-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الوجه الآخر لتونس التغيير

الوجه الآخر لتونس التغيير

دأبت على زيارة تونس، منذ عهد التمائم، فهي التي أيقظت عقلي من سباته، وجمعت ملكات فكري بعد شتاته. كان ذلك في أوائل الخمسينات، حين ارتبطت علاقتي بتونس العلمية، يوم كانت الزيتونة بإشعاع علمها المضيء، فكان أذان العلم فيها، أذانا صداحا متعاليا، وآذان طالب العلم فيها مشرئبا صاغيا.

  • ومنذها تعددت زياراتي إلى تونس، وقد تعاقبت أطوارها، وتباينت بين الإشعاع والخفوت أنوارها. تلونت زياراتي بين الزيارات العلمية، والسياحية، فحفظت عن مكتبتها العتيدة، و”بيت حكمتها” المجيدة، ومراكز ثقافتها في سوسة، والقيروان، وقايس، البعيدة، حفظت ذكريات سعيدة ربطت صلتنا، بابن رشد، وابن خلدون، والغزالي، وكوكبة من مفكري الوطن العربي يتقدون حماسا فكريا، وينشدون لتونس إشعاعا علميا قويا.
  • كما اكتشفت، في تونس الخضراء، معالم سياحية مغرية، هي قربص، ونابل، والحمامات، وشط سليمان، وحمام الشط، وغيرها، هي قطع من الجمال الربيعي يزينه الجلال الإنساني الطبيعي.
  • تبارك الذي صور تونس، فجعلها قطعا من الجمال المترامي الأطراف، لا يضاهيها إلا جمال وطني الجزائر الغالي الأكناف.
  • كانت آخر زيارة لي، إلى تونس في هذا الأسبوع الأخير من شهر مايو 2011، بمناسبة الاحتفاء بالذكرى المئوية التاسعة، لأبي حامد الغزالي، التي نظمتها “بيت الحكمة”، وهي المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون.
  • تميز الملتقى العلمي هذا، بحضور كوكبة علمية من مفكري تونس، ومفكري الوطن العربي، ما منهم إلا له مقام معلوم في ساحة الفكر الفلسفي. ويمكن أن نسوق عينات على سبيل المثال لا الحصر، فقد حضر من تونس الأساتذة، عبد الرحمن التليلي، وعبد المجيد النجار، وأبو يعرب المرزوقي، ومقداد عرفة منسيه، وتوفيق بن عامر، ومحمد بوهلال، وسليمان الشواشي، ومحمد بن ساسي، وعبد الجليل سالم، وغيرهم، وقد كانت مساهمتهم العلمية متميزة، ولكن كان الغائب الأكبر في هذا الملتقى الدولي الكبير عن تونس، هو الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة رئيس بيت الحكمة، الذي عودنا على حضوره العلمي والإنساني المتميز في مثل هذه التظاهرات الثقافية.
  • أما من البلاد العربية، فقد حضر من الجزائر الأساتذة، ساعد خميسي ونورة بوحناش من جامعة منتوري بقسنطينة، وعبد القادر بخوش من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، بالإضافة إلى كاتب المقال، من جامعة الجزائر 2 بوزريعة.
  • كما حضر من المغرب الشقيق الأساتذة، محمد المصباحي، وأحمد شحلان، وفريد شكري، وعبد الرزاق الدواي.
  • ومن مصر حضر الأستاذان الفاضلان مصطفى لبيب عبد الغني، ومحمد عثمان الخشت.
  • كما حضر من فرنسا كل من الأستاذة إيريك جوفروا من جامعة ستراسبورغ، وكمال عمراني، المغربي الأصل، من مركز البحوث الفرنسية، وطيب شويرف بوبكرين، الجزائري الأصل، من جامعة ليل. ومن إسبانيا الأستاذ جوزيب بويق مونتادا من جامعة مدريد.
  • كان الملتقى حول الغزالي، ملتقى علميا بحق، ولأول مرة سادته الروح العلمية، بعيدا عن البروتوكالات السياسية، والتمجيد والتقديس. ولقد فك هذه العقدة التي كانت سائدة قبل التغيير، الأستاذ أبو يعرب المرزوقي في كلمته الختامية للمؤتمر، حين قال: “لا أتوجه بالشكر إلى أي أحد، فلم يعد لدينا وثن أو صنم، فقد انتهى ـ عندنا ـ عهد الطبل والمزمار”، واهتزت القاعة بالتصفيق.
  • عرب المرزوقي في تقلب الوجوه من عبادة الأوثان والعباد، إلى عبادة رب العباد، ذكرني ببيت الشاعر العربي بدوي الجبل:
  • أمتي كم صنم مجدته
  • لم يعد يحمل طهر الصنم
  • إن مما يميز هذا الملتقى العلمي في تونس، إلى جانب مستواه العلمي المتميز، انعقاده، بعد حدوث التغيير، الذي تقرأ أثره على كل وجه، وعلى كل لسان في تونس.. فلأول مرة في تونس تمشي، وتشهد أنك بدون ظل، رغم الشمس المشعة. فعندما زرت تونس هذه المرة تعمدت أن أمشي، أطول مدة، وأن أقطع مختلف الأزقة فيها، طول شارع الحبيب بورقيبة، وأسواق تونس وصولا إلى جامع الزيتونة،  ثم في الاتجاه المعاكس إلى ساحة برشلونة، فما وجدت إلا وجوها يعلوها البشر، وشبابا يطبعه الحماس الثوري، بالرغم مما تنقل الصحف التونسية منها والأجنبية، عن وجود انفلات أمني في بعض الأماكن، وفي بعض الأحياء.
  • ومهما يكن من استثناء، لكل قاعدة، فإن تونس تصنع ثورتها اليوم في هدوء، وهي في هذا ستبقى رائدة في إحداث التغيير السلمي، الراديكالي، الذي أرسى قواعد التحول، بتوحيد صفوف الضعفاء، والضرب ـ بالقانون ـ على أيدي الظالمين الأقوياء.
  • وإذا كان لي من نصح أقدمه لأشقائنا في تونس، فهي أن لا يستهينو بمرحلة ما بعد التغيير، ذلك أن مرحلة البناء، بناء الإنسان بعد ما أصابه من إفساد، وترميم البناء بعدما أحاط به من الكساد، لهي أشد المراحل حساسية. نحن ندرك أن الجميع يتطلع إلى بناء الغد الأفضل، وإعادة صياغة المجتمع الأمثل، ولكن ذلك لن يتم تحقيقه إلا بالاستجابة إلى مجموعة من التحديات، لعل أهمها:
  • 1 ـ الإتعاظ بما حدث لبلدان شقيقة من فتنة الكراسي والمناصب، والتي ألحقت بالبلاد شر البلايا، أتت على الأخضر واليابس، ولا تزال آثارها ماثلة للعيان، و”إن الفتنة أشد من القتل”.
  • 2 ـ احترام إرادة الشعب، في ما تفرزه الانتخابات “الحرة النزيهة” أيا كانت نزعته، وأيا كانت قناعته، وكما يقول المثل السوري: “من يتزوج أمي أقول له عمي”.
  • 3 ـ إن كل تونسي، صالح لأن يحكم تونس، مهما تكن إديولوجيته أو معتقده، بشرط أن يجعل تونس، في أولوية الأولويات، وكما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
  • نصحت ونحن مختلفون دارا
  • ولكن كلنا في الهم شرق.
  • وإذا كان طيف دون آخر، قد يحظى بتزكية شعبية أكثر، وليكن الطيف الإسلامي مثلا، فإن على دعاة الخطاب الإسلامي، أن يأخذوا العبرة مما حدث لأشقائهم، وأمامهم اليوم أفغانستان، وفلسطين، والجزائر وتركيا، فكل بلد من هذه البلدان له تجربة دامية أو قاسية، فليتعلموا، من أخطاء الآخرين حتى لا يقعوا في فتن غيرهم.
  • وعلى بقية الأطياف من علمانيين، أو محايدين، أن يتحلوا بالروح الرياضية في السياسية، فيقبلوا بنتائج الاقتراح مهما كانت قسوتها، فالوطن حرره الجميع، ويبنيه الجميع.
  • لقد أتيح لي ـ إذن ـ أن أرى وجها آخر لتونس بعد التغيير، وهو وجه تحرير البدن، وتحرير الوطن، إنه وجه تحرير النفوس والفلوس من قبضة المستبدين والمستغلين، ونطمح إلى رؤية وجه آخر لتونس، هي تونس الوئام، والسلام، والانسجام، وهي مسؤولية كل تونسي، حاكما أو محكوما، مجهولا أو معلوما، فقد انتهى كما قال المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي، عهد الأصنام والأوثان، وأرقت اليوم ساعة تحقيق الأحلام، وبناء الأوطان.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • ali

    merci pour cette article