-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
إضافة إلى حكايا سوق لا ينام

حساء السمك.. قصة جيجلية جميلة

صالح عميرة
  • 1042
  • 0
حساء السمك.. قصة جيجلية جميلة
أرشيف

حل رمضان الكريم، برائحته في الشوارع، ومآذنه وتراويحه، وأيضا بموائده، فقبل أيام كثيرة، قامت العائلة الجيجلية بتنخيل البيت، كما يقال في جيجل، والتنخيل هو تنظيف البيت من أبسط قشة إلى الستائر والأفرشة، تبركا بقدوم ضيف عزيز، عزته تداولتها الأجيال منذ أن منّ الله بنعمة الإسلام على بلادنا.

وباقترابه أكثر تتسوق النساء لشراء أوان جديدة، قد يحدث غالبا أن تتجدد الأواني في بعض البيوت من الملعقة إلى الصحن والقدر والطاولة والكراسي، إنها عادة قديمة تتميز بها عاصمة الكورنيش، فهنا حي الفرسان وطريق الشاوية وبازارات الفرسان وبوخديش، كغيرها من أحياء بن شعيبون وليكيتي وحي مصطفى أو حي موسى، لا شيء غير حديث النساء عن آنية جديدة دخلت المحل الفلاني، وعن أثمان طاولات السطايفي أو أواني البرايجي، وعبر هذه الأحياء جحافل النساء خاصية مميزة، حتى أنك لو حاولت أن تبحث عن رجل في بعض الشوارع أو المساحات التجارية فلن تجده، وإن وجدته فهو في الحقيقة مجرد وجود شكلي، قد يشبه هذا أن تكون محرما لعائلة المقود وكل الخيارات للنساء.

ثقافة السمك من عمق التاريخ
من أول يوم لشهر رمضان تنتهي كل الأحاديث في النهار، ولن يبقى إلا حديث المائدة، هذه المائدة التي تكلف الكثير، وتتزين بأجمل الأطباق حتى بالنسبة لعائلات الطبقة المتوسطة. وتعرف المائدة الجيجلية بكون ملحها بحري خالص، فحساء السمك ثقافة قديمة، قدم هذا العشق الذي يربط الجيجلي بالبحر من زمن الفينيقيين ثم الإسبان خاصة، وعلاقة المنطقة بسكان إيطاليا ومالطا واسبانيا قديما، وقد يبدو من أول وهلة بأن الجيجلي يبالغ في ذكر السمك أينما حل وارتحل، ولكن هذا لا يدحض الحقيقة أنه بحري أبا عن جد، فحساء السمك مثلا لا يعني أن مادته الأولية هي الجمبري وباقي قشريات البحر، والليمون، والدوراد، أو القاروس، ولكن لحساء السمك أنواع لا تحصى ولا تعد، ربما أجودها حساء الجمبري وأبسطها من بقايا أسماك عدّت لطبق آخر، وجمعت باقي العظام كالرأس لتصنع بها الأمهات حساء في كثير من الأحيان لا يميزه إلا خبراء الذوق وكبار طهاة المطاعم الكبيرة.
في وسط المدينة السوق اليومي رغم ما يكتنز من أوساخ قد يعود بعضها لعقود، إلا أنه ملاذ أبناء المدينة أو القادمين من ولايات أخرى، والسبب أنه أكبر أسواق السمك، من الصباح للمساء لا تسمع إلا صوت الباعة وهم يمدحون سلعهم، سردين جيجلي، سردين الزيامة، جمبري القالة، أبو سيف من بجاية، روجي وهران، ودوراد صنارة حي. لقد أتقن وتفنن الباعة في عرض سلعهم إلى درجة أن تجد نفسك مجبرا على التوقف أو حتى الوقوف أحيانا.. إغراء لن تفعله البطاطا ولا الخس القادم من حقول قاوس أو تاسوست ولا لحوم البرازيل، ولكن السمك يفعلها، ورغم الأثمان التي تنافس اللحوم الحمراء وفوق طاقة جل من يقف ومن يتوقف ومن يشتري ومن يشبع عينيه لا غير، إلا أن السوق لا يفرغ من جحافل المتسوقين من كل الجهات. ولأن السوق الذي يعود للحقبة الاستعمارية ويتوسط أربعة شوارع حيث خصص المغطى للحوم وأرصفته للسمك والخضر والفواكه، فإن المكان يجبر المتسوق أن يدور، وفي كل دورة يمنّي النفس أن يشتري من ركن ما سلعته بأقل ثمن، لذا أطلق على المشهد بدوران الصفا والمروة، والغريب أن البعض قد يعترف أن دوراته قد تعدت العشرة ولم يقرر بعد ماذا يشتري، قبل أن يختم تلك الدورات المثيرة باقتناء ولو نصف كيلوغرام من السردين الذي كان في وقت ما على كل موائد العائلات الجيجلية ولو على سبيل الديكور لا أكثر.

أطفال باعة ينافسون الكبار
بين طاولة الخضر وأخرى للفواكه، تجد أطفالا، هذا بسلة كسرة، وآخر بديول صنعت بالبيت، وذاك بعلب اللبن، وحتى فاكهة الغابة لا تغيب.. يبدو أن الصوم يغيّر الكثير من قناعات الناس خاصة بعد صلاة العصر، وإلا ما كان هذا الطفل الذي لم يتعدى عمره 12 سنة يتجرأ على بيع حبات الريحان أو الضرو أو ساسنو على قارعة الطريق.
دوران المتسوقين الذي يشبهه بعض من الصائمين المتهكمين بالسعي بين الصفا والمروة، كثيرا ما يشهد ملاسنات أحيانا بين الباعة أنفسهم، وفي أحيان كثيرة بين الزبائن والباعة، وأغلب الأسباب ليست عن الثمن، بل على نوعية السلع التي تتحول بقدرة قادر من الصندوق إلى صحن الميزان إلى سلعة أخرى، فيدُ البائع محترفة، مقارنة بعيون الزبون، والاصطدام حتما حين تكون اليد والعين بنفس درجة الاحتراف، وحكايا هذا السوق كثيرة ومتجذرة وعشرات المواجهات حصلت وبلغت حد استعمال السلاح الأبيض. وقلما انتهى اليوم بسلام، لذا المئات طلقوا بالثلاث هذا الدوران الشرفي، لاتقاء شرّ هذا السوق مؤمنين بأن شر البقاع إلى الله الأسواق أو كما يقولون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!