-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رمضان وفنّ صناعة الإنسان

ناصر حمدادوش
  • 607
  • 0
رمضان وفنّ صناعة الإنسان
أرشيف

يتميّز الإنسان عن سائر المخلوقات تميّزًا نوعيًّا استعلائيًّا، لا يخضع إلى نفس السّلّم القيمي الموحّد معها، وإن تساوى مع الكون في درجة المخلوقية فإنه يتميّز عن سائر الكائنات في التكريم، فقد حاز مساحةً تعبيريةً قرآنية واسعة في الحديث عنه بما يرتقي به إلى عقيدة التكريم الرّباني، مصداقًا لقوله تعالى عن مطلق الإنسانية: ((ولقد كرّمنا بني آدم)) (الإسراء: 70).

هذا ما نلحظه في الاحتفال المشهود بخلق الإنسان في سورٍ وآياتٍ متكرّرة مجملةٍ ومفصّلة بما جعله محور البيان القرآني، ليس في مقام الخطاب الإلهي التكليفي فقط، بل في مقامات البيان والعناية والشّرح الوجودي له، فقد خصّته العناية الإلهية بالخلق المخصوص والمتميّز بشرفية الخلق المباشِر بيده تعالى، كما قال سبحانه: ((قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي)) (ص: 75)، كما خصّه بسجود التكريم وبالنّفخ المباشِر لعنصرٍ من عناصر التكوين المقدّسة فيه وهي الرّوح التي نسبها الله تعالى إليه نِسبة التشريف، فقال للملائكة: ((فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (ص: 72)، وهو ما جعل الإنسان سيّدًا في هذا الكون، فهو محلُّ الثقة والقوّة والاستخلاف في قوله تعالى: ((وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة)) (البقرة: 30)، وهو محلّ تسخير الكون كلّه له، كما قال تعالى: ((وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعًا منه)) (الجاثية: 13)، وأنّ شرفية التسخير معناها: النّيابة عن الله، وهو تسخيرٌ متناميّ وممتدّ، وهو تسخيران: تسخيرٌ لما في الآفاق وتسخيرٌ لما في الأنفس، وهو مسؤوليةٌ لا متناهية في تحمّل أعباء الوظائف الحضارية للإنسان في هذا الوجود، والتي تلخّصت في شرفية الخطاب الإلهي له بالتكليف في حمل الأمانة، التي لا تليق إلا بأهل السّمو والثقة، كما قال تعالى: ((إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرضِ والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان…))” (التوبة: 72)، والرّاجح في معنى الأمانة بالمعنى الكلّي هي التكليف بوظائف الدّين وسياسة الدّنيا به، والتي تخضع لمبدئي الحرّية والمسؤولية، ومنطق الجزاء والعقاب، فقد كُلّف الإنسان بمقدار ما أُعطِي من التكريم، وهو لم يُخلق عبثًا، يتمتّع ويأكل كما تأكل الأنعام والنّار مثوًى له، كما قال تعالى: ((أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا تُرجعون)) (المؤمنون: 115).

كلُّ هذا التكريم، والتّمتع بكلّ هذه الحرّية، لتحمُّلِ كلِّ هذه المسؤولية، يجعلنا نلتفت إلى حتمية البناء لهذا الإنسان حتى يكون أهلاً لذلك، وهو ما يجعلنا نتحدّث عن رمضان وفنّ صناعة الإنسان بأبعاده المتكاملة.

بناءُ الإنسان صناعةٌ وفنّ، كما جاء ذلك الملمح في تلك اللّفتة القرآنية في قوله تعالى لسيّدنا موسى عليه السّلام في معرض الإعداد له: ((وألقيت عليك محبّةً منّي، ولتُصنع على عيني)) (طه: 39)، وأي صناعةٍ أجمل من صناعة الإنسان، والتي تقتضي: الدّقة والعناية بما يستوعب كلّ عناصر كينونته: قلبًا وعقلاً، جسدًا وروحًا، فما هي اللّمسات الخفيّة لرمضان في هذه الصّناعة؟

1/ صناعة العقل: لا يختلف شهر رمضان -كقطعةٍ زمنية مجرّدة- عن سائر الشّهور، إلاّ أنه تميّز عنها بأعظم حدثٍ كونيٍّ ربط الأرض بالسّماء، فحلّت البركة الإلهية بنزول الوحي فيه فحاز شرف التميّز به، وهو الذي استحقّ التنويه به في قوله تعالى: ((شهر رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن)) (البقرة: 185)، وهو أوثق مصادر الإنسان وأصدقها في المعرفة بالله والكون والحياة.

وتزداد الصّلة بين الإنسان والقرآن خلال شهر رمضان فيرتقي في مدارج السّمو العقلي والفكري، فتتعمّق عقلانية الإسلام في صناعة أشرف العناصر في بِنية الإنسان وهو العقل، بصناعة العقلية العلمية التي تؤهّله للعبادة والعمارة والخلافة، ومن ملامح هذه الصناعة أنه أشاد بعبادة التفكير والنّظر والتأمّل مثل قوله تعالى: ((ويتفكّرون في خلق السّموات والأرض)) (آل عمران: 191)، وأنه لا يقبل أيّ دعوى إلا بدليل كقوله تعالى: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) (النمل: 64)، وأنه يرفض الظنّ في موضع اليقين في قوله تعالى: “.. وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.” (النجم: 28)، وأنه يعيب العواطف والأهواء في مقام الحياد والموضوعية في قوله تعالى: ((ومن أضلّ ممن اتبع هواه بغير هدًى من الله))” (القصص: 50)، وأنه أحدث ثورةً على التقليد والجمود والتبعية الفكرية ولو كانت من الموروث التقليدي للآباء، فقال تعالى: ((أوَلوْ كان آباؤُهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون)) (البقرة: 170).

 2/ صناعة القلب: فهو محلّ النّية والإرادة، وهو محلّ العاطفة كأقوى دافعٍ لسلوك الإنسان في هذا الكون، وهو مدار صلاح الإنسان كما ورد في الحديث المشهور: ” ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلُحت صلُح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب”.

وعبادة الصّيام في رمضان هي من عبادات السّر التي تضبط عقارب النيّة والإرادة، وتتحكّم في هيجان العواطف والغرائز، وتمسك بزوايا صلاح الإنسان واستقامته، كما ورد في الحديث القدسي الجليل: “… يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فالصّيام لي وأنا أجزي به”.

3/ صناعة الرّوح: فشهر رمضان هو شهر انتصار الرّوح على الجسد، فهي الطّاقة غير المحدودة للإنسان، وهي القوّة الخارقة والخفية له، وهي الحاملة للجسد والدافعة له إلى العمل والتضحية، وقد جعل الله تعالى غذاءَها وماءها وهواءها ودواءها في القرآن الكريم، قال تعالى: ((وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا)) (الشّورى: 52)، قال العلماء: سمّى الله تعالى القرآن روحًا لأنه روحٌ للرّوح. وشهرُ رمضان هو القطعة الزّمنية المباركة لممارسة الإنسان لأقصى طاقاته الذّهنية والجسدية في التعبّد لله تعالى والتقرّب إليه سبحانه بما ينعش هذه الرّوح ويغذّيها ويحييها، وهو محرابٌ للتجسيد العمليّ لقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)) (الأنفال: 24).

4/ صناعة الجسد: فمن عقلانية الإسلام: التوازنُ في العناية بالجسد كعنايته بالرّوح، إذ لا رهبانية في الإسلام، بل جعل له حقًّا ثابتًا، وسمع العالم لأوّل مرّة قوله صلى الله عليه وسلّم: “إنّ لبدنك عليك حقًّا”، فهو الجندي المنفّذ لكلّ الأعمال والمتحمّل لكلّ الأحوال، ولذلك كان بناؤه وحفظُه من أهمّ مقاصد الشريعة الإسلامية.

ولا تزال أوجه الخيرية في الصيام تلاحق الإنسان بقوله تعالى: ((وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون)) (البقرة: 184)، ولا يزال العلم الحديث يطالعنا بأوجه الإعجاز الطبّي وفوائد الصّيام الصّحية على الإنسان، فكم من الأمراض التي يعالجها، وكم من الشّحوم والسّموم والسّوائل التي يتلّخص منها، وكم من الخلايا التي يجدّدها، وكم من القوّة المناعية التي يُكسِبها.. فقد أكّد العلماء -مثلاً- أنّ الصّيام يزيد في الكريّات الدّموية البيضاء التي تلتهم الأجسام الغريبة عشرة أضعاف، ويزيد في قدرة الكبد على مضادّات السّموم عشرة أضعاف، ويزيد في قدرة الكبد على إنتاج البروتينات المناعية خمسة أضعاف، لأنّعمليات الهدم في الكبد أثناء الصّيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي… وغيرها من الآثار الصحّية التي لا تُخفى عن الصّائم، وبذلك يُعتبر الصّيام شهادةً صحّيةً لأجهزة الجسم بالسّلامة.

ممّا سبق يتبيّن لنا أنّ الصّناعة الرّمضانية للإنسان في أبعاده الأربعة ليست بناءً منعزلاً عن التفاعل الإيجابي مع الوجود، فهو المستجيب لله والمنضبط بالوحي والمتفاعل مع الحياة والمنسجم مع الكون والمتناغم مع أشواق الآخرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!