-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خافضة رافعة

سلطان بركاني
  • 1391
  • 0
خافضة رافعة

في أوائل سورة الواقعة، ذكر المولى -سبحانه- وصفا لافتا ليوم القيامة، أنّها خافضة رافعة، فقال تقدّست أسماؤه: ((إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ)).. ولا شكّ في أنّ هذا الوصف قد مرّ بنا تلاوة وسماعا، لكنّ كثيرين منّا لم يقفوا عنده وقفة تأمّل.. وصفٌ يقرع القلوب ويهزّ الأرواح بأنّ الموازين يوم القيامة ستكون مختلفة تماما عن موازين الدّنيا.. فكم من مشهور في الدّنيا مغمور محقور في الآخرة! وكم من مغمور محقور مخمول الذّكر في الدّنيا مشهور في الآخرة!

هناك أناس في هذه الدّنيا هم ملء السّمع والبصر؛ يتحدّث عنهم النّاس في المجالس، وتتحدّث عنهم وسائل الإعلام وترفعهم إلى العلياء، لكنّهم يوم القيامة يحشرون أذلّ من الذرّ (صغار النّمل) تطؤهم الأقدام ولا يلتفت إليهم أحد، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال”.

المتساقطون من العلياء إلى الغبراء!

كم من غنيّ صاحب مال كان النّاس ينادونه: “سي فلان”.. سخّر أمواله في شراء الذّمم واستجلاب المدح والثّناء، حتّى غدا النّاس لا يفترون عن ذكر اسمه في المجالس: “ننظر سي فلان ماذا يقول! نشاور سي فلان لنرى رأيه! نتصل بسي فلان لينظر لنا في القضية…”. كلّ من حوله من المتملّقين يقولون بلسان الحال والمقال: “يا ليت لنا مثل ما أوتي فلان إنّه لذو حظّ عظيم”…. كم قدّم من رشاوي ليظلم الأبرياء! وكم بذل من أموال ليفكّ المجرمين! وكم من قضايا اختار فيها صفّ الباطل! وكم من ظالم أيّده وكم من مظلوم خذله! يحشر يوم القيامة قزما حقيرا ينظر إليه النّاس بكلّ احتقار ويطؤه المظلومون بأقدامهم!

خافضة رافعة؛ يوم يحشر الظّالمون مع المظلومين، الظّالمون الواحد منهم مثل النّملة، والمظلومون في كلّ عزّة وكبرياء، فينتقم المظلومون من ظالميهم وطأً ورفسا، ينتقم المسجونون من سجّانيهم، ومن جلدت ظهورهم من جلاديهم.. أصحاب مناصب كان يسمع بهم العالم أجمع، يطؤهم ويرفسهم رجال ما كان يسمع بهم أحد.. قضاة كانوا يجلسون على المنصّات بكلّ كبر وخيلاء ويصدرون الأحكام لصالح من يدفع أكثر، إذا تحدّث معهم الفقير المغبون المظلوم أسكتوه وأخمدوا صوته؛ تطؤهم أقدام الفقراء والمساكين وهم يصرخون ويبكون.. مسؤولون كانوا يركبون أفخم السيارات ويتحدّثون في هواتف تملأ أيديهم ويتمايلون في مكاتب أنفقوا فيها الأموال الطّائلة، تطؤهم أقدام رجال ما كانت تعرف أسماؤهم ولا تسمع أصواتهم.

وأكثر من هذا؛ لا ينصرف المظلومون من الموقف حتّى يسألوا الله أن يأخذ سيّئاتهم فيطرحها على ظالميهم، فيجيب الله طلبهم فما يزداد الظّالمون إلا ذلا وحسرة، وهم يرون موازينهم قد امتلأت أوزارا، وموازين حسناتهم قد أصبحت خاوية، قبل أن تأتي زبانية جهنّم لتجرّهم إليها على وجوههم.. ((وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)).

كم من امرأة كانت في هذه الدّنيا تمشي على الأرض مختالة في مشيتها، كأنّها ستخرق الأرض أو تبلغ الجبال طولا، تريد أن تطاول بأنفها السّحاب.. تحبّ أن يتحدّث النّاس عن ذوقها وأناقتها وجمالها، وإذا سمعت بمن يتحدّث عنها بنقيصة وصفته بكلّ نقص ونسبت إليه كلّ عظيمة وسعت في إيذائه وبهته والكذب عليه.. تحشر يوم القيامة من دون مساحيق ولا أزياء، قزمة حقيرة تطؤها أقدام من كانت تحتقرهنّ وتنظر إليهنّ بازدراء وتضحك من لبسهنّ وتشنّع على أذواقهنّ.. تفاجأ بذلك المصير الذي لم تحسب له حسابه، ويُسقط في يدها عندما تعلم أنّ الجنّة قد حرّمت عليها، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم”.

ليس المتكبّرون وحدهم من يخفضون يوم القيامة؛ فهناك علماء ودعاة يشار إليهم بالبنان في هذه الدّنيا ويتابعهم الملايين، يخمل ذكرهم في الآخرة، ويفاجأ النّاس بأنّهم أخذوا مصيرا آخر، لأنّهم ما كانوا يرجون ما عند الله، إنّما كانوا يرجون مكانة ورفعة بين النّاس.. بل إنّ النّاس يفاجؤون ببعض من كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الدّنيا، يُخفضون ويذلّون في الآخرة، بعد أن كانوا يشار إليهم بالبنان في الدّنيا، لأنّهم كانوا يأمرون بالمعروف ولكنّهم لا يفعلونه، وينهون عن المنكر ولكنّهم يفعلونه. يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه”.

مغمورون في الدّنيا.. يُحشرون كالكواكب والنّجوم

في مقابل أولئك الذين يخفضون يوم القيامة ويذلّون ويهانون، هناك عباد يفاجأ بهم النّاس يوم القيامة يحشرون كالكواكب والنّجوم في كلّ عزّة ورفعة، وقد كانوا في هذه الدّنيا لا يعرف لهم اسم، بل ربّما كانوا يُدفعون عن الأبواب ولا يحسب لهم أيّ حساب.. كم من عالم أو داعية في الدّنيا، تسلّطت عليه وسائل الإعلام تنفّر عنه النّاس، وتسلّط عليه الجهلة والرّعاع بألسنتهم، واستطال عليه أصحاب المصالح والأموال بمناصبهم وأموالهم، وبذلوا الأموال ليروه معزولا من كلّ منصب مجرّدا من كلّ لقب، فأصبح نسيا منسيا في دنيا النّاس، بسبب كلمة حقّ قالها أو موقف حقّ وقفه.. ينساه الناس ويطوى ذكره في الدّنيا.. لكنّ أهل الموقف يفاجؤون به يوم القيامة يحشر بينهم كالنّجم يخطف الأبصار، عزيزا مكرّما، ضاحكا مستبشرا، يقول: ((يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين)).. أمّا أولئك الذي تسلّطوا عليه بألسنتهم وأموالهم ومناصبهم فيقولون وهم يساقون إلى جهنّم: ((مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَار))..

كم من رجل مغمور خامل الذّكر لا يلتفت إليه في هذه الدّنيا ولا يعبأ به، ولا يكاد يسمع به غير قلّة من النّاس، ينظر إليه عبيد الدّنيا وعبدة الأموال والمناصب بازدراء واحتقار، حتّى السّلام لا يردّونه عليه.. يحشر يوم القيامة علَما تشرئبّ إليه الأعناق وترمقه الأبصار، يحشر في هيئة يغبطه عليها أهل الموقف شامخا حامدا ربّه على فضله.. ينظر إليه النّاس بإعجاب ويتساءلون: أيّ سرّ كان بين هذا العبد وبين ربّه حتّى يحشر بهذه الهيئة وبهذه الحال؟! كان يعيش في الدّنيا ببدنه، لكنّ قلبه كان معلقا بيوم القيامة وبجنّة عرضها السّماوات الأرض.. كان يبذر في الدّنيا، ليس ليحصد في الدار الفانية، إنّما ليحصد في الآخرة.. كان ميزان حسناته لا يفارق عينيه، يهتمّ به أكثر من اهتمامه بحسابه البريديّ.. كان لا همّ له بما يقول النّاس؛ ما كان يهتمّ بأقوالهم وموازينهم وأحكامهم.. قالوا عنه: “لا يعيش خياته”! فما التفت إلى كلامهم.. قالوا عنها: “ليس لها ذوق في اللباس”! فلم تعبأ بانتقادهم.. قالوا عنه: “أضاع عمره”! فما حرّك كلامهم شعرة فيه.. كان أنيسه قول الله تعالى: ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)). كانت الشّهوات تتراءى أمام عينيه، فكان يغضّ بصره وفي قلبه حلاوة وفي روحه سكينة وطمأنينة، يخاطب نفسه دائما بقول الله تعالى: ((قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا)).. كان النّاس من حوله يتدافعون على فرص الحرام والشبهات، ولكنّه كان يعرض عن كلّ تلك الفرص المحرّمة وكلّه يقين بأنّ الله سيعوّضه خيرا منها، إن لم يكن في الدّنيا، ففي الآخرة، بين عينيه حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه”.. هو يعلم يقينا أنّ الذي خلق لا يضيّع خلقه، وأنّ الذي يرزق الكافر لا يمكن أن يضيّع عبده المؤمن، ويعلم أنّ رزقه لو كان تحت السّبع الطّباق، ليسّر الله له طريقا إليه. لا يخضع لمخلوق لأجل رزقه ولا يذلّ نفسه لعبد لأجل حاجته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!