-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دور القيم الفاضلة في بناء نهضة شاملة

خير الدين هني
  • 890
  • 0
دور القيم الفاضلة في بناء نهضة شاملة

القيم الفاضلة هي الجوهر الذي يقوي الروابط الاجتماعية، والمحرك الذي يبعث الغرائز الخيّرة في النفس الإنسانية، والمجتمع يتوق نحو بناء نهضة شاملة وقوية، يطور بها حركة تفكيره ونشاطه ونُظم حياته، لأن الروابط الاجتماعية القوية، تُعدّ أحد أهمِّ عوامل النهوض الحضاري، لكونها تنمي وشائج المحبة والألفة بين الناس في كيان الأمة الواحدة، وتقوي لحمتها ضمن علاقات حميمية منسجمة ومتآلفة، يميزها التقارب والتلاحم والتآزر والتعاون والتضامن، مما يبعث يقظة الضمير في الوجدان الإنساني، ويُحفّز الطاقة المبدعة في عقله، ويدفع بها نحو الاشتغال بأقصى درجات الاشتغال، فتتحقق أمنيات الطموح والتطلّع التي يسعى إليها الجميع، من طريق السير على دروب الفضيلة التي ترقّق المشاعر، وتنمّي الوجدان، وتنظم الغرائز، وتلطّف العواطف، وتصقل التفكير، وتهذّب السلوك.

إذا تكيّفت الظواهر النفسية، تكيّفا ملائما مع القيم الراشدة، بما تقتضيه المُثل العليا للفضيلة، فإن الإحساسات الجميلة بفطرتها النقية، تصبح هي الموجِّهة للشعور، وحينها يشعر الجميع براحة الضمير، والهدوء والطمأنينة، وينبعث في نفوسهم الإحساس بأنهم أمة واحدة، تربطهم مشاعر واحدة ومصيرٌ واحد، وبأنهم أصبحوا يشكلون بنية اجتماعية متآزرة ومتلاحمة ومتضافرة.

وحينها يشعر كل فرد، بأنه عضوٌ فعّال مُلزَم بتأدية الوظيفة البنيوية، بما يبذله من جهد وطاقة في أي حركة أو نشاط أو إبداع، يُنتج بها قيما مضافة تُسهم في تنمية العلوم والتقنية، وتنقية أساليب التفكير من الأفكار الميتة وقواعد السلوك المنحرف، وتجعله يمجّد العمل وإتقان الصنائع والحرف، وسيُدرك بأن مصيره معقودٌ إلى ناصية مجتمعه الذي يعيش فيه، إن كان خيّرا أصابته منه نعم سابغة، وإن كان غير ذلك ناله الأذى والمكر.

إن هذه الناصية متصلة بالحالة النفسية للمجتمع، وهي -في تأثّرها وتأثيرها- متعلّقة أشد التعلق بما تكدَّس فيها من تراكم المحتوى الثقافي والأخلاقي، وهذا التراكم هو من يشكّل المرجعية المعرفية والفكرية والأخلاقية، وهذه المرجعية هي من تؤثّر تأثيرا قويا أو ضعيفا في بناء الشخصية، وطرق التفكير وقواعد السلوك، وهذا ما يسمى في الأدب التربوي، بـ”مرجعية القيم” التي تشكّل عقل الإنسان وتوجّهه، نحو تبني اتجاهات فكرية صائبة أو خاطئة.

ويُعَدُّ هذا التشكّل النقطة الجوهرية في بناء أي نهضة، يكون لها أثرٌ محمود إن اقتفت خط السير على النهج المستقيم، فتنتهي عند الأفق المُشعّ إن أريد أن يستقيم خط سيرها، أو تنعطف نحو خطوط متعرّجة، حينما يراد أن يعوجّ خطّ سيرها (يريدونها عِوَجاً).

وامتداد النظر نحو الأفق المشعّ، يستدعي أن يستشرف الناظر مستقبل الأيام ويتبصّر أحداثه ووقائعه، ويتعمّق مشكلاته ويتأمل فيما تراكم فيها من مشكلات مُعوِّقة، فإن تُركت من غير علاج أعاقت حركة العقل وشلّت الإرادة  والدافعية، وجعلت المجتمع يائسا تائها يعيش حياة الركود، مستسلما لضعفه وهواجسه، فإذا تبصّر المستقبل وشخّص مخاطره وأضراره وعوائقه، إن سلم العقل الناظر من التأثيرات الخارجية التي تنزع إليها حياة الاستيلاب، ارتدّ إليه البصرُ وعاد إليه الرشد، وانتقى من قيّم التراث ما هو جامعٌ بين الأصيل النافع، وبين الحديث الأريب، لإصلاح ما اعوجّ من أوضاعه.

والحركة الفكرية والإحساسات العاطفية لأي مجتمع بشري، ليستا نائيتين عن الجذب الخارجي، ولا هي محفوظة من خطر أثره، فهي قوية الجذب والأثر ولها سلطانٌ قهري على استيلاب أي كائن بشري، في كينونته وصيرورته، وهذه القوة الجذبية هي من يشكّل عقل الإنسان، وعواطفه ودوافعه وضمير مجتمعه، وهي من يؤثّر على نزعته ونزوعه، ويُشبع أناه إيثارا أو أثرة، أي: بحسب ما تلقاه من ألوان المعرفة والتثقيف، فينشأ من جراء ذلك ضابط نفسي، هو من يضبط نزوعه العقلي والوجداني والسلوكي إن كان الضابط سليما، أو يتركه على هواه يجنح حيث تنزع به الأهواء إن كان الضابط عليلا سقيما.

وتأثّرُ الإنسان بما يُستورد له من قيّم وبضائع خارجية، تجعله يتبرّم من أي مُنتَج أو قيمة لها امتداداتٌ محليّة، ويتحلّل من محاسنها تحلّلا كاملا، لأنه يخطر بباله أن اختيار الأجنبي من أولياء أمره، إلا لنفعه وكمال جودته وأثره، وأنه -لذلك- مُلزم  بإتِّباع سبُلهم في الاختيار، وأن دوره في المجتمع هو الالتزام بما التزموا به، كيما تتحقق المنافع المشترَكة بينهم.

ومن هنا يبدأ المرض النفسي بعلله القاتلة، ينتشر في العقل الجمعي، فيختل التوازن في تفكير هذا المجتمع المريض، فتصاب شخصيته بالانفصام والاضطراب، لأن بناء الشخصية السوية، يبدأ من بعث عنصر الثقة في الذات، وهو العنصر الذي يحرك الطاقة الإيجابية فيه، ولا أفضل من غرس القيم المحلية التي هي مصدر هويته ووجوده وفخره واعتزازه، كالرموز الدينية والأخلاقية والثقافية واللغوية، وهي الرموز التي تنشأ على تشرُّبها الأجيال من طريق التلقي والتوجيه والتنشئة الحسنة.

من طريق التربية المباشرة، في مؤسسات التربية والتوجيه والخطاب السياسي الرسمي والإعلام الهادف، يضع سياستها ومناهجها مؤهَّلون سياسيون، وأكاديميون وتقنيون إداريون من ذوي الضمائر الحية، من غير المستلبين ممن لم تسلب التأثيراتُ الخارجية عقولهم، وهم خيارُ النخبة المتشبِّعون بالروح الوطنية، ولهم استعداداتٌ فطرية تنزع بهم نحو تشرّب أيّ قيمة لها اعتبارٌ وطني وقيمي، كباقي الشعوب الحيوية، ممن تفاخر بهويَّاتها وكينونتها، وتشعر بأن لها خواص ثقافية ولغوية وأخلاقية، تتميز بها عن غيرها من الأمم الأخرى.

إن هذه الخواص هي التي تجعل الإنسان يشعر بوجوده ككيان مستقل، فتمنحه صدق الإرادة وقوة العزيمة، والثقة في ذاته وقيمه ومواهبه وقدراته، وهي العناصر التي تحرك فيه الإحساس بالانتماء وتبعث في عقله الطاقة الإيجابية الخلاقة، وتميت فيه الطاقة السلبية المميتة للإرادة، وهذه الإحساسات الجميلة، هي من تحيي فيه الغرائز الخيّرة التي تدفعه نحو التطلع إلى المستقبل المشعّ، أما النفوس الشكّاكة التي استلبتها التأثيرات الخارجية، فهي التي فقدت الإحساس بالكينونة والانتماء، والقدرة على استعادة الوعي الناقد، فأصيبت بالخمول والانتكاسة، والشعور بالضَعة والدونية، فأصبحت مسلوبة الإرادة، مهزوزة المشاعر، عدمية الحركة والنشاط، تنجذب -بسهولة- إلى أي كيان تستشعر فيه القوة والغلبة والكمال، وهي -لذلك- سريعة الانصهار والذوبان في ذوات الآخرين، ولا تجد في ذلك غضاضة أو حرجا أو منقصة وعيبا.

ولبلوغ الغاية في كمال العقل والنفس والوجدان، يستلزم انتهاج سبل الرشد في القدوة الحسنة من طريق التربية غير المباشرة، التي يجسدها السلوك العام لنخبة المجتمع المتميزين بالاستقامة، فيتقمّص الجميع أخلاقهم ونظمهم الراشدة.

والرموز القيمية التي تمثلها المعرفة الدينية والأخلاقية والإنسانية، يجرِّدها العقل من الإحساسات الخارجية، ويجعلها معرفة عقلية مجردة من أي صورة خارجة عن الذهن، إما أن تُنقَل إلى الذهن بالحس وحده كما قال (إيمانويل كانت)، أو تُنقَل إليه من طريق التجربة وحدها كما قال (جون لوك) من قبل، أو تُنقل إليه بالحس والتجربة كما قال جمهرة المفكرين، فهي سواء في تأثيرها القوي على استقامة الشخصية السوية، أو ضعفها وانحرافها عن خط السير القويم.

والمؤسسات الاجتماعية والسياسية، هي من يتحمل عبء غرس هذه القيم والرموز في نفوس الناشئة، وجعلها تتسم بالقوة أو الضعف في بناء الشخصية والعلاقات الاجتماعية، لأنها تمتلك وسائل التأثير، والقدرة على إدماجها في السياسة التعليمية، والخطاب الرسمي للدولة، ورفع معاملاتها في الامتحانات، والتركيز عليها في المحاضرات والندوات،  حتى يمكن تدارك ما يمكن تداركه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!