-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الزاوية اليلّوليّة

الزاوية اليلّوليّة

زرت في يوم السبت الماضي (19-1-2019) أستاذي الكبير محمد الصالح الصديق، وقد تكرم فمنحني جزءا من وقته – وهو أثمن شيء عنده بعد الإيمان- وكان هذا الجزء القصير من الوقت كافيا لشحن بطاريتي بشحنة روحية لا يعرف حلاوتها، ولا يقدر قيمتها إلا من ذاقها..
لقد تخلل الزيارة عدة أحاديث في قضايا متنوعة، من ذكريات خاصة، إلى موضوعات دينية، وقضايا فكرية، وشؤون أدبية، ومسائل تاريخية – وما دعاني إلى إنهاء هذه الزيارة إلا ما كان يعانيه الأستاذ من زكام حاد، وما كان يربطني من موعد آخر مع إيدير مشنان، وعبد الكريم حمادوش، والأستاذ الإمام نور الدين طايبي.
قبيل استئذان أستاذي محمد الصالح بالانصراف تفضل فأهدى إليّ – كعادته- آخر ما ألّف، (نوفمبر 2018)، وهو كتابه المسمى “الزاوية اليلّولية ودورها في خدمة الإسلام واللغة العربية”، وما تزال هذه الزاوية تقوم بهذا الدور تحت اسم معهد تخريج الأئمة، حيث أعيد بناء الزاوية بعدما هدمتها فرنسا الباغية، وكان تدشين المعهد في عام 1984، وقد قدر الله – عز وجل- لي أن أحضر هذا التدشين صحبة المجاهد الكبير محمدي السعيد والأخوين عبد الرزاق قسوم وأحمد ابن نعمان.
قسم الأستاذ كتابه إلى ثلاثة أقسام هي “دور الزاوية في خدمة الإسلام واللغة العربية”، و”من شيوخ الزاوية وطلبتها”، و”المعهد اليلولي الذي خلف الزاوية بعد تدميرها” من طرف عدوة العلم والإسلام، فرنسا.
إن الذي دفع الأستاذ إلى تأليف هذا الكتاب هو المكانة الخاصة لهذه الزاوية في نفسه، ففيها علّم جده لأمه الشيخ الشريف الإفليسي، وشقيق جده المجاهد الطيب الإفليسي الذي شارك مع الشيخ المجاهد بلحداد في قيادة جهاد 1871 ضد فرنسا الصليبية، وتوفاه الله في سجن الحراش، وفيها درس الشيخ محمد الرزقي الشرفاوي الأزهري، أستاذ الشيخ محمد الصالح، وزوج أخته، وفيها درّس وعلّم الشيخ محمد الصالح نفسه..
إن الزوايا “الصوفية” كالزوايا الهندسية، منها القائمة، والمستقيمة، والمنفرجة، فهذه الزوايا تتأثر بمن يعمرها ويديرها من الأشخاص، فإن كانوا علماء وصالحين وأتقياء صلحت الزوايا وأخرجت طيبا، وإن كانوا غير ذلك صبغوها بما يشينها دينا وسلوكا، وإن دلسوا على العوام فسموا أعمالهم “كرامات” و”بركات”. ومن كان في ريب من هذا فليلق نظرة على الزوايا ليرى صالحها من طالحها، وعلمها من جهلها.
تحدث الأستاذ في قسم الأول من هذا الكتاب عن موقع الزاوية، ومبانيها، ومواردها المالية، وكيف يتم الانخراط في سلك طلبة الزاوية، وقوانينها التي تنفرد بها، والدراسة فيها، والأسر التي عرفت بخدمة هذه الزاوية، والعلاقات بين أفرادها.
وقد أفرد الأستاذ عدة صفحات لزيارة الإمام عبد الحميد ابن باديس الزاوية، وقد درس عليه بعض طلبتها، وصاروا من دعاة الإصلاح، وأعضاء في جمعية العلماء، ومنهم الشيخ باعزيز بن عمر، والشيخ علي شنتير، والشيخ أحمد حسين، والشاعر حسين حموتن، والشيخ العربي ابن عيسى، الذي كان الإمام ابن باديس يلقبه بـ “القمقوم”، وهو والد الأستاذ رشيد ابن عيسى، الذي ندعو الله – العلي القدير- أن يؤتيه رشده، وأن يعيده سيرته الأولى، حيث كان كأبيه “قمقوما”، ونسأل الله الثبات لنا جميعا..
إن أهم ميزة لهذه الزاوية أنها لا تتبع أسرة، ولعل سبب ذلك أن مؤسسها الشيخ عبد الرحمان اليلّولي لم يعقب، ولهذا كانت تخضع في إشرافها وتسيير شؤونها إلى “مجلس استشاري يتألف من اثني عشر شخصا، يشرف عليه كل شهر طالبان بالشؤون المادية يدعى “مقدم الثمن” (ص 30).
وتناول الأستاذ في القسم الثاني من كتابه الحديث عن الذين اشتهروا من شيوخ هذه الزاوية لما عرفوا به من علوم ولما قاموا به من أعمال، ومنهم الشيوخ أبو القاسم البوجليلي، والشريف الإفليسي، والصادق ابن زكري، وعلي الثقابي، والطيب شنتير، والسعيد اليجري، وقد فصل الأستاذ القول في عالمين لها لهما في شهرة كبيرة، وهما الشيخ الرزقي الشرفاوي، والمولود الحافظي، وكلاهما لقبا بـ”الأزهري”، لدراستهما الطويلة في الأزهر الشريف..
وقد انتسب الشيخ الحافظي إلى جمعية العلماء، ثم لعبت أصابع فرنسا لعبتها، ولم يكن للشيخ – مع الأسف- عزما، فخرج من الجمعية لـ”يستخدم” مع من استخدموا لضرب الجمعية وشق صفها – غفر الله له. وأما الشيخ الشرفاوي فلم يعرف عنه أنه انخرط في جمعية العلماء فإنه “ظل معهم روحا واتجاها حتى توفي” (ص 80)، وكانت “دروس الشيخ تتسم دائما بالنزعة الإصلاحية، فهو لا يفتأ يدعو إلى الإيمان الصحيح، ونبذ التقليد الأعمى، ويحارب البدع والخرافات…”، و”ليس هذا في دروسه فقط، بل في كل مجالسه العلمية ولقاءات مع مختلف الفئات… وفي مقالاته التي كان ينشرها في البصائر والثبات والرشاد” (ص 81)، وبسبب هذه الآراء لاقى الشيخ الشرفاوي من الطرقيين وسمع منهم أذى كثيرا، حتى إنهم وضعوا نشيدا باللهجة القبائلية في شتم الشيخ والتنديد به.. (ص 82)، فصبر على ما أوذي به كما صبر أولو العزم من العلماء، وأعرض عن اللغو لأنه أكرم. وإلى جانب ما أوتي الشيخ الشرفاوي من بسطة في العلم، فقد كان وطنيا، ولم يكن من الذين يفصلون بين العلم والدين والوطنية، وهذه هي روح الإسلام وجوهره، ومما ذكره الشيخ محمد الصالح الشرفاوي أنه قال ذات يوم: “إن وجود الاستعمار الفرنسي بالجزائر وجود غير طبيعي يشبه وجود جسم غريب في جسم الإنسان، ولا يصح الإنسان ولا يرتاح إلا باستخراج هذا الجسم الدخيل، ولا سبيل إلى انتزاعه إلا بعملية جراحية فيها آلام ودموع وماء”، (ص 83)، ولهذا تبين أن ممن كانوا يزورونه سريا المناضل حسين آيت أحمد.
ما كان لعالم مثل الشيخ الشرفاوي المصلح الوطني أن تغفل عنه أعين الكائدين والمتربصين من المنصرين – ذوي الألبسة البيضاء والقلوب السوداء- والإداريين الفرنسيين وخدّامهم “فتوفي أو بعبارة أصح وأصدق بعد زوال يوم الأربعاء 24 فبراير 1945″، (ص 85).
ومن مقادير الله – عز وجل- لوفاة عالمين آخرين مصلحين هما الشيخ السعيد فضلاء (4 فبراير) ومبارك الميلي (9 فبراير)، رحمهم الله جميعا، وجميع علمائنا العاملين.
وممن تعلموا في هذه الزاوية وصاروا شيئا مذكورا الشيخ أبو يعلى الزواوي، والعربي سعدوني، ومحمد الشريف خروبي، ومحمد نسيب، وأحمد حسين، والسعيد اليجري، وحسن حموتن، وعلي شنتير، والصديق آيت صديق، وغيرهم.
وتحدث الأستاذ في القسم الثالث من كتابه عن “المعهد اليلولي الذي خلف الزاوية بعد تدميرها”، ومن أسباب تدميرها على يد الفرنسيين أن هذه الزاوية كانت مأوى لكثير من المجاهدين، الذين كانوا “يؤمون الزاوية في أكثر أيام الأسبوع” (ص 108)، يلتقطون فيها أنفاسهم، ويجددون فيها عزمهم ونشاطهم، فما كان من الصليبيين الفرنسيين إلى أن هدموها في شهر ماي من سنة 1957. وقد قدمت هذه الزاوية ثلة من الشهداء تقبلهم الله – عز وجل- بقبول حسن.
وقد أعيد بناء هذا المعقل لينشر الإسلام، واللغة العربية، وصار معهد لتخرج الأئمة. ونرجو أن يخرج هذا المعهد علماء عاملين مثلما أخرجت الزاوية اليلولية أعلاما في الدين والوطنية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • merghenis

    • الزاوية اليلولية تقع فوق جبل يلولة ببلدية أعزازقة ولاية تيزي وزو.
    • المدرسة اليلولية و الشيخ محمد الصالح الصديق : أنظر مقال الهادي الحسني -"مدارس لولاها ما كنت''

  • CHAWI

    TOUJOUR LA MEME HISTOIRE. EL 3OUROUBA. QUAND ALLEZ CHANGE UN PEUT LE DISQUE

  • أستاذ في قديم الزمان

    المجتمعات المحترمة يتحدث أبنائها عن جامعات تكون علماء ومخترعين ومبتكرين ... ومخابر تصنع العجائب من أدوية لأمراض مستعصية وأجهزة ووسائل وأدوات تساهم في إسعاد البشرية ... وأنت تحدثنا عن مدارس تكون مشعوذين ورقاة وتجار الأحلام والأوهام ... في القرن 21 . ورحم الله محمد بوضياف الذي تنبأ بالمستقبل الأسود للجزائر في كتابة بعنوان ? ou va l'algerie ومنذ 1967 وكذلك محمد أركون الذي تحدث عن " الجهل المقدس " في جزائر الالفية الثالثة

  • احسن

    كانوا حركى لصالع الغزاة المسلمين....لم ينفعوا القبائل في شيء. خدموا اسيادهم و كفى. احتراما لهم كموتى وجب علينا نسيانهم. ملاحضة. كان ايت احمد لا يحب الدينين و منهم هؤلاء

  • العاقل المجنون

    رحل أولئك الرجال فرحلت معهم البركة والسكينة والخير...تركوا البلاد بلاقع تعمرها الغربان الناعقة ، وضاقت الأرض بمن بقي بعدهم وهم على أثرهم...لكن الآثار عفت ، سحقتها ريح المسخ. هذا زمان الغربة حيث يشعر المرء أن الأرض كلها لم تعد له وطنا... ذهب الناس وبقي النسناس!

  • ساسي

    الزوايا الجزائرية خدمت القضية الجزائرية وساعدت الثورة التحريريةولطالما كانت في خدمة الجزائر وشعبها فالف شكر لها

  • ميس نتمورث

    اعداء الهويه الامازيغيه

  • سلام

    وما دعاني إلى إنهاء هذه الزيارة إلا ما كان يعانيه الأستاذ من زكام حاد، وما كان يربطني من موعد آخر مع إيدير مشنان، وعبد الكريم حمادوش، والأستاذ الإمام نور الدين طايبي.

    مافائدة ذكر هذا ؟....هل هو ثرثرة قلم أم ماذا؟