-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثقافة “شيّ الدّولة”!

سلطان بركاني
  • 2310
  • 0
ثقافة “شيّ الدّولة”!

خلال عملية سطو على أحد البنوك في مدينة نيويورك الأمريكيّة، صرخ زعيم اللّصوص موجّها كلامه إلى الموظّفين: لا تتحرّكوا، فالمال ملك للدولة، وحياتكم ملك لكم.. استلقى الجميع على الأرض في هدوء، وأخذ اللّصوص ما وصلت إليه أيديهم من المال، ولاذوا بالفرار..

عندما عاد أفراد العصابة إلى وكرهم، قال أحدهم، وكان أصغرهم سنا، ويحمل شهادة في إدارة الأعمال، موجّها كلامه إلى زعيم العصابة الذي كان أكبرهم سنا ولم يتجاوز المرحلة الابتدائية من التعليم، قال: يا زعيم، دعنا نحصي كم من الأموال سرقنا.. ردّ الزّعيم بنبرة حادّة قائلا: أنت غبي! هذه كمية كبيرة من المال، وستأخذ منا وقتاً طويلاً لعدّها.. الليلةَ سوف نعرف من نشرات الأخبار كم سرقنا من الأموال!.. 

في هذه الأثناء كان مدير البنك الذي تعرّض للسّطو يناقش مع مسؤول الحسابات كيف الخروج من هذه الورطة، قال المدير: اتصل بالشرطة بسرعة. فردّ مسؤول الحسابات: اهدأ يا سيّدي، وانتظر قليلا، دعنا نأخذ 10 ملايين دولار ونحتفظ بها لأنفسنا ونضيفها إلى الـ70 مليون دولار التي قمنا باختلاسها سابقا! أعجب المدير بالفكرة، وأربت على كتف مسؤول الحسابات الذي تملّكه الزّهو وهو يقول ضاحكا: سيكون الأمر رائعاً لو تعرّض البنك للسّرقة كلّ شهر.. في اليوم الموالي، ذكرت وسائل الإعلام أنّ 100 مليون دولار تمّت سرقتها من البنك.. قام اللصوص بِعدّ النقود المرّة تلو المرة، وفي كل مرة كانوا يجدون أنّ المبلغ هو 20 مليون دولار فقط.. أسقط في أيديهم وما كان منهم إلا أن قالوا: لقد خاطرنا بحياتنا من أجل 20 مليون دولار، بينما حصل مدير البنك على 80 مليون دولار من دون أن يعرق جبينه أو يتحرّك من مكتبه!

هذه الواقعة حصلت في الولايات المتّحدة الأمريكية، وحصلت وتحصل مثيلاتها في المجتمعات الغربية؛ فهذه المجتمعات ليست مجتمعات مثالية كما يروّج له بعض المتعلمنين، لكنّ هذا الذي يحدث عندهم، لا يكاد يمثّل شيئا إذا ما قورن بما يحصل في كثير من بلاد المسلمين من سرقات عملاقة، بأساليب وطرق شيطانية تتنوّع وتتجدّد مع الوقت، حتى صارت السّرقة تجري في عروق بعض المسلمين وبلغت بهم إلى حدّ الإدمان، ومع كثرة السّرقات وكثرة أخبارها، لم تعد السرقة في واقع كثير من المسلمين أمرا منكرا يستوجب الشّجب والذمّ، بل أضحت أمرا معهودا ومألوفا بين أكثر النّاس.. الجميع –إلا من رحم الله- يجدون لأنفسهم المبرّرات والأعذار، من الموظّف الصّغير إلى المسؤول الكبير. 

تجد الموظّف الصّغير في الإدارة لا يكاد يترك شيئا ممّا تصل إليه يده إلا وسرق منه ما أمكنه اختلاسه، يسرق الأوراق وحافظات الأوراق والأقلام والدّفاتر، ليأخذها إلى أبنائه مزهوا بفعلته، ويتباهى أمام زوجته وأولاده بأنّه حصل عليها مجانا ولم يدفع دينارا واحدا ثمنا لها، فهي ملك للدّولة والجميع يسرقون من أملاك الدّولة! بل ربّما تجد من يسرق موادّ النّظافة من المؤسّسة التي يعمل فيها، ويأخذها إلى بيته، فإذا ما أنكرت عليه زوجته، قال: أنتِ لم تري ما أخذه المسؤول أو المدير!.. 

في المستشفيات والمراكز الصحية، تجد بعض الممرّضين وبعض الأطبّاء ومسؤولي المصالح الذين أعمت الدّنيا أبصارهم وعشش الطّمع في قلوبهم، يسرقون الضمّادات والحقن وأدوية التعقيم، ويأخذونها إلى بيوتهم، ويهدون بعضها إلى أقاربهم وخلانهم، فإذا ما تقدّم أحد المرضى أو المصابين بعد ذلك إلى المستشفى أو المستوصف العموميّ، فوجئ بالممرّضين يطالبونه بشراء الحقن والضمّادات وأدوية التعقيم من حسابه الخاصّ.. في المطاعم المدرسية والجامعية، تجد بعض الطباخين وأعوانهم، يحملون ما تنوء الأيدي عن حمله إلا بمشقّة، ويملأون القفف والأكياس بالفواكه واللحوم، وأدهى ما في الأمر أنّهم لا يأخذون ما يبقى من أطعمة بعد أن يحصل التلاميذ أو الطلبة على حقهم، لكنّهم يتخيّرون وينتقون لأنفسهم أفضل قطع اللحم والفواكه ويضعونها جانبا ليأخذوها في نهاية دوام العمل! 

أمّا بعض المسؤولين عن المطاعم المدرسية والجامعية، فسرقاتهم عادة ما تكون من الوزن الثقيل؛ تجد بعضهم يتعاقدون مع بعض التجّار والمموّنين، ليزوّدوهم بالسّلع التي قارب تاريخ صلاحيتها على الانتهاء، مقابل تخفيضات معتبرة في أسعارها، لكنّ الأسعار التي تدوّن في الفواتير تكون مضاعفة، والفارق في السّعر يوضع في جيب المسؤول أو المقتصد، وربّما يقتسم بين المقتصد والمدير ومسؤول المطعم.. 

في الإدارات والمؤسّسات، تجد صغار المسؤولين وكبارهم يسخّرون مركبات المؤسّسة لمصالحهم الخاصّة، فيتنقّلون في سيارات الإدارة ويتجوّلون ويحملون على متنها زوجاتهم وأبناءهم في رحلات سياحية إلى الشواطئ والمنتزهات، بل إنّ سيارات الإسعاف في بعض المستشفيات تستغلّ لصالح بعض المسؤولين وبعض السّائقين، في الوقت الذي يحرم منها بعض المرضى الذين يُضطرّ ذووهم إلى نقلهم لمسافات بعيدة في مركباتهم الخاصّة. وما قيل عن المركبات والسيارات، يقال أيضا عن التجهيزات الأخرى التي يتمّ إخراجها من المؤسّسات خلسة، لتستغلّ في المصالح الخاصّة لبعض الموظّفين وبعض المسؤولين… إلى آخر ما هنالك من المظاهر التي تتكرّر كلّ يوم في الإدارات والمؤسّسات، من دون وازع أو رادع.. نعم، ليس كلّ الموظّفين ولا كلّ المسؤولين على ما ذكرنا، لكنّ ثقافة الاختلاس بدأت تشيع في المجتمع شيوعا مقلقا، وكأنّنا نسينا أنّنا مسلمون ندين لله بدين يحرّم السّرقة، بل ويجعلها من كبائر الذّنوب، ويلعن صاحبها، يقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “لعن الله السّارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده”.. ونسينا قبل هذا قول الله جلّ وعلا: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (المائدة، 38).

إنّه لأمر مؤسف حقا أن تجد عبدا مسلما يصلّي ويصوم، ويحجّ ويعتمر، وربّما تجده يضع سجادة في زاوية من زوايا مكتبه، وأخرى في سيارته، لكنّك تجده لا يتورّع عن السّرقة، ويجد لنفسه الأعذار والمبرّرات في استغلال الممتلكات العامّة لصالحه وصالح أسرته، ويتساهل في أمور كثيرة يظنّها هيّنة وهي عند الله عظيمة، ((وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)).. 

نعم، من واجب المسلم أن يحافظ على دينه ويحافظ على صلاته في أوقاتها ومن واجبه أن يحجّ إن استطاع إلى ذلك سبيلا، لكنّ من واجبه أيضا أن يبتعد عن الحرام ويجعل بينه وبين أموال النّاس والأموال العامّة حاجزا لا يتخطّاه، لأنّ السّرقة تُبلي الإيمان في قلب العبد المؤمن، وتمحق بركة عبادته، يقول النبيّ قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن”.. كان يوسف بن أسباط -رحمه الله- يقول: “إن الشاب إذا تعبَّد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، إن اجتهاده مع أكل الحرام لا ينفعه”. ويقول وهب بن الورد رحمه الله: “لو قمت قيام السارية ما نفعك؛ حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام؟”، ويقول ميمون بن مهران عليه رحمة الله: “لا يكون الرجل تقِيّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك الشحيح لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه”.

فحذارِ حذارِ أخي المؤمن.. حذار من أن تمتدّ يدك إلى مال غيرك.. حذارِ من التساهل في المال العامّ، ولو كان قلما، أو ورقة.. اشترِ بمالك الذي تكسبه بعرق جبينك وإياك والطّمع.. قد تغريك نفسك بأخذ شيء من دون مقابل، فتعاقب بضياع أو فساد ما هو أثمن وأهمّ منه، وربّما تبتلى بذهاب الإيمان والخشوع من قلبك.. احذر نفسك أن تقنعك بجواز السّرقة بحجّة أنّ كبار المسؤولين وصغارهم يسرقون الملايير، فالحساب عند الله بالموازين؛ من سرق الملايير حوسبَ على الملايير، ومن سرق قلما حُوسب به، ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين)) (الأنبياء، 47).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!