-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
تحدّوا قسوة المناخ والـ "عقم" الزراعي للصّحراء

شباب يُحوّلون الكُثبان الرّملية إلى حقول خضراوات وفواكه ومراع

نادية سليماني
  • 7559
  • 0
شباب يُحوّلون الكُثبان الرّملية إلى حقول خضراوات وفواكه ومراع
أرشيف

تحوّلت صحراؤنا، في ظرف سنوات قليلة، إلى قُطب فلاحي بامتياز.. فمن كان يتوقّع أن هذه الأرض “الصّفراء” شديدة الحرّ والجفاف الموصوفة بـ “العُقم الزراعي” تنتج خضرا طازجة وعضوية وفواكه، بل وحتى تينا وزيتونا، وبسواعد شباب وطئت أقدامهم أرض الصّحراء وللمرّة الأولى. فكيف ساهمت عملية تمكين الطاقات الشبابية وتشجيع قدراتهم الإبداعية في تحويل أرض مُقفرة جرداء إلى جنّة خضراء؟ وهل تحقيق تنمية واكتفاء غذائي عبر صحرائنا حلمٌ مشروع؟
ذهب في نُزهة عادية إلى الصّحراء، وعاد منها يحمل فكرة مشروع جسّده لاحقا ونجح فيه.. هو بدر الدّين عبادة، من حيّ المدنية بالجزائر العاصمة، توجه مع صديق له لقضاء أيام بتميمون، أين اكتشف عالما آخر أذهله.
قصة بدر الدّين، بحسب ما سرده لـ “الشروق”، بدأت بعد تقاعده من وزارة الأشغال العمومية، بحيث قرّر قضاء أيام في منطقة تميمون مع صديق له. وفي أثناء تواجدهما بالمنطقة، ذُهل من الاخضرار الذي رآه ووفرة المياه الجوفية، وبرودة الطقس ليلا. ومن شدة إعجابه بالمكان، اقترح عليهما شخص ينحدر من الجنوب، فكرة شراء قطعة أرض ببلدية بوقمّة دائرة أوقروت بولاية تيميمون لغرض زراعتها.

زيتونٌ “بيُو” في عمق الصّحراء..!
مُحدّثنا، استهوته الفكرة، ولم يتردّد في المغامرة بغرس أشجار الزيتون بالصحراء، رغم أن هذا النوع من الأشجار يحتاجُ مناخا مُعتدلا، ومع ذلك، بدأ الصّديقان في تجسيد فكرتهما.
وعنها يقول بدر الدّين: “في البداية، تخوّفنا من مناخ الصّحراء القاسي، أين تصل درجات الحرارة حتى 50 درجة صيفا، وهبوب زوابع رمليّة قد تتسبّب في إسقاط براعم الزيتون.. ومع ذلك، استمررنا في المشروع عن طريق غرس آلاف الشجيرات، التي تحمل 3 أنواع من الزيتون، أحضرناها من ولاية عين الدفلى”.
وبعد قرابة 7 سنوات من الكدّ والتعب والتنقل لمسافة 1200 كلم بين الجزائر العاصمة وتميمون ولعدة مرات في الشّهر، واستثمار كل ما يملكانه من أموال، بدأت الشجيرات التي تسقى بعملية التقطير في النمو والتأقلم، وأعطت ثمارا مناسبة، ومن دون استعمال ولو قطرة مبيدات، أي إنه زيتون طبيعي مائة بالمائة.

سعي لتشييد معصرة زيتون في تميمون
واجه بدر الدّين عديد المشاكل في بداية استثماره، أهمها مُتعلق بطول المسافة بين الشّمال والجنوب، وغياب مسكن يستقرّ فيه في أثناء تواجده بالصّحراء، وتوفير عمال للاعتناء بالأشجار.. وتلاشت هذه العراقيل شيئا فشيئا.. بُعد المسافة تم التعوّد عليه، وتم تشييد مسكن صغير هناك. وقال: “كثيرا ما أتلفت الزوابع الرّملية براعم الزيتون، وأسقطت الرياح القوية الأغصان، دون الحديث عن قسوة المناخ.. ومع ذلك، صبرنا حتى نلنا”.
والإشكال الذي يواجه بدر الدين، بعد نُضج ثمار الزيتون حاليا، هو غياب معصرة قريبة، فليس بإمكانه نقل المحصول إلى الشمال لبُعد المسافة، ما جعله يفكّر في شراء معصرة صغيرة بالمنطقة.. وهو استثمار جديد بإمكانه توفير مناصب شغل لبطالي المنطقة. ويرجو محدثنا دعم السّلطات العمومية لعملية تشييد معاصر زيتون في ولايات الجنوب.
في خضمّ حديث بدر الدّين عن مشروعه، تلمح بريقا في عينيه، وكأنه يتحدّث عن ابن له عاش جميع مراحل نموه، ليختم بالقول: “صحراؤنا كنز.. أيّ نوع من الخضر والفاكهة ينمو فيها، فمن قال إن الزيتون يعطي ثمارا في تيميمون..!”.
وهو ما جعله يدعو كل شخص يريد الاستثمار في ولاية صحراوية، خاصة في مجال الفلاحة، سواء بأمواله الخاصة أم بدعم من الدولة، إلى أن يتشجع ويعقد العزم دون خوف أو تردد، لأن الصحراء “منجم ذهب”، على حدّ قوله. تتوفر فيها كل مقومات الفلاحة الناجحة.. من مياه جوفية ووجود كهرباء وأشعة الشمس التي تقضي على الحشرات، ما يجعل منتجات الصحراء “بيُو”، أي من دون مبيدات أو أسمدة كيميائية.
كما تمنى محدثنا إطلاق السلطات المحلية بولايات الجنوب، حملة تشجير في كل بلدية، باعتبارها الحلّ الوحيد لوقف زحف رمال الصّحراء و”تخضير” الجنوب.

من جيجل إلى إليزي.. قصّة نجاح
قصة أخرى، بطلها الشاب عادل بن مازا، الذي ترك أراضي جيجل الخصبة شاداّ الرحال نحو ولاية إليزي، بهدف الاستثمار في غرس الخضر والفواكه.. وبدعم من الدّولة، حوّل عادل 20 هكتارا من رمال الصّحراء إلى حقول بصل وبطاطا وطماطم ودلاّع.
وتجربته كانت ناجحة جدا، بحيث تمكن من تزويد السوق المحلية بولاية إليزي بمختلف أنواع الخضر والفاكهة، وفي غير مواسمها، كما ساهم في تراجع أسعارها محليا. والشاب بدوره، وجد صعوبات في تسويق منتجاته في البداية، ولكن مرافقة السلطات المحلية له يسّرت له أموره.

“حنّاء تميمون”.. حُلم عائلة أصبح حقيقة
والاستثمار الناجح في الجنوب، لا يقتصر على الحبوب والخضر فقط، فهاهي عائلة حناني القاطنة بولاية تميمون، تجسد مشروع غرس أشجار الحنّاء وتنجح فيه.
العائلة بدأت مشروعها بانتقاء أجود أنواع الحناء بعد تجارب، ثم زرعت شجيراتها بمنطقة قصر بابة بدّا بلدية أولاد سعيد، ونمت الشجيرات مقدمة منتجا ذا جودة. بعد قطفه، تتم عملية تجفيفه وطحنه داخل ورشة صغيرة تضم آلات بسيطة، ثم يتم تسويق المنتج المسمى “حناء تميمون” إلى مختلف ولايات الوطن.
ولأن الحنّاء مطلوبة جدا في المجتمع الجزائري، لاستعمالها في عديد المناسبات والأفراح، جعل عائلة حنّاني تطمح في توسيع ورشتها لاستيعاب عمّال أكثر من شباب المنطقة البطال.

حوّل أرضا قاحلة إلى مرعى أخضر لمواشيه
أمّا جلّول الشايش، فخالف الجميع بفكرته المُبدعة.. فهو من كبار مربي الإبل والمواشي، وجميعنا يعلم مشكل غلاء الأعلاف وقلة المراعي والمساحات الخضراء، التي طالما يشكو منها الموالون، ولذلك قرر الشايش خوض غمار الفلاحة الرعوية، عن طريق استصلاح أرض مُقفرة بولاية المنيعة وغرسها بأعشاب الرّعي الخضراء، ما جعله يستغني بعد فترة قصيرة عن مشكل الأعلاف والشعير.
وبحسب المتحدث، فهو كان يعاني من مشكلة توفير الغذاء لماشيته وإبله وتسمينها، بسبب الجفاف الذي فرضه التغير المناخي، وقال: “نحن الموالين بتنا نجد صعوبة كبيرة لإيجاد مراع صالحة، أما بعد استصلاحي قطعة أرض وتحويلها إلى مرعى أخضر، فقد أصبحتُ أوفر الحشيش والتبن لماشيتي وطول السّنة ومن أرضي الخاصّة”.
ويأمل عمي جلول أن يتبنى الموالون فكرة تحويل أراض قاحلة إلى مراع خضراء، بدعم من الدولة طبعا، وجعل الفلاحة الرعوية “شعبة من شعب الفلاحة، يتم تأطيرها وفق قوانين وشروط لغرض تطويرها مستقبلا والانتفاع بها”.
هذه القصص وكثير غيرها، تؤكد تمكّن شباب الجزائر من جعل صحرائنا أهم مُورّد لولايات الشمال، بمختلف أنواع الخضر والفواكه ومنتجات أخرى، كما أنهم فتحوا الطريق لغيرهم، بتجارب نجاحهم المميزة. بعدما تمكنوا رغم قساوة الطبيعة الصحراوية، من توفير أفضل المنتجات الفلاحية في البلاد.
كما أسهم الإنتاج الوفير لمختلف المحاصيل الزراعية بالأراضي الصحراوية، في تغيير نظرة السلطات العمومية إلى الجنوب، عن طريق إجراءات ومشاريع وتقديم تسهيلات للمستثمرين ودعم الشباب.
وأتى تمكين الدولة للطاقات الشبابية والقدرات الإبداعية، بثماره التي فاق بعضها الطموحات المرصودة بكثير، ما يجعل أمر المسارعة بفتح أبواب الاستثمار الفلاحي أمام الشباب، أكثر من ضرورة، لبناء اقتصاد وطني ركيزته تحقيق أمن غذائي، انطلاقا من بوابة الصحراء.

230 ألف هكتار بالجنوب تحت تصرّف المُستثمرين في 2022
كشف وزير الفلاحة والتنمية الريفية، محمد عبد الحفيظ هني، أن تطوير الفلاحة في الجنوب يشكل “أولوية” في مخطط عمل دائرته الوزارية، كاشفا عن وضع 230 ألف هكتار تحت تصرف المستثمرين سنة 2022 في إطار برنامج الفلاحة الصحراوية.
ومن المتوقع، تخصيص 220 ألف هكتار، في إطار مخططات الزراعات المعدة لهذه المنطقة، لاسيما الزراعات الاستراتيجية مثل الحبوب والبقوليات.
وأكد تسجيل “طلب قوي” على الاستثمار الزراعي في جنوب البلاد، حيث تم تسجيل أكثر من 3000 طلب على منصة ديوان تطوير الزراعة الصحراوية ما بين نهاية 2022 ومطلع 2023.

الذكاء الرّقمي مطلوب في الفلاحة الصحراويّة
وفي هذا الصدد، رحّب الخبير في المجال الفلاحي، لعلى بوخالفة، باختيار الشباب والمُستثمرين وجهة الصّحراء للانطلاق في مشاريعهم الفلاحية. ولكن، بحسب تصريحه لـ “الشروق”، لابد من الدراسة الدقيقة والجدية لأي مشروع فلاحي قبل الانطلاق فيه، بسبب عدة عوامل.
وبحسب محدثنا، نحن نعيش عصر الذكاء الاصطناعي الذي أزاح الفلاحة التقليدية، وهو ما يستلزم دراسة جدوى المشاريع الفلاحية خاصة بالجنوب، من تحليل التربة ونوعية المناخ، وجودة البذور أو الشجيرات، وبعدها ندرس نقطة الترويج والتسويق.
وأضاف: “الفلاحة هي عمود بناء الاقتصاد الوطني، ولذلك، لابد من دراسة أي مشروع فلاحي من جميع جوانبه.. وكما أن الاحتباس الحراري تسبب في تقلبات غير متوقعة بالمناخ، وأحدث شُحا في الموارد المائية. وعليه لابد من الاستعانة بالتكنولوجيات الحديثة وبآراء المهندسين الفلاحييّن، لتجنب نتائج غير متوقعة أو مُخيّبة”.

الأولوية للحبوب والأعلاف والمصادر الزيتية
ولغرض تحقيق الأمن الغذائي من خلال الفلاحة الصحراوية، يرى محدثنا، ضرورة الاهتمام بزراعة المنتجات الأساسية، مثل الحبوب والأعلاف والمصادر الزيتية والسكر، لكونها تتناسب مع المناخ الصحراوي.
وأشار إلى ضرورة التقيد بالمسار العلمي التقني في المجال الفلاحي، لمنحنا محصولا جيدا بتكلفة أقل. وقال لعلى: “إدخال الرقمنة إلى القطاع الفلاحي، يساهم في إعطاء الفلاحين والخبراء، معلومات استشرافية قائمة على أرقام وإحصائيات دقيقة، يمكن الاعتماد عليها في الرفع من المردودية وحتى تصدير الفائض من المنتجات الفلاحية الصحراوية إلى الخارج، بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي”.
أثبتت الزراعة الصحراوية في الجزائر أنها مستقبل تنمية البلاد وأمن العباد، بعدما حولت طاقات شبانية قساوة مناخها إلى “رقم صعب” في معادلة تحقيق أمن غذائي لطالما سعت إليه البلاد. فكثير من التجارب أثبتت إمكانية زراعة جميع المنتجات الفلاحية في الصحراء، وبجودة عالية بعيدا عن الأسمدة الكيماوية، وكما أنها زراعات مستدامة. وهذا الأمر لن يتحقق إلا بفضل عزيمة الشباب ودعم الدّولة، وتشجيع المستثمرين على الانتقال إلى الجنوب.
فالصحراء الجزائرية، تحولت في ظرف سنوات قليلة إلى مركز زراعي حقيقي، ساهم في خلق فرص عمل وتعزيز الأمن الغذائي للبلاد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!