-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بداية الانكسار بعد الانتشار

عمار يزلي
  • 648
  • 0
بداية الانكسار بعد الانتشار

كل الحضارات الإنسانية بدأت من نقطة محلية، ثم توسعت وتضخمت وانتشرت، وهي رغبة وخاصية بشرية فردية وجماعية عند الفرد كما عند الجماعات الإنسانية وبالتالي الدول: البحث عن التملك والتوسع عبر الأرض والأرزاق والخيرات والممتلكات والاستحواذ على مقدرات الأرض من خلال السيطرة على الإنسان المالك والمتملك لهذا الفضاء.

كل الحضارات الآفلة مرت بهذه النقطة الصفرية، ثم توسعت عبر الحروب والفتوحات ومنها الحضارة العربية الإسلامية، وقبل الحضارة الرومانية البيزنطية وقبلها الحضارة الإغريقية والفارسية وقبلهما الحضارات المصرية الفرعونية والسومرية البابلية الأشورية في ما بن النهرين.. وقس عليها باقي الحضارات في باقي القارات الآسيوية وأمريكا اللاتينية والهند وإفريقيا. كل الحضارات بدأت من نقطة صفرية ثم توسعت عبر الحروب والاحتلال، والرغبة في الهيمنة لتوسيع القدرات الذاتية لتصبح القوة المهيمنة على “العالم”: العالم الذي لم يكن يعرف كما نعرفه اليوم، حيث كان في القديم ما قبل القرن الـ14، أي قبل اكتشاف كريستوف كولومب للقارة الأمريكية بالخطأ على أنها “الهند”، إلى رحلة فاسكو دي غاما باتجاه الشرق انطلاقا من البرتغال عبر الرجاء الصالح، حيث كان العالم محصورا في رقعة جغرافية ضيقة لا تتعدى أحيانا القارة الواحدة، فيما اليوم، العالم صار أوسع وصار الاستحواذ عليه مطلبا حاضرا للقوة المهيمنة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

تبدأ الحضارة محلية، ثم تتسع وتنتشر، كما حصل مع الحضارة الرومانية حين استولت على كل المناطق المحيطة بحوض البحر الأبيض المتوسط الذي كان قبل العالم وقتئذ، وباقي المناطق في الدردنيل والأناضول والمشرق العربي، غير أن حركية الانتشار، بقدر ما يكون محركا من أجل البقاء والتوسع، وعنصر قوة، بقدر ما يصبح في وقت من الأوقات عامل ضعف وانكماش وتقلص بدءا من أطراف الإمبراطورية، حيث تنتفض كثير من المناطق والأقوام عن السلطة المركزية في شكل ثورات ورفض للخضوع للهيمنة المركزية لأسباب كثيرة عادة ما ترتبط بالحقوق وبالوازع القومي والديني والجغرافي والانتماء الحضاري السابق والرغبة في الاستقلال بعد أن أخضعت يوما للحضارات “المستعمرة”. هكذا تبدأ الإمبراطوريات في التقلص بعد التوسع والانكماش بعد الانتشار وخروج الأطراف عن هيمنة المركز ووصايته، ويبدأ الدور المركزي في الانكفاء الاقتصادي، ثم السياسي والعسكري لتنقرض بعد أجيال هذه الحضارة التي امتدت من المشرق إلى المغرب ولتقوم حضارة أحرى من رماد الحضارة السالفة أو في جهة أخرى، كما يشير إلى ذلك كل من “توينبي” وابن خلدون، و”شبنجلر” وغيرهم ممن درسوا تعاقب الحضارات وصولا إلى فوكوياما.

اليوم، وفي خضم التحولات العالمية في كل مكان، باعتبار عالم اليوم بقدر ما اتسع، تقلص حتى أصبح قرية صغيرة، خاضعا لهيمنة القطب الواحد ممثلا في أمريكا، لاسيما منذ نحو 30 سنة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. جيل يمر على هذه الواحدية التي أدخلت مفهوم “العولمة” كعنوان لهذه القطبية الواحدية بقيادة أمريكية تدور في فلكها التكتلات الأوربية التقليدية ضمن “الناتو” والاتحاد الأوربي، وتدخل تحتها كافة المسميات والكيانات الإقليمية في كل القارات، حتى تلك التي لم تخضع بالمطلق والرافضة والمقاومة، لا تزال إلى اليوم تتوق لإخضاعها رغم فوات الأوان، لأن الجيل الأول لأربعين سنة قد مر وقد بدأ العد التنازلي لانكماش الحضارة الأمريكية الغربية بدءا من الأطراف القصوى البعيدة عن المركز سواء في آسيا أو الشرق الأوسط، وأول البؤر التي قد تفقد أمريكا والغرب الهيمنة على العلم ومنطقة البحر المتوسط هي الكيان الصهيوني، الذي بدأ كيانه يترنح والذي سيكون أول حجر دومينو يفلت من الصرح الإمبراطوري.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!