-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الرّحمة لمواجهة الأزمة

سلطان بركاني
  • 2135
  • 0
الرّحمة لمواجهة الأزمة

كان الصّالحون من ولاة أمر المسلمين، في محطّات متفرّقة من عهود العزّ والتّمكين، يرون أموال الأمّة أمانة ثقيلة في أعناقهم، يُسألون عن كلّ دينار ودرهم منها بين يدي الله يوم القيامة. كانوا إذا وجدوا سَعة وسّعوا على الرعية وأنفقوا على الفقراء، وأقاموا للأمّة ما يصلح دينها ودنياها، وإذا أصابت النّاسَ خصاصةٌ بدأوا بأنفسهم وأهليهم وحاشيتهم، ولم يستأثروا بشيء دون المسلمين، لأنّهم يحفظون جيّدا حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “اللهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به”.

هكذا كان الصّالحون من حكّام المسلمين، في عهود العزّ والتّمكين، ثمّ كانت بعد ذلك عهود وقرون، اتّسعت فيها الهوة بين الرعية والرعاة، وأصبح الأمراء والوزراء يرزخون في أفخر القصور وأفره المراكب، ويملكون من الأموال ما يسدّ جوعة العالمين، بينما الرعية ربّما تمرّ بها أوقات عصيبة، لا يجد النّاس في أيامها ضروريات الحياة.

الحقّ يقال إنّ الرّحمة لم تُنزع في الأزمنة المتأخّرة من قلوب الحكّام والمسؤولين فقط، لكنّها نزعت أيضا من قلوب عامّة المسلمين، فأصبح الجار لا يأبه لجاره، والقريب لا يسأل عن قريبه، حتى صرنا نسمع ونرى من يمتّع أبناءَه بألذّ الأطعمة ويكسوهم من أغلى الثياب ويركب أفره السيارات، وأخ له من أبيه وأمّه لا يكاد يوفّر ضروريات أسرته إلا بمشقّة وعناء، وسمعنا من يسأل إن كان يجوز له أن يعطي زكاة ماله لوالده الفقير؛ ابن يملك مالا زكاته بالملايين وأبوه يرزخ في دركات الفقر والمسكنة!

سادت الأنانية والأثرة، واحتدم التّنافس على الدّنيا، وأصبحنا -إلا من رحم الله منّا- نرفع شعار “نفسي، نفسي”، نتدافع وتعلو أصواتنا أمام المحلاّت لأجل الظّفر بأكياسٍ من الحليب، ونرى من يحمل ما تعجز يداه عن حمله، ولا يفكّر في حاجة بعض إخوانه، وما نراه أمام المحلات التي تبيع أكياس الحليب، نراه أحيانا أمام المخابز، ونخشى أن نراه في المستقبل القريب في أماكن أخرى..

عامّة النّاس يتدافعون ويتنافسون في ادّخار الموادّ الغذائيّة خوفا من ارتفاع الأسعار، والتجّار يتنافسون في استغلال الإقبال على السّلع لرفع أسعارها.. وهي حال لا شكّ أنّها لا تبشّر بخير، وسنجني ثمارها المرّة لو ابتلينا بضائقة تصيب بلدنا الغالي هذا، لأنّنا أبيْنا إلا أن نتخلّى عن أخلاق ديننا وقيمه، بل وعن قيم الإنسانية في بعض الأحيان! على عكس ما نراه ونسمع عنه عند بعض الأمم الأخرى، أين تتجلّى قيم الإنسانية في صور كان يُفترض أن يقدّم المسلمون ما هو أرقى منها.

في أعقاب الزّلزال الذي ضرب شمال شرق اليابان بتاريخ 11/ 03/ 2011م، وبلغت قوته 8.9 درجة على سلّم ريشتر، وقُدِّرَ ضحاياه بعشرات الآلاف؛ أبدى اليابانيون مواقف أذهلت العالم؛ فرغم هول الفاجعة إلا أنهم تحلوا بالسّكينة والهدوء؛ ترى الطوابير التي تمتدّ لمئات الأمتار أمام صهاريج المياه الصالحة للشرب، وأمام المخابز والمحلات، وأمام الهواتف العمومية، بعد توقف أكثر شبكات الاتصال؛ الكلّ ينتظر دوره في سكينة وهدوء، لا زحام ولا تدافع ولا صخب.. تجلّت الرّحمة في أسمى صورها، حيث اكتفى أرباب الأسر باقتناء حاجياتهم الضرورية ليوم واحد فقط، بل قد تحلّى كثير منهم بالإيثار، واقتنوا أقلّ ممّا يحتاجون، ليتركوا لغيرهم ما يقتنون، وعلى العكس تماما ممّا يحصل في بلداننا عند حلول الكوارث والأزمات، فإنّ الأسعار عرفت انخفاضا محسوسا، بل قد عمدت كثير من الشركات والمؤسّسات اليابانية إلى تقديم سلعها وخدماتها مجانا للمنكوبين.. الموسرون اهتمّوا بالفقراء والمعسرين، وذوو السّعة التفتوا إلى أصحاب الضّيق والحاجة. كلٌ يبحث عمّا يمكنه القيام به لمساعدة الآخرين؛ سيدة مسنّة اشترت كمية كبيرة من الخبز، ولكنّها لم تحملها إلى بيتها، بل مكثت غير بعيد عن الطّابور تنتظر حتى نفد الخبز وأغلقت المخبزة أبوابها، عندها أخرجت السيدة الخبز الذي اشترته وراحت توزّعه بالمجّان على أرباب الأسر الذين وصلوا إلى المخبزة متأخّرين.

ربّما يلطف الله بنا في هذا البلد المسلم الذي عانى استعمارا غاشما دام 132 سنة، وعانى عقودا من الويلات والفتن، ربّما يتداركنا الله بلطفه، وتمرّ سحابة هذه الأزمة التي بدأت تلوح في الأفق، على خير، ويجنّبنا الله تداعياتها وآثارها، لكنّها ربّما تغرق بلدنا هذا في دوّامة يعلم الله أين تنتهي بنا.

المسؤولون لن يكترثوا كثيرا بالأزمة مهما كانت حدّتها، لأنّهم حسبوا لها حسابها وبنوا مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم وراء البحار.. نحن من ينبغي لنا أن راجع حساباتنا، ونعود إلى ديننا ونتحلّى بأخلاقه وآدابه، ونتخلّى عن الأنانية واللّهف والشّره.

ألسنا نقرأ ونحفظ قول حبيبنا المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم، مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمّى)؟. إنّنا في أمسّ الحاجة لأن نعيد قراءة هذا الحديث بعقولنا وقلوبنا وأرواحنا، ونعمل جاهدين على ترجمته إلى واقع، فيتحلّى تجّارنا بالقناعة، ويمتنعوا عن استغلال الأزمة لاحتكار السّلع ومضاعفة الأسعار، ونمتنع نحن عن الشّره والهلع، وعن شراء ما يزيد عن حاجاتنا، ونمدّ أيدي العون إلى الفقراء والمحرومين والمعدمين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!