية: الحضارة الأوراسية، بشقِّها الإيديولوجي والسياسي، وبشقِّها الجيوسياسي كمنطقةٍ جغرافيةٍ أوراسية، وككيانٍ قاريٍّ يمتد من أوروبا إلى آسيا، وتشمل الحضارات الأربع (الحضارة الروسية، الصينية، الهندية، والإيرانية)، وهي الفلسفة التي تتميَّز بتفسير حياة الناس وثقافاتهم من خلال الأرض التي يسكنونها، فهي فلسفةٌ مرتبطةٌ بالقديم وبما هو روحاني، وتتَّصف بالشُّمولية والمحافظة، في مقابل الحضارات البحرية الأطلسية الدنيوية (البريطانية والفرنسية سابقًا، والأمريكية حاليًّا).

ولا نتفق مع ما ذهب إليه “دوغين” في هذا الكتاب بأنَّ الحضارة الأوراسية هي البديل عن الحضارة الغربية، وهو ما ينذر بعودة خطر الثنائية القطبية، إذْ لا يتفق ذلك مع واقع صعود قوى أخرى تبشِّر بتعدديةٍ قطبيةٍ تدفع نحو عالمٍ أكثرَ عدلٍ وأمنٍ واستقرارٍ وتوازن.

وهو ما بشَّر به “دوغين” نفسه في موضعٍ آخر ضمن السيناريو المستقبلي الذي تنتصر فيه روسيا على الغرب في أوكرانيا، إذ يتمُّ تأمين هذا العالم متعدِّد الأقطاب خارج دائرة الهيمنة الغربية، وسيظهر قطبان آخران، وهما: روسيا والصِّين، كما ستظهر الهند كقطبٍ ثالث، والعالم الإسلامي كقطبٍ رابع، وأميركا اللاتينية كقطبٍ خامس، وإفريقيا كقطبٍ سادس، وأنَّ العلاقة الطبيعية بين هذه الأقطاب هي علاقة الاحترام والتعاون والتعايش بين الحضارات، وليست علاقة أوهام “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، أو “صدام الحضارات” لصامويل هنتينغتون.

إنَّ الدرس القاسي في التاريخ، هو: “أنَّ الحركة التاريخية غيرُ جامدةٍ على لحظات الألم والانكسار، والتي لا يجدي معها القمع عندما تستوفي شروط النُّهوض بالحرية والسِّيادة والاستقلالية”، وأنَّ الخلاص من الغرب هو شرف الانتساب إلى المستقبل، بل هو حضارة المستقبل، وأنَّ عبيد الغرب مع عليهم إلا الانتظار في غرفة الماضي والتاريخ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!