-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حاجتُنا إلى الأمن الهوياتي

حاجتُنا إلى الأمن الهوياتي

نظّمت المحافظة السامية للأمازيغية بالتنسيق مع ولاية تلمسان ملتقى خُصّص لموضوع “الأمن الهوياتي”، عُقد في قصر الحمراء يومي 21 و22 فيفري2023م. وعبّر الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية السيد سي الهاشمي عصّاد في كلمة الافتتاح عن سياسة مؤسسته الهادفة إلى إزالة التشنُّج برويّة وهدوء وسلاسة، موضّحا أن إعادة الاعتبار للمكوّن الأمازيغي يشكّل صمام الأمان للوحدة الوطنية المتميّزة بالتنوع الثقافي.

أمّا السيد والي ولاية تلمسان فقد رحّب في كلمته بضيوفه، متمنّيا لهم التوفيق في أشغالهم، علما أنه لم يدّخر أيّ جهد لإنجاح الملتقى الذي شمله برعايته. وكانت البداية تدشينُ “لافتة” مطار مصالي الحاج المكتوبة باللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية.

برنامج الملتقى

شارك في هذا الملتقى المندرج ضمن فعاليات الاحتفال المزدوج باليوم الدولي للغة الأم وأسبوع اللغات الإفريقية، عددٌ من الباحثين الجامعيين المختصين في مجالات الأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والفلسفة، وهم السادة والسيدات: (بن موسات بومدين، جامعة تلمسان/ سعدي نادية، جامعة الجزائر 2/ فريد بن رمضان، جامعة بومرداس/ فضيلة شبابحة، جامعة المسيلة/ دواق الحاج، جامعة باتنة/ فارس لونيس، جامعة الجزائر3/ عبد القادر عبد العالي، جامعة سعيدة/ عبد الحفيظ ساس، جامعة تلمسان/ كريم وارس، جامعة وهران 2/ نبيل صحراوي، جامعة الجزائر3.). تحدَّث هؤلاء الباحثون -كلّ في مجال تخصّصه-  عن ضرورة الاهتمام بالمكوّن الأمازيغي في إطار تكامليّ مع المكوّنين الإسلامي والعربي، بطريقة سلسة من شأنها أن تزرع الوئام والطمأنينة والاستقرار بين المواطنين، وتقيهم شرور خطاب الكراهية الذي كشَّر عن أنيابه في الفضاء الأزرق بصفة خاصة.

أما مداخلتي فكانت بعنوان:”البعد الأمازيغي في نشاط الحركة الإصلاحية الفكرية الجزائرية ما بين 1920-1954م”، أوضحتُ فيها اهتمام العلماء في كتاباتهم بالبعد التاريخي الأمازيغي (أبو يعلى الزواوي، مبارك الميلي، أحمد توفيق المدني، عبد الحميد بن باديس، أحمد سحنون، محمد الصالح رمضان، عبد الرحمن الجيلالي). جاء ذلك في سياق المقاومة الفكرية، قصد توجيه رسالة قويّة للاستعمار الفرنسي – الذي كان يدّعي أنه وريثُ الرومان في الجزائر- مفادها أن الجزائر أكثر عراقة من فرنسا، وأنها قاومت الاستعمار الروماني دون هوادة.

في رحاب بني سنوس

برمج المنظِّمون زيارة ميدانية نحو دائرة بني سنوس المعروفة على المستوى الوطني بتميّزها في مجال الاحتفال بالسنة الأمازيغية (ناير)، ولعلّ أهمّ مظهر لهذا الاحتفال، مسرحية “أيْرَاذْ” (الأسد) التي يؤديها الشباب عبر أزقة القرى يوم 12 جانفي من كل سنة (رأس السنة الأمازيغية). هذا ورغم تراجع اللسان الأمازيغي في منطقة بني سنوس بصفة ملحوظة، فإنّ سكانها يدركون أنهم أمازيغ، فقد  أخبرني السيد محمد بومشره أنهم يُسمّون إلى اليوم “لقبايل”. كما أخبرني أحد سكان قرية تافسْرا بعجالة، أن الكثير من الأماكن ما زالت تحمل أسماء أمازيغية، ذكر منها حقلا ذا تربة حمراء يسمّى مَزْوَاغ (التسمية مشتقة من كلمة أزُوڤاغ الأمازيغية التي تعني الأحمر)، وهناك مكانٌ آخر يسمى سْكُورْتَينْ(أي حجلتان)، ومكان آخر يسمّى مْسِيوَنْ (أي البستان).

قرية تافسْرَا.. تراث أصيل يستغيث

تعتبر قرية “تافَسْرَا” بمثابة متحف على الهواء الطلق للثقافة الأمازيغية. ومعنى هذا الاسم حسب الناشط الجمعوي بن أحمد الطيب، هو مكانٌ مخصّص للنشر، بمعنى آخر مخصّص لتجفيف الفواكه (يَفْسَرْ بالأمازيغية معناه نشَر شيئا للتجفيف). وتفيد شهادة السيد بن طاهر عبد الكريم بأن جامع القرية يُعدّ من أقدم المعابد في الجزائر، إذ يعود تاريخه إلى فترة ما قبل الإسلام. وقد أكّد السيد بن جعفر محمد (باحث في علم الآثار) هذا القول، داعيًا السلطات المعنية إلى إجراء دراسة علمية قصد تحديد عمر المسجد بدقة. هذا وقد احتفظت الذاكرة الجمعية لسكان تافسْرَا بالاسم الأمازيغي للمعبد (تامَزْڤِيدَا). ثم تحوَّل بعد الفتح الإسلامي إلى مسجد للصلاة، كما يحتوي على حجرات للتعليم وتحفيظ القرآن. وهناك شاهد قبر مصنوع من الرخام معروض بساحة الجامع، قد يعود لأحد مشايخ هذا المسجد. ولا تزال على جدار من جدرانه بعض النقوش التي تعود إلى الفترة المسيحية. وبقرب المسجد مغارات (إفرَانْ)عديدة تحتمل أكثر من تفسير، ربما كانت “خلوات” للتعبُّد، أو مساكن كان يأوي إليها الإنسان في العصور القديمة، وهي في حاجة ماسَّة إلى الصيانة، ولو بسياج يحميها من عبث الطفيليين الذين لا يقدّرون قيمتها التاريخية. وقد أخبرني السيد بن أحمد الطيب (ناشط جمعوي) أن هناك قصرا تحت المسجد، حاولتْ فرقة من الشباب فكّ لغزه، لكنهم عجزوا عن استكمال الاستكشاف، بسبب ما أثاره الدهليز المتشعِّب من رهبة لديهم، ولعدم امتلاكهم للمعدّات الضرورية لانجاز هذه المهمة في ظروف مناسبة.

حوارٌ على هامش الملتقى

على هامش النشاط الرسمي، كان هناك تجاذبُ أطراف الحديث بين الباحثين والإعلاميين والمواطنين حول الشؤون الأمازيغية المختلفة (تقاطع المتغيّرات، أسماء الأماكن، الحِكم والأمثال). ولا شكّ أن فوائد هذا الاحتكاك لا تقلُّ أهمِّية عن النشاط الرسمي. وحسب شهادة السيدة فتيحة المولودة في بني سنوس (مرشدة ثقافية) فإن اللسان الأمازيغي يكاد ينقرض في مسقط رأسها. بيد أن الأمازيغية مازالت حيّة تُرزق في تلمسان، تتجلى في أسماء الأشخاص (يغمُراسن، حمُّو، هواري، بومدين، سنوسي)، وكذلك في  أسماء الأماكن منها: لاله ستي، تاڤرارْتْ، أڤادِيرْ، تلمسان، أحْفِيرْ، تافسْرا، تامزْڤيدا، تافْـنَه. ومن أسماء الأماكن الأمازيغية (طوبونوميا) التي أطلعني عليها السيد بن طلحة محمد المهتم بإحصائها (وهو من قرية الكاف بلدية سيدي مجاهد، دائرة بني سنوس): ثالا اُوسَرْذونْ، إغْزَرْ اُوعْبُو، إفْرِي حَوّا، ثالا قنْطَرْتْ، ثالا وَلْفِيفْ، ثالا وَلْغَمْ، ثاجَرْثِيلا (ثاڤرْثِيلْتْ). كما قيل لي أن معظم الأعشاب الطبية مازالت تحمل أسماء أمازيغية. وقد أخبرني الدكتور عبد الجليل مرتاض -الذي حضر جانبا من فعاليات الملتقى- أن اللغة الأمازيغية مازالت منتشرة في منطقة سيدي بوسعيد التي لم نتمكن من زيارتها لضيق الوقت.

رُبّ صدفة..

على هامش أشغال المؤتمر، كانت لنا -نحن المشاركين- فسحةٌ من الوقت للتجوُّل في المدينة. وفي هذا السياق كانت وجهتي نحو حيّ المَشْوَرْ العتيق الذي ينضح بعبق تاريخ الزيانيين. وحينما هممتُ بالدخول إلى دار الثقافة، رأيت بقربي شخصا مبتسما ذكّرتني ملامحه وهندامه بشخصية مصالي الحاج رحمه الله، فبادرني بالسؤال: ألستَ أنت السيد محمد أرزقي فرّاد؟ فأجبته بنعم، قبّل رأسي ثم قدّم نفسه، وهو السيد محمد بومشرة المسكون بالهمّ الثقافي (من منطقة بني سنوس). تجوّلنا في أجنحة دار الثقافة وخاصة المكتبة التي وجدناها في نشاط كخلية نحل. وبعد ذلك دعاني إلى تناول القهوة في ساحة الجامع الكبير، فعرجنا على مكتبة الشمس، وعلى مكتبة البصائر. ثم طلبتُ منه أن يدلّني على “الفرّان” المختصّ في إعداد وفي بيع كعك تلمسان الشهير، لأنه لابد لزائر المدينة أن يقتني كمية منه. لاحظت أثناء التجوّل أن السكان لا يزالون يستعملون كلمة “درب” للتعبير عن أزقّة حيّ المَشْوَرْ الضيقة. هذا وكان بودّي أن أزور معه معالم تاريخية أخرى (مسجد سيدي بومدين، المتحف، الجامع الكبير، لاله ستّي، وغيرها)، كما كنت أتمنى أن ألتقي الباحثيْن محمد هواري، ومحمد حمداوي المهتمين بتاريخ منطقة تلمسان بكل مقوماته الثقافية (الأمازيغية والعربية)، لكن الوقت كان ضيّقا. فافترقنا بعد أن تبادلنا أرقام الهاتف للتواصل مستقبلا.

 توصيات الملتقى

من الطبيعي أن يختتم الملتقى بتوصيات تربوية وعلمية هادفة إلى دعم النقاش الهادئ وتوسيع الشراكة بين المحافظة السامية للأمازيغية وبين مؤسسات الدولة، قصد بناء تصوّر معرفي شامل يخدم مقومات الهوية الوطنية بكل تنوّعاتها اللسانية والثقافية. مع الإلحاح على إدراج موضوع الأمن الهوياتي ضمن اهتمامات المخابر الجامعية. كما ألحّ المشاركون في الملتقى أيضا على وجوب تبني إستراتيجية ناجعة لمواجهة خطاب الكراهية الذي يهدّد تلاحم الثلاثية الدستورية “الإسلام، العربية، الأمازيغية”. وكذا مراجعة صيغة التعامل مع مادة اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية، بنيّة الارتقاء بها لتصبح ثالث الأثافي في عملية تحصين صرح الوحدة الوطنية وتكريس المواطنة في المنظومة التربوية.

فما أحوجنا إلى البناء على البناء! وإلى استخلاص العبر من الحركة الإصلاحية الفكرية المحتضنة للمكوّن الأمازيغي بشعار مؤداه: الأمازيغية لنا- العربية لنا- الجزائر تسعهما- والإسلام حبلهما المتين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!