-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الذكاء الاصطناعي يضع المدرسة والجامعة على مفترق الطرق

د. نوار ثابت
  • 1781
  • 0
الذكاء الاصطناعي يضع المدرسة والجامعة على مفترق الطرق
ح.م
شات جي بي تي يحدث ثورة في مجال الذكاء الاصطناعي

كان الحاسوب في منتصف القرن الماضي يملأ الغرف ويقوم بما يزيد قليلا عن عشرة آلاف عملية في الثانية.

أما سرعة الهاتف النقال اليوم فتزيد عن عشرة الاف مليار عملية في الثانية أي بسرعة تساوي مليار مرة عن سرعة حاسوب وكالة نازا في منتصف القرن الماضي.

وكان جوجل وأشباهه من محركات البحث في نهاية القرن الماضي انجازا مذهلا حيث وضع كل ما دُوّن من معارف انسانية خلال قرون في متناول الباحثين بمجرد الضغط على زر حاسوب. وأصبحنا فجأة في غنى عن العمارات الضخمة لإيواء المكتبات وتخزين الكتب.

لكن تطور الذكاء الاصطناعي خلال العقد الأخير يبدو مزلزلا لأن آثاره تخص كل المجالات وتهدد بزوال كثير من المهن. فإطلاق تطبيق تشات جي بي تي chat gpt، جعل جوجل يبدو إنجازا ضئيلا.
شات جي بي تي تطبيق قادر على الترجمة الفورية لأي نص من لغة لأخرى وتقديم الترجمة. يعني ذلك أننا أًصبحنا في غنى عن المترجمين بعد اليوم!
كما لم يعد لنا حاجة الى تعلم لغات البرمجة لمخاطبة الحاسوب، فيكفينا استخدام لغة البشر لطلب المساعدة من تشات جي بي للإجابة على سؤال أو كتابة برنامج لحل مسالة مستعصية!
ولم يتوقف الأمر عند كتابة برامج الحاسوب، فلشات جي بي تي القدرة على كتابة الشعر ورسم ألواح فنية لم توجد من قبل.

طلبت من تشات جي بي تي أ٫ يكتب شعرا عن الجزائر فكتب:

الجزائرُ العزيزةُ،
بلادُ الأبطالِ والفداء،
أرضُ الخيرِ والعطاءِ،
تجمعُنا حبُّ الأوطانِ والأمجادِ.
من بحرِها إلى صحرائِها،
من جبالِها إلى أوديتِها،
يرفرفُ علمُها فوقَ السماءِ،
يشهدُ على عزمِنا وصمودِنا.
تاريخُها يتحدثُ عن بطولاتٍ ونضالاتٍ،
عن رفضِ الظلمِ والاستعمارِ،
عن حريةِ الإرادةِ والكرامةِ،
عن رجالٍ ونساءٍ لم يستسلموا للخوفِ والضعفِ

طبعا لا يزال أمام تشات جي بي تي مشوار طويل قبل أن يمتلك القدرة على منافسة الشعراء من البشر. لكنه سيتعلم و يحسن من قدرته مع مرور الزمن.

هو تحول تكنولوجي غير مسبوق وهي لحظة فارقة في التاريخ. ستزول الكثير من المهن كما زالت مهنة ساعي البريد بعد ظهور البريد الالكتروني وشبكة الانترنيت. وسوف يستغني الأطباء والجراحون عن التقنيين المتخصصين في تحليل صور الاشعة السينية والرنين المغناطيسي وتشخيص الامراض. فقد اصبحت خوارزميات الذكاء الاصطناعي أقدر على أداء هذه الوظيفة من أي تقني متمرس.

فهل بقي بعد هذا دور للمدرسة والجامعة ؟

تشات جي بي تي إنجاز مزلزل، ليس بسبب تهديده للعديد من المهن فقط، بل لأنه يبدو مهددا “لأفضلية” الإنسان في الكون.
لكن النظر في التطورات التكنولوجية الكبرى التي حدثت في التاريخ ومهدت لانطلاق ما سمي بالثورات الصناعية الأربع لم ينتج عنها بطالة عارمة، بل ظهور مهن جديدة تتطلب مهارات إنسانية مختلفة. حدث ذلك بعد اختراع آلة النسيج في القرن الثامن عشر ومكننة صناعة النسيج الذي زاد في إنتاجية الانسان أضعافا مضاعفة وبعد ظهور الحاسوب وأتمتة صناعة الحديد والصلب، وشبه الموصلات والالكترونيات.

كانت التطورات التكنلوجية التي حدثت حتى الآن في خدمة الإنسان، تعزز قدراته وتكرس “أفضليته” في الكون.
تطورت الآلة وزادت قدراتها عن قدرات الإنسان لكنها بقيت في خدمته وتحت سيطرته، يبرمجها من أجل القيام بوظائف مختلفة و التفرغ لإنجاز ما تعجز الآلة عن القيام به.
لكن امتلاك الآلة للذكاء الاصطناعي واكتسابها لقدرة التعلم خارج سيطرة الإنسان يبدو خطرا داهما بسبب سرعة وحجم التغيرات المحتملة والتي بدأ ت تظهر ملامحها في الأفق.
جميع المهن تبدو مهددة بالزوال، من المترجم والمحامي أو المستشار القانوني أو الاقتصادي إلى تقني المختبر المكلف بدراسة التحاليل المختبرية أو حتى القاضي أو الطبيب لأن خوارزميات الذكاء الاصطناعي ستصبح أقدر منهم جميعا على تحليل البيانات الكثيرة المتوفرة لاستنتاج الحكم الأنسب في أي قضية والتشخيص الأدق لأى مرض.
تطورات تحتم على المدرسة والجامعة أن تولدا من جديد.

لقد حفظنا جدول الضرب ولم يعد أطفال اليوم في حاجة إلى ذلك. أغنتهم عنه الآلة الحاسبة. وكانت البرامج التعليمية تتضمن فصولا عديدة مخصصة لتعليم الطالب تقنيات الحساب التكاملي وحل المعادلات التفاضلية. ثم طورت البرامج القادرة على القيام بالحساب الرمزي مثل ماتلاب وماثمتيكا فأصبح بإمكان الطالب استخدامها ووجبت مراجعة البرامج على ضوء هذه التطورات..

كل الأنظمة التربوية تهدف الى تحقيق أحد الأمرين هما:
1- اكتساب المتعلم لمهارات تمكنه من القيام بوظيفة ما في المجتمع.
2- أو القدرة على فهم القوانين التي تحكم الكون و اكتشاف المجهول منها.
أما المهارات فتفرضها حاجة السوق، وهي تتغير مع مرور الزمن. فحسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي سيحتاج نصف الموظفين في العلم إلى إعادة تأهيل أو اكتساب مهارات جديدة بحلول عام 2025.
قد ينتج عن ذلك ضغط نفسي متزايد على خريجي الجامعات ويستوجب إعادة النظر في البرامج المقدمة للطلبة، والتركيز أكثر على تنمية مهارات جديدة تعطى صاحبها مرونة كافية للتكيف مع عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.
نحن فعلا نشهد تطور ا مزلزلا تبلغ آثاره كل التخصصات و لن تنفع أمامه المقاربات الترقيعية.
سوف تتزايد الحاجة إلى التفكير النقدي والابداعي و ما يسمى بالتفكير الحوسبي أى التفكير الذي يسمح بحل المشاكل المعقدة بتقسيمها إلى أجزاء أصغر يسهل حلها.
كما ستزيد حاجتنا إلى الذكاء العاطفي والمرونة وتحمل الإجهاد. هذه ليست مهارات يدوية يمكن تعلمها بالممارسة والتدريب فقط، لأنها تتعلق بالعقول والنفوس. و نح درك أن تدريب العقول على التفكير السليم والنفوس على تحمل المشقة والإجهاد يتطلب أكثر من تكرير الفعل أو التجربة لأننا لازلنا نجهل الكثير عن العقل والنفس البشرية.
يكتسب الذكاء الاصطناعي القدرة على التنبؤ بمآلات أوضاع معقدة بعد التعلم من البيانات التي تقدم له دون أن يكتشف العلاقة السببية- إن وجدت-بين المدخلات والمخرجات كما نفعل في الحالات البسيطة.

هو لا يبحث عن السنن من خلال تحليل البيانات وإنما يبني توقعاته على قياس وزن كل عامل مؤثر في الحالة المدروسة.
يبقى الحاسوب الذكي عاجزا عن اكتشاف السنن أي القوانين الكونية التي تربط بين الأسباب والنتائج وتسمح لنا بتفسير ما نشاهد من ظواهر. فهو قادر على التنبؤ بالنتيجة دون تفسير الآلية التي تؤدي إليها. ولذلك فهو عاجز في الوقت الراهن على الأقل، عن صياغة نظريات جديدة لأن ذلك يتطلب مستوى من التفكير الإبداعي والخيال لازال الإنسان منفردا به.

سألت من باب الفضول شات جي بي تي السؤال التالي:
“هل يمكنك أن تكتشف أو تصيغ قوانين فيزيائية جديدة؟”
فكتب معترفا بعجزه قائلا:
“ليس لدي القدرة على اكتشاف قوانين جديدة للفيزياء بمفردي. غالبًا ما يتطلب اكتشاف قوانين جديدة للفيزياء صياغة نظريات جديدة التي تتضمن عادةً مجموعة من النماذج الرياضية والبيانات التجريبية والبصيرة البشرية. هذه مهمة تتطلب الإبداع والتفكير الأصلي، وترتبط عادةً بالذكاء البشري!”

لقد تحدث الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينج في جامعة كامبريدج عام 1980، عن وجود “نظرية كل شيء” التي يمكن أن توحد النسبية العامة وميكانيكا الكم -في معادلة واحدة. فذكر أننا نحتاج إلى بعض المساعدة من الحاسوب.

ثم تحدث عن تنامي قدرات الحاسوب مستفزا لعلماء الفيزياء فقال:
“قد لا تكون النهاية في الأفق بالنسبة للفيزياء النظرية ولكن قد تكون في الأفق بالنسبة لعلماء الفيزياء النظرية”!
كان يعني أن الكم الضخم من البيانات التي يحتاج العلماء لتحليلها من أجل اكتشاف الجديد يفوق طاقة البشر ولا مفر من الاستعانة بالحاسوب.
بدأت تتضح ملامح النظام التربوي الذي يجب إقامته لمواجهة تحديات عالم جديد أدخلنا فيه الذكاء الاصطناعي. فلا مفر من تلقين أطفال الغد التحكم في الحوسبة واستخدامات الحاسوب. فأمية الغد لن تعن العجز عن القراءة والكتابة وإنما العجز عن تسخير الآلة الذكية من أجل إنجاز ما تعجز عنه الآلة.
ولا بد من التركيز على تنمية القدرات العقلية والنفسية التي ينفرد بها الإنسان وتضمن استمرارية “أفضليته” على غيره من المخلوقات وتمكنه من تسخير العلم والتكنولوجيا من أجل ومواصلة عمارة الأرض . فذلك شرط لاستمرارية خلافته فيها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!