-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
حرب‭ ‬المكتبات

خمسون‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬ذكرى‭ ‬حرق‭ ‬المكتبة‭ ‬الجامعية‭ ‬الجزائرية‭ ‬

أمين الزاوي
  • 7624
  • 6
خمسون‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬ذكرى‭ ‬حرق‭ ‬المكتبة‭ ‬الجامعية‭ ‬الجزائرية‭ ‬

اليوم أريد أن أوقظ كلاّ من الدكتور محمود بوعياد أول مدير للمكتبة الوطنية الجزائرية والشاعر جان سيناك من رقدتهما الأبدية لأقول لهما بأن ها قد مضى على يوم حرق المكتبة الجامعية الجزائرية خمسون سنة.

كان ذلك يوم 7 جوان 1962 على الساعة منتصف النهار وسبعة وعشرين دقيقة، إذ سمع انفجار ثلاث قنابل مدوية وعلى إثرها تصاعدت ألهبة النار في كل اتجاه وامتدت سحب الدخان في عنان سماء العاصمة، لقد أقدمت المنظمة العسكرية السرية (O.A.S) على ارتكاب جريمة ثقافية شنعاء: حرق المكتبة الجامعية بالجزائر. لم تكن هذه المنظمة الإرهابية تسعى لإلقاء الجزائر في بركة من الدم فقط، الجزائر التي كانت على بعد أيام قليلة (أقل من شهر) للاحتفال باستقلالها الذي تكلل بعد حرب دامت سبعة أعوام ونصف عام، بل كانت تريد أن تلقي بالكتب أيضا في النار حتى‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬للذاكرة‭.‬

إذا كان الجنرال بليسيي قد نفذ ذات 20 جوان 1845 جريمة إبادة وحرق أبناء قبيلة أولاد رياح (على بعد 80 كلم من مدينة مستغانم) داخل مغارة الفراشيح بعد أن حاصرهم فيها بواسطة دخان النيران التي أشعلها لمدة يومين أمام فوهة المغارة، فإن أحفاد هذا الجنرال القاتل لم يشذوا عن هذه الثقافة العدمية والدموية بأن واصلوا جنون الحرق بإضرام النار في المكتبة الجامعية، إن سياسة الأرض المحروقة في منطق الاستعمار لا تأتي أكلها كاملا إلا إذا تم حرق الإنسان والحيوان والكتاب معا. ولقد كان حرق المكتبة الجامعية بالعاصمة صورة عن هذا المرض الذي‭ ‬يعاني‭ ‬منه‭ ‬المستعمِر‮ ‬وهو‭ ‬مرض‭ ‬‮”‬التدمير‮”‬‭.‬

إن شراسة الحروب التي شنت على المكتبات، عبر التاريخ، لا تقل ضراوة عن تلك التي مورست ضد الشعوب، فمن منا لم يقرأ شيئا قليلا كان أو كثيرا عن مآسي حرق مكتبات بغداد، مدينة بيت الحكمة، حيث تروي بعض كتب التاريخ بأن المغول حين دخلوها وأحرقوا كتبها وألقوا بمخطوطاتها في نهري دجلة تحول لون الماء الذي يجري به إلى أسود من لون المداد. وتروي أيضا كتب التاريخ فجيعة ما عرفته مكتبة الإسكندرية من تدمير وحرق ونهب عبر العصور، ويحفظ تاريخ الحرب على الثقافة والمكتبات صور البشاعة التي مارسها الألمان ضد مكتبة لوفان الشهيرة ببلجيكا العام 1914، وغير بعيد عن زماننا وعن أيامنا هذه نتذكر ما عاشته مكتبات البوسنة من قبل جيوش ميلوزوفيتش العنصرية الفاشية، مذابح كثيرة تعرضت لها المكتبات عبر التاريخ، فالحروب لا تتوقف عند قتل الإنسان أو تشريده أو تعذيبه بل تذهب إلى اغتيال كل ما يمكنه أن يكون شكلا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الحلم‭ ‬للمستقبل‮ ‬ويأتي‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬مقاومة‭ ‬اليأس‮ ‬وترميم‭ ‬البؤس‭.‬

إن الاستعمار الفرنسي حين وصل غازيا هذه البلاد (الجزائر) وجدها وأهلها يعيشون في مجتمع يحترم الكتاب والمكتبات والعلم، ويشهد شاهد من أهلها قائلا: “عند وصولنا العام 1830 (إلى الجزائر) كانت هناك أزيد من مائة مدرسة بمدينة الجزائر و86 بقسنطينة و50 بمدينة تلمسان، كما‭ ‬كان‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬العاصمة‮ ‬وقسنطينة‭ ‬من‭ ‬6‭ ‬إلى‭ ‬7‭ ‬مدارس‭ ‬ثانوية‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬بالجزائر‭ ‬عشر‭ ‬زوايا‮ ‬وهي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬‮”‬الجامعة‮”‬‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الغربي‭.‬

في 7 جوان 1962 على الساعة منتصف النهار و27 دقيقة، امتدت يد الإجرام الثقافي لتضع ثلاث قنابل داخل المكتبة الجامعية وبعد ساعات قليلة تحول هذا المعلم التاريخي وما به من كتب ومخطوطات ووثائق إلى كتلة من رماد بارد، تكتب جريدة فرانس- سوار “ألهبة النار تلتهم المكتبة الجامعية، حيث تحترق 600.000 كتاب” وتشهد جريدة لوفيغارو قائلة: ” 500.000 كتاب تم حرقها من أرصدة المكتبة الجامعية بالجزائر” ومثل ذلك تشهد جريدة لوموند قائلة: “قرابة 600.000 مجلد ووثيقة كانت طعما لألهبة النار في المكتبة الجامعية بالجزائر”.

ومع ذلك لم يستسلم الجيل الأول من مثقفي الاستقلال أمام هذا العمل الإجرامي في حق الثقافة والكِتاب فتوحدوا على قلتهم وقلة إمكانياتهم لإنقاذ المكتبة الجامعية وإعادة إعمارها بالكتب وبالعتاد، ففي 19 دسمبر 1962 تأسست “اللجنة العالمية لإعادة إعمار المكتبة الجامعية‭ ‬بالجزائر‮”‬‭ ‬‮ (‬Comité‭ ‬International‭ ‬pour‭ ‬la‭ ‬Reconstitution‭ ‬de‭ ‬la‭ ‬Bibliothèque‭ ‬Universitaire‭ ‬dAlger‭ ‬‮ (‬CIRBUA‮)‬‭ ‬والتي تشكل مكتبها من: محمود بوعياد (رئيسا)، نورالدين سكندر (نائبا للرئيس)، جان سيناك (سكرتيرا عاما)، الآنسة جان-ماري فرانس (سكريتيرة مساعدة)، السيدة صلاح باي (مكلفة بالمالية)، سعد الدين بن اشنب (مكلف بالعلاقات الخارجية) ومصطفى حرتراتي (مكلفا بالعلاقات‭ ‬الداخلية‮)‬‭. ‬

إن قراءة في العمل الثقافي التنويري الذي قامت به هذه اللجنة والذي عكس مدى تجاوب الجزائري في الأيام الأولى للاستقلال مع الشأن الثقافي وعلى رأس ذلك الكتاب والمكتبات، هذا الحال يؤكد بأن صورة الجزائر التي كان يحلم بها الجزائريون، هي الجزائر التي تلتقي فيها الحرية‮ ‬والاستقلال‭ ‬بالثقافة‮ ‬والعلم‮ ‬ولا‭ ‬وجود‭ ‬لهذا‭ ‬دون‭ ‬ذاك‭. ‬

لقد‭ ‬تجند‭ ‬الجزائريون‭ ‬جميعا‭ ‬من‭ ‬الطلبة‮ ‬والمثقفين‮ ‬والمواطنين‭ ‬البسطاء‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬إمكانيته‭ ‬لإنقاذ‭ ‬المكتبة‭ ‬الجامعية‮ ‬لأن‭ ‬الجميع‭ ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬بأن‭ ‬لا‭ ‬مستقبل‭ ‬بدون‭ ‬علم‮ ‬وبدون‭ ‬ثقافة‭.

وفي سنة 1963 وبمناسبة الذكرى الأولى لحرق المكتبة الجامعية والجزائر تُرمِّمُ جراحاتها على كل المستويات السياسية والعسكرية والمؤسساتية والاجتماعية كانت هذه الذكرى الثقافية الأليمة فرصة أخرى للنخب الثقافية للتذكير بأهمية الكِتاب والقراءة كطريق لصناعة جزائر قوية ومعافاة، ولذلك وحول هذه الذكرى نُظمت سلسلةٌ من المحاضرات واللقاءات في جميع المدارس والثانويات تناولت أهمية القراءة والكتاب في التنمية كما نُظم ملتقى “حول القراءة” تم نقل وقائعه على شاشة التلفزيون، كل هذا التاريخ يعلمنا بأن الكِتاب والمكتبات هي الطريق لتخطي‭ ‬العقبات‮ ‬والأزمات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تعترض‭ ‬تاريخ‭ ‬المجتمعات‭.‬

لكن من غرائب وعجائب أمر مسيري هذا البلد أنه، وحتى تاريخ 31 دسمبر 1984، أي ربع قرن بعد حرق المكتبة الجامعية، كانت لا تزال جميع المساعدات المالية التي جمعتها “اللجنة العالمية لإعادة إعمار المكتبة الجامعية بالجزائر” نائمة في حساب بنكي إذ لم يتم استعمالها بتاتا،‮ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬نائمة‭ ‬حتى‭ ‬هذه‭ ‬الساعة‭ ‬‮”‬من‭ ‬يدري‮”.‬

اليوم ونحن نحتفل بالذكرى الخمسين للاستقلال والذكرى الخمسين لحرق المكتبة الجامعية أما يجب علينا كنخب أن نقوم بمراجعة شاملة لنصف قرن من العمل الثقافي، وأن نقدم حصيلة ما أنجز وما لم ينجز في باب ثقافة الكِتاب والمكتبات؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • hamza kak

    ـ ليس غريبا علي الدكتور امين وطنيته التي انفجرت كلمات حركت او بالاحرى نشطت الذاكرة ,,,,,,,,,,,علي الرغم من اننا لن ولن ننسى جرائم الاستعمار ,

  • Mohamed LAMINE

    شكرا السيد الزاوي على هده المعلومات القيمة و التقيمية

  • لعموري عليش

    شكرا أيها الأديب المتميز بكتاباتك في موضوعات لها علاقة بتكوين الإنسان والإهتمام بمركزيته الكونية ، إن المقال يحمل أكثر من معنى ، شعب حرر نفسه من الإستعمار بالنار ، وحرر ثقافته والأدوات التي تملثها كالمكتبة بالنار ، تحرر من كل قيوده بالنار ، وفعل ا|لإستعمار كان سببا لإعادة بناء مركزية الإنسان الجزائري ، لذلك يجب أن نبني مكتبتنا من منطلق إحراقها من المستعمر بفكرة مطالبة المستعمر باسترجاع وثائق تاريخنا وكتب علمائنا ومخطوطاتنا التي تزخر بها مكتابتهم العالمية أو إغرامها لنا في صورة التبادل الثقافي

  • كوكو

    مقال يستحق الإشادة و التقدير لما فيه من وفاء الكاتب وحيرته وقلقه على الروح الثقافية والرصيد العقلي ،فقد بقي مخلصا لوظيفته التي شغلها قبل سنوات"مدير للمكتبة الوطنية"رغم خروجه منها من الباب الضيق،ويقي أبيا صامدا يكتب ويكتب ويكتب لا يمل و لا يكل...
    لكن وفاءه امتد بعيدا إلى أصدقائه الذين يحب ذكرهم ويتبرك بأسمائهم مثل الشاعر" Jean Senac" الذي أسهب في الحديث عنه رغم كونه من الأقدام السوداء ولد في بني صاف وترعرع في الجزائر من أب مجهول،
    كان محل احترام حتى جاء بومدين فترك المكتبة ودخل في عزلة قبل

  • محمد

    بالفعل لفتة مهمة من قبل الاستاذ امين للشأن الثقافي في بلاد الجزائر عبر الحديدث على صرح ثقافي مهم الى وهو المكتبة الجزائرية وتطورها التاريخي وما شهدته كصرح ثقافي من احداث مفصلية اهمها حادثة التخريب والحرق....وهو ما يحيلنا الى واقع الثقافة الكتاب لدى حقبة الاحتلال ودور الاستعمار في ضرب اسس الثقافة والمعرفة لدى شعب الجزائر.

  • مجرد سؤال!

    أي رقدةأبدية؟ أولا تؤمن بيوم البعث؟