-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أقواس

حتى العقاد يَضْحَكُ !!

أمين الزاوي
  • 5172
  • 3
حتى العقاد يَضْحَكُ !!

العقاد كاتب معقد، العقاد كاتب جاد دائما، العقاد كاتب متعصب، العقاد كاتب متجهم وغيرها من الأحكام والأوصاف التي لطالما ألصقت بهذا الكاتب، هذه الأيام مدفوعا بإحساس غير واضح قررت أن أقضي أسبوعا في ضيافة عباس محمود العقاد (1889 – 1964)، لم تثرني كتبه المعروفة في النقد الأدبي أوالإسلاميات أو سيرته الذاتية المتميزة أو حتى روايته المثيرة للجدل “سارة”…

  • وجدتني مشدودا  إلى كتاب  لطالما استبعدته من قراءاتي إنه: “جحا الضاحك المضحك” الذي نشره في الثلاثينيات، أستوقفني هذا الكتاب من عنوانه المتناقض أصلا مع ما عرفناه عن شخصية العقاد الصائمة الدهر عن الضحك، وبدأت القراءة وإذا بي، أنا الذي كنت أرتب العقاد بعد  طه حسين وأحمد أمين والزيات وجورجي زيدان وأفضل كتبهم على كتبه، هذا المساء أجدني وبعد ربع قرن أعيد اكتشاف العقاد من جديد، هذا المساء أنزل العقاد القناع الذي لبسه طويلا .
  • بين  جحا الضاحك المضحك” للعقاد و ” le rire ” لبرغسون
  •  في كتابه “جحا الضاحك المضحك” نكتشف العقاد فيلسوفا بمعنى الكلمة، فكتابه هذا لا يقل أهمية  معرفية عن كتاب       ” le rire ” للفيلسوف الفرنسي المعروف هنري برغسون. لقد قرأ طلبة الفلسفة وأهل المسرح في العالم العربي كثيرا أو قليلا عن برغسون وكثيرا ما استشهدوا بمقولاته ولكن لا أحد قرأ أو انتبه إلى كتاب “جحا الضاحك المضحك”  للعقاد، وأزعم أن كتاب العقاد أكثر حميمية في القراءة من كتاب برغسون، لأنه كتاب يستند  في استشهاداته واستقراءاته على الموروثات الثقافية الشرقية والعربية والإسلامية دون أن يغلق الباب أمام التراثات الثقافية الأوروبية. كتاب “جحا الضاحك المضحك” للعقاد الذي قد يبدو للوهلة الأولى وانطلاقا من عنوانه أنه هامشي أو”خفيف” أو”غير دسم”، على قولة القدامى، إلا أنه على العكس من ذلك تماما، فالكتاب مكتوب بتكثيف شديد، وبتركيز أبعد ما يكون عن النثرية الوصفية  التي اعتدناها في كتابات هذا الجيل الذي كان يعتني كثيرا بالمحسنات البديعية. 
  • يبدأ كتاب “جحا الضاحك المضحك” للعقاد بتلخيص مفهوم الضحك والإضحاك من الناحية الدلالية ثم يقدم لنا مسحا عن اهتمام العرب بالضحك ويقترح علينا الكنوز التي احتوتها  الخزانة العربية في باب الضحك، فيذكر منها: كتاب الأمثال للميداني وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي والأغاني لأبي الفرج الإصفهاني والبيان والتبيين والحيوان للجاحظ وغيرها  ثم ينقلنا إلى الديانات السماوية  والضحك، فيعرض إلى الضحك في القرآن الكريم ومثله يعرض إلى الضحك في التوراة وفي الإنجيل، وفي هذا الحديث نكتشف العقاد قارئا دقيقا للديانات  ونشعر وكأنه بصدد التأسيس لما سمي لاحقا بعلم الأديان المقارن،  ثم ينتقل إلى مفهوم الضحك عند الفلاسفة فيتحدث عن الاختلاف بين مفهوم الضحك عند أفلاطون وأرسطو وقبلهما هيرقليطس وهنا أيضا نكتشف الإحاطة الشاملة والعميقة للعقاد بالثقافة اليونانية القديمة. وقبل أن يصل إلى دراسة ظاهرة جحا في الثقافة العربية والتركية والفارسية يقدم لنا المشهد الفلسفي الأوروبي عن “إشكالية” الضحك فيعرض أفكار لسبنسر وداروين وهوبز وبرغسون وفرويد وغيرهما،  وإذا بنا أمام كتاب يعرض ويناقش الأفكار المركزية في الفلسفة الأوروبية حول “الضحك” وكيف أن الشعوب تختلف في ما قد يضحكها أو يبكيها باختلاف الثقافات والسلوكات الفردية والجماعية  من بلد إلى آخر ومن عصر إلى آخر. وإن الشعوب التي تعرف كيف تضحك وكيف تبدع ما يضحك قادرة على صناعة ما يدهش.
  • العقاد كاتب النكتة
  • وفي القسم الأخير الذي خصصه لدراسته لظاهرة جحا من الناحية التاريخية والإبستيمية نكتشف عقادا آخر تماما، فهو كاتب النكتة الذي يتخلى عن كل ما كنا قد ألفناه عنه، فإذا هو يروي نكتا دينية وجنسية وسياسية واجتماعية دون حرج أو تردد، وهو ما يؤكد بأن هذا الجيل الذي تربى على ثقافة التراث العربي الإسلامي بكل تنوعه وتفتحه وجرأته لم يكن يخاف المغامرة في تناول الموضوعات المحرجة أو التي تبدو لنا اليوم كذلك.
  • العقاد يذكرنا بعلالو وبشطارزي وقسنطيني 
  • يذكرنا  كتاب “جحا الضاحك المضحك” للعقاد  بأن  “الضحك”  سلاح كثيرا ما أشهره المثقفون الجزائريون في وجه الاستعمار؛ ففي ثقافتنا المسرحية الجزائرية المقاومة  اشتغل جيل كامل من المبدعين على المقاومة من خلال الضحك مستغلين شخصية “جحا”، فالعودة إلى  تجارب كل من علالو ورشيد قسنطيني وبشطارزي  وولد كاكي  وغيرهم تبين دور الضحك كسلاح  في المقاومة ومغالبة اليأس.
  • أعتقد أن كتاب “جحا الضاحك المضحك” للعقاد يستحق أن يقرر على طلبة الفلسفة والأدب والمسرح  لما فيه من ذكاء في الطرح وشمولية في الثقافة ، إنه دون شك واحد من أهم كتب عباس محمود العقاد ولكنه الأكثر تهميشا وتجاهلا من قبل القراء العرب، إنه كتاب معاصر يُفاجِئ، يحتاج إلى قارئ معاصر مدجج ومستعد.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • طالبة

    السلام عليكم
    يدهشني وانتم يا سيدي أمين الزاوي، من النخبة المثقفة بالجزائر، ان يكون استكشافكم للعقاد بعد كل هذا الزمن، فالعقاد معروف بدقته بكتاباته، وموضوعيته التي يحاول اضفاءها على مختلف تأليفاته، لا يوجد كتاب من الكتب للعقاد يخلو من الفلسفة، وانا اؤكد اني كلما قرات كتابا له كلما تعلمت الكثير الكثير منه.

  • حمو

    المشكل ليس في أن العقاد قليل الضحك أو أنه لا يجيد ما هو فكاهي، و إنما المشكل في أن المثقف العربي لا يثق في زميله المثقف العربي من منطلق أن ما يقدمه التراث الأدبي و الفلسفي و الديني العربي في قيمه لم تؤدي إلى نتيجة على اعتبار أن العبرة تؤخذ بالنتائج .... فالأديب العربي لم يصل إلى نتيجة ملموسة و كان في أغلب الأحيان ضلا للسلطة يتحدث لغتها و يعتمد في خطاباته و كتاباته فكرها و منهجيتها.

  • العيـد بالــح

    ...شكرًا دكتور على هذه الإطلالات الأسبوعية اللذيذة، نتمنّى أن نراك في معرض الجزائر الدولي للكتاب ويا حبّذا لو خصّصت مقالك القادم لمعارض الكتاب ودورها في الإغراء على القراءة...مع كلّ المودة والحب.