-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

انحدار الأخلاق.. إلى أين؟

سلطان بركاني
  • 6373
  • 16
انحدار الأخلاق.. إلى أين؟
ح.م

الأخلاق كنز حفظه سلف هذه الأمّة، فسادوا الدّنيا وملكوا القلوب والعقول، وأسروا الأرواح، وكانوا دعاة بأخلاقهم ومواقفهم قبل كلماتهم وعباراتهم، أوصلوا الإسلام إلى أقاصي العالم، يوم جعلوا الدّين واقعا عاشوه كلاما طيّبا، ووجوها مشرقة، وأمانة ووفاءً وحلما، وعفوا وصبرا، وسخاءً وبذلا. وعندما قلّ اهتمام المسلمين بالأخلاق وبأثرها في صلاح الدّين والدّنيا في هذا الزّمان، تهاوت أخلاق بعضهم، وصاروا سببا في صدّ كثير من النّاس عن دين الله جلّ وعلا.

انحدار خطير ليس له نظير

تكدّرت الأنفس وضاقت الصّدور وتجهّمت الوجوه، وصار المسلم لا يحتمل قرب أخيه المسلم في بيت الله الذي يفترض أن تتقارب فيه الأجساد، وتتعانق القلوب، فضلا عن غيره من الأماكن، وأصبح المسلم لا يحتمل من أخيه الخطأ والزّلل، مهما كان هيّنا بسيطا.

ضاع الحلم وقلّ العفو والصّفح، وصار الردّ بالمثل أو بالتي هي أسوأ ديدن كثير منّا. قلّ التّناصح وساد التّفاضح، وانتشرت الغيبة في أوساطنا انتشار النّار في الهشيم، وصارت فاكهة كلّ المجالس، وصار من أندر وأعزّ المواقف أن تجد مجلسا يخلو من الغيبة والوقيعة في أعراض النّاس. عُقّ الوالدان وقطعت الأرحام وأسيء الجوار، وانتشرت العداوات، وعمّت القطيعة والبغضاء إلا ما رحم الله. عصت الزّوجات الأزواج، وظلم الأزواج الزّوجات. وعقّ الأبناء الآباء، وضيّع الآباء الأبناء إلا من رحم الله.

عمّ التفحّش في الكلام، وصارت الكلمات البذيئة والنّابية تنطلق من الأفواه لأتفه الأسباب. الأب يسبّ أبناءه بأقذع وأبشع الألفاظ، والأخ يسبّ أخته بأقبح الكلمات. بل صار بعض الأبناء لا يجدون غضاضة في سبّ آبائهم وأمّهاتهم بما يندى الجبين لسماعه، فضلا عن حكايته، وصار كثير من المسلمين وبخاصّة الشّباب، لا يكاد ينطق الواحد منهم إلا بساقط الكلام وبذيء القول، ممّا يحوم حول العورات والسّوءات، حتى أضحى العبد المؤمن الحييّ يندى جبينه وهو يسير في الشّارع، لِمَا يقرع سمعه من كلام فاحش.

قلّ الحياء، بل صار عند كثير من شبابنا وفتياتنا تخلفا ورجعية وموضة قديمة، أكل عليها الدّهر وشرب، وأصبح أمرا عاديا أن يقف شبابنا على قوارع الطّرقات، ليتشبّبوا ببنات المسلمين وليُسمعوهنّ كلّ كلمة ساقطة وبذيئة، وأضحى أمرا عاديا أن تمازح الفتاة المسلمة زملاءها في الدّراسة، وتضاحكهم في المدرسة وفي الشّارع. وغدَا مألوفا ومقبولا أن تجلس الفتاة المسلمة إلى جانب أخيها وأمّها وأبيها، لمتابعة مسلسل مدبلج ينضح بكلّ ما يخدش الحياء ويهدم الأخلاق.

انتشر البخل وعمّ الشحّ، إلا ما رحم الله. قلّ الوفاء وصار سلعة نادرة بيننا نحن المسلمين المؤمنين، وصار المسلم الذي يفي بعهده ولا يخلف وعده غريبا بين النّاس؛ قلّما تجد من يعد وعدا ويفي به في وقته، إلا من رحم الله. قلّ أن تضرب موعدا لأخ من إخوانك فيأتيك في الوقت المحدّد، وقلّ أن تُقرض أخا من إخوانك مبلغا من المال فيوفّيك إياه في الموعد المتّفق عليه، بل صار بعض من قلّت مروءتهم وأمانتهم لا يجد الواحد منهم حرجا في أن يستدين من أحد إخوانه، ثمّ يتحاشى لقاءه، وربّما يعاديه حتى لا يطالبه بالسّداد.

ضُيّعت الأمانة، وصارت عند كثير من المسلمين مغنما، وأصبح كلّ من يضيّع مالا أو متاعا ييأس من رجوعه إليه، بل أصبح المرء لا يأمن على ماله ومتاعه في بيوت الله؛ فأين الإسلام يوم صارت الأمتعة تسرق من المساجد، ويضطرّ المصلّون لوضع أحذيتهم بجانب المصاحف حتى لا تُسرق، والله المستعان؟!.

هذه هي مكانة الأخلاق، فهل من مشمّر؟

إنّ صلاح الدنيا وصلاح الآخرة بصلاح الأخلاق؛ يقول نبيّ الهدى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق). السّعادة كلّ السّعادة في تقوى الله وحسن الخلق، يوم يكون قلب المسلم نقيا طاهرا لإخوانه، ويكون لسانه عفيفا عن أعراضهم. يوم يكفّ العبد المؤمن أذاه عن إخوانه، ويحلم ويتجاوز ويصفح عن أذاهم ويقابل الإساءة بالإحسان والخطيئة بالغفران. يوم يجود مِن هذه الدّنيا الفانية ليسعف خلاّنه، ويسعى في حاجاتهم كما يسعى في حاجته.

حسن الأخلاق سبب لطول الأعمار وسلامة الأبدان وسعة الأرزاق، قال يحيى بن معاذ عليه رحمة الله: “في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق”. حسن الخلق يبلغ بصاحبه درجات قائم اللّيل وصائم النّهار، بل إنّ أثقل شيء في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة: حسن الخلق، وأكثرَ ما يدخل الجنّة تقوى الله وحسن الخلق، وأقربَ النّاس منازل من رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- في الجنّة يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا.

وماذا بعد؟

الأخلاق الحسنة تُكتسب بالمجاهدة والصّبر، كما قال النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: (إنّما الحلم بالتحلّم). ليس مستحيلا أن يغيّر الواحد منّا حياته، ويطهّر أخلاقه. البرّ شيء هيّن، وجه طليق وقول حسن. يقول العلماء إنّ جماع الأخلاق الحسنة في أمور ثلاثة: “بسط الوجه، وبذل النّدى، وكفّ الأذى”؛ بسط الوجه أي بشاشته وابتسامته في وجوه عباد الله المؤمنين. بذل النّدى، أي بذل الصّدقات والإعانات لعباد الله المؤمنين، ومجاهدة النّفس على التخلّص من البخل والشحّ. وكفّ الأذى، أي أن يُمسك المؤمن لسانه ويده عن أذية عباد الله، ويدفع بالتي هي أحسن السيّئةَ، ويعفو عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
16
  • بدون اسم

    السلام عليكم،تحية لك وللقراء ،بارك الله فيك وجزاك الله خير الجزاء على هذا المقال ،نعم ما أحوجنا الى الأخلاق وما يحز في النفس أن يفتقده ممن يقتدون بالنبي صلى الله عليه الذي قال انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق،أما عامة الناس فحدث ولا حرج،نسأل الله أن يهدينا الى أحسن الأخلاق ويردنا الى الاسلام ردا جميلا.. آمين.
    طارق وهران.

  • العراب النبيل

    من اين لنا بالاخلاق ونحن امة اقرا لكننا لا نقرا .. من اين لنا بالاخلاق و نحن بعيدين عن قيم امام الاخلاق سيدنا محمد عليه السلام .. من اين لنا بالاخلاق و نحن بعيدين حتى عن لغة الاخلاق ( اللغة العربية ) لسان القران منبع الاخلاق و صرنا نتبجح بفرنسية نعتقد انها معيار التقدم و الحضارة .. من اين لنا بالاخلاق .. مع ضياع كل دلك .. اما الي اين .. فاقول لك الي الهاوية و الانسلاخ و تردي ثم الضعف و الانهيار و التلاشي .. في اتجاه اللاشيء

  • احمد

    قال رسول الله ص "إنما بعثت لإتمم مكارم الاخلاق" فالنبي ص لم ينف ان هناك اقواما يتصفون بمكارم الاخلاق و لكن جاء ليتممها لأن غير المسلمين قد لا يعرفون او يفرقون بين الخلق الكريم و السيء وتختلف من قوم الى اخر وجاء الاسلام ليبيّنها و يظهرها للناس اجمعين و بالتالي فالمسلمون لا يستوون في معرفة هذه الاخلاق و ربما قد يعصون او يتهاونون في تطبيقها فالمسلم يبقى مسلما مهما كان و سيحاسب على افعاله و هو سر الترهيب في الاحاديث النبوية و القرآن من اتيان بعض الافعال كالزنا و السباب.. و الترغيب في الصدقة والعفة

  • franzo

    merci pour votre excellent commentaire vous entierement raison et je suis completement d accord avec vous et merci encore

  • salim

    قبل أن تسأل : "الى أين" ؟ يجدر بك أن تسأل :من أين ؟
    أنا اعتقد أن مرد ما آلت إليه الأمور هو أساسه النفاق فى التعامل و أرى كذلك أن النهج الذي اتخذه بعض اصحاب الخطاب الديني هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه .
    لقد تحول الأمر عندهم الى وضع كل شيئ فى القوالب الجاهزة و العبارات المسجوعة و حفظناها للأجيال لكي ينال رضا الناس و رضا المعلم و رضا ..... معتقدين أننا فى اللطريق السليم غافلين عن مرافقة الأجيال لتتعانق في تربيتها مع ما يحفظونه ولما اكتشفت الأجيال انها نشأت في جو النفاق فقدت ثقتها في الكل

  • أمانة

    بداية نحن مع الكاتب في الدعوة إلى الأ خلاق التي هي من القيم التي تشترك فيها الانسانية بغض النظر عن ديانتها
    ما لا أتفق فيه معه هو مرجعيتنا الاخلاقية بدل أن يقول قدوتنا هو الرسول الكريم فهو يجعل فدوتنا السلف كأن السلف كلهم صالحون كأنهم ملائكة يمشون على الأرض ووقائع تاريخ السلف تشهد على غير ذلك
    ولمن أراد أن يتعرف على الواقع الاجتماعي والثقافي عليه تصفح كتب التاريخ فهي حافلة بفضائحهم مثال كتاب الاغاني للأصفهاني والبخلاء للجاحظ
    إذا أردنا النهوض بالأخلاق فالمحتمعات الغربية والشرية ماثلة أمامنا

  • عبير

    جزاك الله خيرا

  • سارة

    وهل الشخص الذي سيتصف بكل الصفات التي ذكرها الكاتب و هي أخلاق المؤمن الحقيقي - هل سيغش في عمله ؟ لماذا تريدون فصل العلم و العمل عن الأخلاق الاسلامية ؟ و هل النبي صلى الله عليه و سلم هو قدوتنا في العبادات فقط دون المعاملات ؟

  • سارة

    لقد أكدت في مقالك هذا مقولة أرددها دائما : أن القلوب ضاقت و العقول صغرت - فعلا لقد أصبحنا ننتظر أقل زلة من الاخرين حتى نهاجمهم ، و الكل أصبح وصي على غيره ، و الأدهى أن كل من يكلمك تحسبه ملاكا في أفكاره و لكن التطبيق بعيد عن شريعتنا فأصبح المؤمنون يعدون عدا ، و أكيد ينظر اليهم على أنهم متخلفين . - ملاحظة للكاتب : لماذا ذكرت عصيان الزوجة لزوجها قبل ظلم الزوج لزوجته ، كان من الأجدر ذكر الرجل أولا للقوامة و لأنه سيد بيته فان عصته زوجته فهو المسؤول الأول عن ذلك .و بارك الله فيك على هذا المقال القيم .

  • بدون اسم

    مع الأسف بلدنا غارقة في الانحلال الأخلاقي :
    العنف في الملاعب و الرشوة و السرقة و التزوير و الغش في كل القطاعات و النصب و الاحتيال و الاختلاسات و تزوير الوثائق ، انعدام الظمير المهني و عدم اتقان العمل ، و الخمول و التقاعس عن العمل ، مختصر القول نحن غارقون في طوفان الانحلال
    ليتنا نقتدي بالبلدان المتطورة مثل كوريا ج و اليابان و ألمانيا ، فهذه الدول ليست متفوقة علينا حضاريا و تكنولوجيا و في كل المجالات فحسب ، بل متفوقة علينا أخلاقيا أيضا فليتنا نتحلى و لو بنسبة ضئيلة من أخلاقهم الرفيعة

  • بدون اسم

    اجذنا اخلاق الكفار من باب المغلوب مولع بالغالب.واخذ الكفار اخلاق الاسلام من باب احتكامهم للعقل و تقبل نصائح وافكار فلاسفتهم ومثقفيهم.اخذنا منهم الزنا و ارتكاب الفاحشة والخمر والفسق والتمرد على العادات الموروثة واخذوا من ديننا نبذ الغيبة والكذب والغش والزورواجتهدوا في اتقان العمل والصدق في القول والفعل واهمية الوقت واحترام الجار....لهذا ما يحصل عندنا هو سبب تخلفنا وانحدارنانحو الاسفل (مع ان ديننا جاء بعكس ما نفعله)اما الكفار فاخذوا باسباب الرقي والتطور

  • Hipathia

    الأخلاق منظومة مستقلة عن الأديان ، فقد تجد أشخاصا لادنيين و ملحدين الا أن أخلاقهم راقية ، و يتحلون بقيم انسانية رفيعة ، و مبادئ سامية ، كما أن سلوكهم يكون في منتهى الرقي و التهذيب ، في المقابل قد تجد أشخاصا متدينين لكن أخلاقهم منحطة و سافلة ، أشخاص بلا قيم و لا مباديء و لا يتحلون بأدنى ذرة من الانسانية

  • ابراهيم

    يا استاذ نحن المسلمين أسوأ الناس أخلاقاً و اصبحنا في اعين الاخرين كالقمامة اكرمكم الله القتل ,السرقة, الكذب و الفساد وووو والسبب ابتعادنا لكتاب الله و الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم بحديث شفاعتي لاهل الكبائر من امتي يوم القيامة والله يقول **إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ** و نقول الموحد غير التائب لا يخلذ في النار مهما كان عمله و الله يقول ** وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا**

  • شعيب الخديم

    وهو كذلك جزاك الله خيرا وأحسن إليك.

  • عادل

    بارك الله فيك على النصيحة. ننتظر منكم الكثير كدعاة لعل الله يصلح الامة بكم. فوفقكم الله في نصحكم وباعد بينكم وبين الضلالة.

  • علماني مريض

    ماذا عن اخلاق العلم و العمل........كما انك لم تستشهد بآية واحدةكقوله بعد بسم الله الرحمان الرحيم

    ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ

    مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ

    وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ

    وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

    فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ

    بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ

    إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ