-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشعب “المخ ـ طار”

عمار يزلي
  • 850
  • 0
الشعب “المخ ـ طار”

المرحلة التي مررنا بها جميعا منذ فجر 2000، بما حملته من تحولات سريعة وعنيفة ودامية في فترات غير قصيرة، جعلت المواطن يعيش إلى اليوم تبعاتها وانعكاساتها على يومياته وصحته المعتلة وعمله وفهمه وإدراكه وتمثلاته للواقع والمخيال! تغيرت أمور كثيرة وبشكل سريع وغير متماش مع نمط وسرعة التغير والتحول عند الشعب الجزائري منذ الاستقلال.

فلقد عشنا فترة الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات ضمن نسق تحولي ثقيل نسبيا: نفس العناوين السياسية ونفس المعروضات والمنهج. نفس الرتابة في العيش البسيط الذي لا يتطلب أموالا كثيرة حتى تعيش! بل بالعكس، كان الدينار متوفرا على قلة “الخلصة”، كان الرجل وكانت العائلة مستورة، وكان العمل متوفرا على علته وعلى طريقة العمل عندنا! لكن هذا لا يهم المواطن: ما كان يهم المواطن هو أن يكون له مدخول شهري وسكن. وكان ذلك متوفرا نسيبا. ما لم يكن متوفرا، هو التنوع في المستهلكات والتنوع في الرأي! لكن المواطن إلى غاية أزمة نفط 86، كان لا يأبه كثيرا بمغريات الغرب، لأن الدولة الوطنية كانت تعرف كيف تنتج وتسوق خطابا عمليا معاديا للإمبريالية والصهيونية وتدغدغ عواطف المواطن الجزائري الثوري والوطني والقومي الذي يرفض الذل والمسكنه والعار والاستعمار! كان الجزائري يشعر أنه من خيرة الأمم! جزائري وأنفه أعلى من قمة الإفرست، وهامته مرفوعة وشامخة شموخ جبال الشريعة والأطلس والهقار والبابور والأوراس! مش الرأس “مفروع” مثل حاله اليوم. ولعل هذا ما دفع الرئيس بوتفليقة في عهدته الأولى إلى أن يعيد خطاب مرحلة بومدين: ارفع راسك آآآبا!، إلا أن الناس أولوها بطريقة مغرضة: أرفع راسك آآبا.. باش نعطيك صفعة على الفم!

كنا نبيت ونصبح ونمسي ونضحى ونعيًد ونصوم على نفس البدلة الواحدة في “الفيترينة” وسعرها غال، لأن بائعها لا يملك إلا نسختين منها! كانت مرتبات الموظف العادي لا تتعدى ألفي دينار، لكن الدينار كان أغلى من الفرنك الفرنسي: كنا نصرف ألف فرنك بألف و300 وحتى 500 فرنك فرنسي! أي أن الدينار كان أغلى من الدولار ومن الفرنك مجتمعين! لأننا لم نكن نتكالب ساعتها على شراء العملة الأجنبية، لأنه لم نكن بحاجة لها! فالدولة هي محتكرة التجارة الخارجية، والناس لم يكونوا كلهم يحجون ولا يعمرن أو يسافرون أو يبزنسون، وبالتالي، فلا حاجة لشراء الفرنك أو الدولار إلا قليلا عند الحاجة! لهذا لم تكن هناك هذه السوق الموازية وبهذه الشساعة الهائلة بين السعرين الرسمي والموازي في سوق العملات! فالعمل من هذا النوع أولا، كان ممنوعا قانونيا وبقوانين صارمة، ولأن الضرورة لم تكن تحتم مثل هذا النوع من التجارة في ظل احتكار الدولة للتجارة ولكل المفاصل، فما كان على المواطن سوى استهلاك ما هو موجود وما هو معروض داخليا أو إذا كان مستوردا، فهو مدعم من طرف الدولة المستوردة له!

لكن اليوم، تكاد الدولة تغسل يديها من كل شيء! حتى من السياسة! الكل يبدو أنه ذاهب لأصحاب المال وشكارة الأعمال! فبعد 2000، دخلنا في متاهة جديدة: التنوع والوفرة والكثرة، لكن كلها مستوردة، ولا تكاد تجد شيئا مذكورا يسمى إنتاجا محليا صناعيا أو فلاحيا! حتى البطاطا تستورد، الطماطم، الثوم، الفواكه بكل أنواعها، دون أن نسرد لائحة باقي المواد غير الاستهلاكية من كهرومنزلية وأقمشة وأثاث وهواتف محمولة وأكسيسوارت السيارات والسيارت بذاتها… ووو. حدث ولا حرج! هذا التهافت، ترك الإنسان يعيش حالة من الهستيريا والقلق الداخلي المؤدي إلى المرض النفسي والعصبي، خاصة مع حلول قاعدة وقانون المعادلة الصعبة “العين بصيرة واليد قصيرة”! كل مواطن صار يرى فلانا الذي استغنى في ظرف وجيز وانتقل من ركوب الحمارة إلى ركوب الطيارة، والسفر في سيارة مثل الطيارة وامتلاك فيلات ومعمل والتسوق بالشكارة! فما على المواطن إلا أن يعمل على فعل ما فعله الفاعل السابق، من تحول نحو، النصب أو الرفع أو الجزم، والاحتيال أو حتى الاغتيال أو الخطف أو النهب أو السرقة الموصوفة وكل ما تولد عن هذه التحولات من فساد في طبائع الاستناد، الناتج عن طبائع الاستبداد!

أكثر من ذلك، عرفت التحولات الجديدة قهرا وظلما اجتماعيا ورفعا للحماية عن المواطن الذي كان محميا ومستورا أيام الاشتراكية البائسة، على الأقل في عمله ومعيشته! فلقد قلت نكتة عن نظام الراحل بومدين: “بومدين كان كولونيل، لكن “لاميزير” كانت جنرالَ!”، فلقد بات بعد 1990، طرد العمال تحصيل حاصل من جراء فشل السياسة الاشتراكية التي علمت الناس الكسل والعمل بلا عمل والكسب بدون جهد، مقابل السكوت والرضا بالنظام الشمولي. هذا المورفين الذي طال أمده، سيعمل مفعوله العكسي بعد انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينات عندما ظهرت نكتة على لسان الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد الذي كان إلى غاية 86، ينفي وجود أزمة اقتصادية عندنا وأن انهيار سعر النفط لن يمس الجزائر، لكن بعد أن وصل السكين إلى العظم، اعترف النظام أن الأزمة حقيقية. هذا ما قيل على لسانه: “يقولون أننا عندنا مشاكل، وهذا غير صحيح، لأنه ليست عندنا مشاكل والحمد لله. وعلى كل حال والدولة اللي ما عندهاش مشاكل مش دولة، وحنا الحمد لله ما عندناش مشاكل!”(معناه أحنا مش دولة أصلا!).

خلاصة القول، أن صحة المواطن اليوم المعتلة سببها نفسي وعصبي من جهة واستهلاكي غير صحي من جهة ثانية: نفسي عصبي بسبب كثرة “المشاكل” التي كثيرا ما نفينا وجودها رسميا، ومعاناة الشعب مع العمل ولقمة العيش والحقرة في المؤسسات والعدالة والسوق والبيروقراطية والفساد وضغط الحياة اليومية ونرفزة الناس بلا سبب ظاهري حتى مع “البوطو” نتاع الضو إذا اصطدم به، يرد الزعاف في البوطو وليس في نفسه!: شكون هذا الحمار اللي حط جد هذا البوطو هنا؟.. الشعب يمشي ويأكل في نفسه، كيف لا يمرض ولا يمسك به المصران والقلب وضغط الدم والسكر والزيت والفارينة ومش عارف إيه؟؟! هذا مش فقط غير يمرًض، بل، يهبل، ويخرج من العقل!

هذا ما جعل “الطب البديل” ينتشر كالنار في الهشيم: أطباء الأعشاب والرقية والسحر والشعوذة وضرب الخفيف والحروز، تعود بقوة تزامنا وتكاملا مع الأدوية الطبية التي تستهلك عندنا بالقناطير!

هذا شعب مرّضه وأعياه النظام الاقتصادي السياسي الاجتماعي، يعاني أزمة مزمنة أوصلته إلى مشارف الانتحار وحرق جسده بالبنزين.. رغم غلاء سعره منذ جانفي 16! مع ذلك سيبقى الكثير يستلفون بعض الدنانير من أجل عملية حرق الجسد أمام الجماهير، في الإدارات والمحاكم والساحات العمومية احتجاجا على الحقرة والسكن والعمل! فالبوعزيزي ذهب وترك الحرقة في قلوب كل المحترقين بنار محرقة شعب منتفض ضد أنظمة هشة شاخت وباخت ورفضت أن تترك الوصية لجيل منه تخاف دوما.. وخافت!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!