-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المعادن الصناعية في الجزائر بين الاكتناز والاستغلال (1/2)

عمار تو
  • 2270
  • 0
المعادن الصناعية في الجزائر بين الاكتناز والاستغلال (1/2)

يستعصي، على القرار السياسي عموما، إرضاء كل الشرائح الاجتماعية أمام حتمية البتّ في قضية تنموية أو اجتماعية ما، في أي بلد أو مجموعة بلدان ما، فيحتكم إلى الأساليب الديموقراطية المكيفة على المقاسات المتنوعة، فيرضى البعض، مكرها، دون اقتناع بالقرار، ويعارضه البعض الآخر بطرق مختلفة، فيطرح العامة والاختصاصيون، عن طريق مختلف المنابر الإعلامية متزايدة الإتاحة، رفضهم للقرارات التي تتخذ بمثل هكذا أساليب، مما يشكل مصدر انزعاج وقلاقل واضطرابات تتفاوت حدة أدواتها وأساليبها والمقامرة على مآلاتها، حسب الأنظمة السياسية القائمة.
سنفرد هذه المساهمة لإسقاطات هذه الإشكاليات على الراهن من الانشغالات ذات الصلة والتي تطرح، في الجزائر، منذ أول مخطط تنموي اعـتمد سنة 1967 إلى غاية اليوم، تحت تنازع محتدم متواصل بين الحاجيات الكمية والنوعية المتزايدة للسكان ومحدودية الموارد المتأتية من المصدر الأهم لوسائل الدفع الخارجية، رغم ما تحقق من قفزة تبعث على التفاؤل، من خلال ارتفاع محسوس لصادرات الجزائر خارج المحروقات منذ 2021. وسنقتصر في مسعانا، على الثروات المعدنية الصناعية: غير الطاقوية بما فيها الأورانيوم وغير الأتربة النادرة. ثروات معدنية صناعية عرف استغلالُها، منذ عقود، تراجعا يكاد يكون كليا، أعوزت العزيمة، إلى غاية سنة 2022، الاستمرار في استغلال المناجم المفتوحة أو البدء في استغلال تلك المكتشفة.

يقدِّر مخزون منجم غارا جبيلات من الحديد بنحو 3,5 مليار طن للمساحة التي تمت دراستها فقط، وهو ما يمثل، نظريا، نحو 10 إلى 14 مليار دولار من الصادرات سنويا بالتقريب، كمقابل لنحو 40 إلى 50 مليون طن ستُستخرج، سنويا، ابتداء من 2026، أو ما يمثل نحو 15 إلى 20 % من قيمة صادرات الجزائر السنوية من المحروقات حاليا، وذلك بعد المرحلة الأولى التجريبية (2025-2022) والتي سيستخرج خلالها، نحو مليونين إلى ثلاثة ملايين طن من خامات الحديد والتي ستُنقل بالشاحنات.

شهدت سنة 2022، بالفعل، عزيمة أكيدة للشروع في استغلال هذه الثروات، على غرار منجم الحديد ”لغارا جبيلات” بولاية تندوف، ومنجم الفوسفات بمنطقة ”جبل العنق” بولاية تبسة، ومنجم الزنك والرصاص بـ”وادي أميزور” بولاية بجاية، ومنجم البنتونيت بـ”مغنية” بولاية تلمسان، ومنجمي الباريت بولايتي خنشلة وتسمسيلت، ومنجم ”قطارة” للمنغـنيز بولاية بني عباس ومعادن الذهب المنتشرة، خصوصا، بولاية تمنراست. وسنؤجِّل غيرها من المناجم المتواجدة بولايات أخرى والتي لم تدخل، بعد، مرحلة الاستغلال أو لم توضع، حتى، على الخارطة المنجمية للبلاد والتي قرر، بشأنها، مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 3 جويلية 2022، عند دراسة حالة معدن ”الباريت” بتسمسيلت، ضرورة توسيع هذه الخارطة إلى مناطق الجنوب الكبير بالنسبة لمعدن الباريت لعلاقته بحفر آبار التنقيب على البترول، وغيره من الثروات الطبيعية الباطنية.
لكن: (أ) السؤال المذهبي حول أفضلية الاستغلال الآني للثروات الطبيعية لصالح الأجيال الحالية على إرجائه إلى الحقب اللاحقة لفائدة الأجيال اللاحقة، يبقى، أبدا، مطروحا بجدية حتى إذا كان الجواب عنه لا يرقى إلى الإشكالية المعقدة المطروحة، و(ب) الإشكالية المتعلقة بتصدير الخامات أو المنتجات المصنَّعة المشتقة منها في الجزائر، بالنظر إلى العاجل من الحاجات إلى وسائل الدفع الخارجية، وبالنسبة لصعوبة أو سهولة ولوج الأسواق الخارجية المعقدة، وإن كان الأمل في تصدير المنتجات المصنوعة عوض تصدير خاماتها، قد رفعه، كمبدإ وهدف أسمى في آجال منظورة، رئيس الجمهورية خلال زيارته، بتاريخ 30 نوفمبر 2023، إلى ولاية تندوف وتدشينه بداية استغلال وتحويل معدن الحديد بمنجم ”غارا جبيلات” وإطلاق أشغال إنجاز خط السكة الحديدية المرتبط به.
سنتعرّض، تواليا، للمناجم المعدنية المذكورة أعلاه، بنوع من التفصيل، من حيث اكتشافها وأهميتها وخصوصياتها وانعكاسات استغلالها على الأهداف الإستراتيجية وبالخصوص في ميادين التنويع الاقتصادي واندماجيته وتعويض الإنتاج الوطني للواردات ولصادرات المحروقات التي كانت حصرية، إلى 2021، إذ كانت هذه الأهداف تشكل، دائما، مرامي الخطاب السياسي الاستشرافي للاقتصاد الوطني منذ استعادة الجزائر سيادتها في 1962.

1- منجم الحديد ”لغارا جبيلات” بولاية تندوف
اكتُشف المعدن سنة 1952. وكان عدم استغلاله، إلى غاية 2021، يفسِّر، افتراضا، بثلاثة عوائق متداولة اعتباطيا، بالتـناقل عند العامة والخاصة: (أ) بُعد المنجم عن مناطق التصنيع والتصدير بنحو 1800 كلم عن سواحل الغرب الجزائري ونحو 2400 كلم عن مصنع الحديد والصلب للحجار بعنابة، و(ب) المحتوى المنخفض، نسبيا، للحديد في خاماته، و(ج) ارتفاع محتوى الفسفور، نسبيا، في هذه الخامات، وذلك بالنظر إلى تكنولوجيات الاستخراج والاستخلاص المتوفرة المحدودة في مختلف المراحل السابقة، وإن كانت الجزائر زاهرة خلال عشرية 1970 في ميدان التصنيع ومنها تشييد مركب الحديد والصلب لـ”الحجار” بعنابة.

يُضاف إلى هذه الطاقات، تلك التي يوفرها مركب الحديد والصلب الجزائري- القطري المتواجد بمنطقة ”بلارة” قرب مدينة جيجل والذي يوفر، إلى غاية اليوم، طاقات إنتاج بأكثر من مليونين ونصف مليون طن، في انتظار استلام مثيلتها، قريبا، ليبلغ مجمل طاقاته، نحو خمسة ملايين طن، علما أن مصانع ”أرزيو” و ”بلارة” يستعملان، كمواد أولية، خردوات الحديد المسترجَع المستورَد، بما يبلغ نحو 12 مليون طن بقيمة نحو واحد مليار دولار.

لكن طفوَ المستتر إلى السطح بشأن العلاقات بين المغرب والجزائر بالنظر إلى المعطيات الجيوسياسية حول حق سكان الصحراء الغربية في تقرير مصيرهم واستقلالهم، شكَّل دائما خلفية متستر عليها عند المغرب في علاقات التعاون الاقتصادي مع الجزائر. ومن ذلك، على وجه الخصوص، تعامله مع الاتفاقية المبرمة في 15 جوان 1972 بين ملك المغرب الحسن الثاني ورئيس مجلس الثورة، رئيس مجلس الوزراء للجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية هواري بومدين، بغرض إنشاء شركة مختلطة جزائرية- مغربية (ش. ج. م) لاستغلال منجم الحديد لغارا جبيلات والمنشورة، بعد التصديق عليها، بتاريخ 17 ماي 1973 في شكل أمر، في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية الصادرة بتاريخ 15 جوان 1973. وتنص هذه الاتفاقية، في حيثيتها في فقرتها الرابعة، على أنه: “اعـتبارا أن الجزائر هي مالكة للمنجم المعدني للحديد لغارا جبيلات والواقع على ترابها والخاضع لسيادتها الكاملة”.
ويقدِّر مخزون المنجم من الحديد بنحو 3,5 مليار طن للمساحة التي تمت دراستها فقط، وهو ما يمثل، نظريا، نحو 10 إلى 14 مليار دولار من الصادرات سنويا بالتقريب، كمقابل لنحو 40 إلى 50 مليون طن ستُستخرج، سنويا، ابتداء من 2026، أو ما يمثل نحو 15 إلى 20 % من قيمة صادرات الجزائر السنوية من المحروقات حاليا، وذلك بعد المرحلة الأولى التجريبية (2025-2022) والتي سيستخرج خلالها، نحو مليونين إلى ثلاثة ملايين طن من خامات الحديد والتي ستُنقل بالشاحنات. ويقدَّر أن ترتفع الاستثمارات الإجمالية، بغرض استغلال المنجم، إلى نحو 20 مليار دولارا لاستخراج 3.5 مليار طن المذكورة سابقا.
وتتزايد حاجاتُ مركب الحديد والصلب التركي ”توصيالي” المتواجد بمدينة أرزيو بولاية وهران، إلى خامات الحديد، إذ يتم توسيعه، حاليا، بمصنع جديد، بغرض إنتاج الصلب المسطَّح، تماشيا مع الحاجات الجزائرية الجديدة التي تتطلبها صناعة السيارات المتنامية بقوة في الجزائر في الوقت الحالي. ويُتوقع أن يستلم هذا المصنع الجديد في النصف الثاني من سنة 2024 لترتفع الطاقة الإجمالية لمجموع هذا المركب الصناعي، من ثلاثة ملايين طنّ، حاليا، إلى ستة ملايين طن بعد دخول المصنَّع الجديد مرحلة الإنتاج. وسترتفع العمالة في مجموع المركب، من 4000 عامل مباشر وغير مباشر، في الوقت الحالي، إلى 6000 عامل في أفق 2025، علما أن بداية إنتاج المصنع الأول بدأت في 2013. كما تجدر الإشارة إلى أن صادرات هذا المصنع قد بلغت نحو واحد مليار دولار في السنة الماضية وفي اتجاهات مختلفة من العالم.
يُضاف إلى هذه الطاقات، تلك التي يوفرها مركب الحديد والصلب الجزائري- القطري المتواجد بمنطقة ”بلارة” قرب مدينة جيجل والذي يوفر، إلى غاية اليوم، طاقات إنتاج بأكثر من مليونين ونصف مليون طن، في انتظار استلام مثيلتها، قريبا، ليبلغ مجمل طاقاته، نحو خمسة ملايين طن، علما أن مصانع ”أرزيو” و ”بلارة” يستعملان، كمواد أولية، خردوات الحديد المسترجَع المستورَد، بما يبلغ نحو 12 مليون طن بقيمة نحو واحد مليار دولار، في انتظار استعمال خام حديد ”غارا جبيلات،” نظرا لتراجع مردود منجم ”الونزة” للحديد بولاية تبسة والذي لم يعد قادرا حتى على تلبية حاجيات مركب الحجار بعد أن يكون قد استعاد طاقاته الأصلية المنتظرة في السنة المقبلة.

2- مناجم الفوسفات
تُقدَّر مخزونات الجزائر من خام الفوسفات بنحو 22 مليار طن، في المرتبة الثالثة عالميا. وتتركز مناجم الفوسفات في الشرق الجزائري بولاية تبسة في منطقة ”جبل العنق” على وجه الخصوص. وكانت صناعة تحويل الفوسفات، لإنتاج الأسمدة الآزوتية والمخصِّبات، قد انطلقت خلال عشرية 1970 ضمن سياسة التصنيع الثقيل التي انتهجتها الجزائر، آنذاك، وذلك بإنشاء شركة إنتاج الأسمدة ”أسمِدال” العمومية، وبتشييد أول مركَّب صناعي ضخم للحديد والصلب بـ”الحجار” بولاية عنابة بغرض تسهيل عملية تصدير جزء من الإنتاج إلى جانب تلبية جزء من الطلب الوطني الداخلي. وقد أنجِز، لهذا الغرض، خط مكهرب للسكة الحديدية يربط بين منطقة تواجد منجم الفوسفات وميناء عنابة على مسافة 388 كلم والذي تم تجديده حديثا. كما تجري، منذ شهر أوت 2023، تكملة إنجاز خط مكهرب ثان، مواز للخط الأول تنجزه مؤسساتٌ عمومية جزائرية اكتسبت الخبرة الضرورية لذلك. إلا أن تراجع حركية التعدين التي تبعت الأزمة الاقتصادية والتصنيعية التي عرفتها الجزائر ابتداء من سنة 1980/1981 والتي تفاقمت ابتداء من 1986، تبعه تأجيلٌ متكرر لاستغلال معـظم المناجم المعدنية، فطال هذا الوضع، كذلك، مناجم الفوسفات. والحديث بشأن استغلالها، ظهر، دون تجسيد، ابتداء من سنة 2017 إذ كثرت التصريحات، حتى الرسمية منها، في وسائل إعلام مختلفة، حول شراكة إستراتيجية مع مؤسسات أندونيسية. لكن هذه الأخبار لم تتجسد ميدانيا.

يُنتظر أن تتحول الجزائر، بفضل هذا المشروع، إلى واحد من أهم البلدان المصدِّرة للأسمدة والمخصِّبات في العالم. كما سيتميز إنجازه باندماجية صناعية هامة بين ثلاث ولايات: (أ) تطوير واستغلال منجم الفوسفات لـ”بلاد الحدبة” في منطقة جبل العنق بولاية تبسة، و(ب) التحويل الكيميائي للفوسفات في وادي الكبريت بولاية سوق أهراس، و(ج) إنتاج الأسمدة في ”حجر السود” بولاية سكيكدة.

ولم يتحقق هذا الأمل إلا في سنة 2020، إذ قرر رئيس الجمهورية الجزائرية عبد المجيد تبون، المنتخَب في 12 دسمبر 2019، وتحت ضغط استمرار انهيار أسعار البترول قبل ارتفاعها الجزئي ابتداء من سنة 2021 ثم تراجعها الكبير مجددا إلى غاية اليوم، قرّر استغلال مناجم الفوسفات بتبسة واستغلال مناجم ثروات معدنية أخرى من مثل ما ذكرناه أعلاه وما سنراه أسفله، في رؤية جديدة بشأن التعامل مع الثروات المعدنية للبلاد، يتضح أنها تندرج، منهجيا، ضمن المقاربة الجديدة في ميدان التنمية الاقتصادية للبلاد، تقضي، عكس التصور الإشكالي الذي كان سائدا، بتثمين بعض من الثروات المعدنية الوطنية لصالح الأجيال الحالية بغرض خلق الثروة اليوم، وتشييد قواعدها وبنياتها ومنابعها الدائمة، في فائدة الأجيال القادمة. جدلٌ سنناقشه لاحقا، في استخلاصات هذه المساهمة.
وسعيا لتحقيق هذا المسعى، تم التعاقد بشأن استغلال هذا المنجم، بتاريخ 22 مارس 2022، بغرض إنشاء مجمع مشترك. وتم اختيار الشراكة بين المؤسستين العموميتين الجزائريتين ”اسميدال-ASMIDAL” والمؤسسة العمومية الجزائرية لاستغلال المعادن ”مناجم الجزائر” Manaبنسبة 56% والشركتين الصينيتين ”ووهان ”wuhuan ” و”تيان-آن Tian’an” بنسبة 44%. والمجمع عملاق، مندمج، يهدف إلى استغلال وتحويل الفوسفات باستثمار يبلغ سبعة ملايير دولار. ويهدف، كذلك، إلى رفع إنتاج الجزائر إلى 4.5 مليون طنا سنويا من مختلف مخرجات المنجم. والمشروع سيحول الثروة الطبيعية للمنجم، إلى أسمدة فوسفاتية ونشادر وسيليسيوم، وسيجند كثيرا من الموارد المالية والبشرية والتقنية، وستنعكس بالنفع آثاره الاجتماعية والاقتصادية المباشرة على أربع ولايات، وآثاره غير المباشرة على سبع ولايات، وسيفتح 12000 منصب عمل أثناء أشغال إنجازه، ويخلق، أثناء تشغيله 6000 منصب عمل دائم و24000 منصب عمل غير مباشر.
ويُنتظر أن تتحول الجزائر، بفضل هذا المشروع، إلى واحد من أهم البلدان المصدِّرة للأسمدة والمخصِّبات في العالم. كما سيتميز إنجازه باندماجية صناعية هامة بين ثلاث ولايات: (أ) تطوير واستغلال منجم الفوسفات لـ”بلاد الحدبة” في منطقة جبل العنق بولاية تبسة، و(ب) التحويل الكيميائي للفوسفات في وادي الكبريت بولاية سوق أهراس، و(ج) إنتاج الأسمدة في ”حجر السود” بولاية سكيكدة، وذلك بالإضافة إلى بناء أرصفة متخصصة بميناء عنابة، في شراكةٍ مع مؤسسة صينية، بغرض تصدير هذه المنتجات واستعمال أحدث التكنولوجيات لإنتاج هامّ للمكوِّنات البيئية، بأقل الأسعار، لتثمين مجموع النفايات، لصالح قطاعات أخرى، على غرار الأشغال العمومية والبناء والطاقات المتجددة، والتي ستجسد، مجتمعة، الاندماجية العالية للمشروع.
.. يُتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!