-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فرنسا بين العلمانية والعنصرية الدينية

ناصر حمدادوش
  • 527
  • 0
فرنسا بين العلمانية والعنصرية الدينية

تطلّبت نشأة العَلمانية في فرنسا فصولاً مأساوية من الدماء منذ اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789م، وكان من أبرز نتائجها على المستوى السِّياسي: العلمانية الراديكالية بالفصل العنيف بين الدِّين والسِّياسة أو بين الكنيسة والدولة، وكانت لهذه العَلْمَنة الفرنسية خصوصيتها، إذ ظلَّت الكنيسة الكاثوليكية متماهية مع الهوية الوطنية الفرنسية، وهو ما تطلَّب حجمًا من العنف من أجل ذلك الفصل الحادِّ بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وقد بدأت حروبًا دينيةً وانتهت سياسية، بمقولة: “اشنقوا آخر الملوك بأمعاء آخر قسِّيس”.
تشكَّلت ردود أفعالٍ شرسةٍ ضدَّ الكنسية، حمل لواءها الفلاسفة باسم إيديولوجية العقل، وهو ما أطاح بمركزية الدِّين المسيحي المحرَّف في الفكر السِّياسي الفرنسي، وأنتج حدودًا غامضةً في التمييز بين “روح الدِّين” و”روح الحرية”، مما أبعد العلمانية الفرنسية عن التسامح الديني الذي تميَّزت به العلمانية في دولٍ غربيةٍ أخرى، وهو ما دفع “محمد أركون” -أحد أساطين الحداثة المعاصرة- إلى وصفها بـ”العلمانوية”، بسبب غلوِّها وانحرافها التاريخي عن المعنى الأصلي لها، وهو: الالتزام بحياد الدولة اتجاه الدِّين، إذْ أنَّ فصل الدِّين عن الدَّولة لا يعني فصل الدِّين عن المجتمع.
وفي الوقت الذي كانت فرنسا تتباهى بعصر الأنوار والعلمانية المخلِّصة والحداثة المشعَّة، كانت تخوض حروبًا دينيةً وصليبيةً في الوقت ذاته، وكان للبعد الدِّيني المسيحي دورٌ كبيرٌ في احتلالها للدول والشُّعوب، بعد اعتبار فرنسا نفسها حاميةً للكنيسة الكاثوليكية وراعيةً لنشر المسيحية، فقد قال الملك “شارل العاشر” في خطاب العرش يوم 02 مارس 1830م، وهو يستعدُّ لاحتلال الجزائر: “إنَّ العمل الذي سأقوم به هو ترضيةٌ للشَّرف الفرنسي، وسيكون بإعانة العليِّ القدير لفائدة المسيحية كلِّها”، ويقول كاتب الحاكم العامّ في الجزائر سنة 1832م: “إنَّ آخر أيام الإسلام قد دَنَت، وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إلهٌ غير المسيح، وإذا أمكننا أن نشكَّ أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا على أيِّ حال أن نشكَّ بأنها قد ضاعت من الإسلام وإلى الأبد”، ويقول الجنرال “بيجو”: “إنَّ أرض الجزائر أرضٌ خصبةٌ لزرع المسيحية… أما العرب فلن يكونوا مِلْكًا لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعًا”، كما أنَّ ذلك التعصُّب المسيحي والخلفية الصَّليبية كانت حاضرةً بقوة في ذلك الجيش من رجال الدِّين المسيحيين الذين رافقوا جيش الاحتلال الفرنسي، وقد خاطبهم الملك، فقال: “إنَّ مرادنا أن تقيموا صلواتٍ في كلِّ الكنائس، وتطلبوا من الله أن يحمي الراية، ويعطينا النَّصر”، فقد تعمَّدت فرنسا العلمانية تدخُّلها في الدين الإسلامي بطمس الهوية الإسلامية للجزائر، وتحويل المساجد والمدارس القرآنية والأوقاف الإسلامية إلى كنائس مسيحية وثكنات عسكرية وإسطبلات حيوانية، وقال “لافيجري” عن هذه الإجراءات الصَّليبية: “علينا أن نجعل من أرض الجزائريين مَهْدًا لدولةٍ مسيحية… تلك هي رسالتنا”، وهو ما يفضح علمانيتها.
وإذا اعتبرنا فرنسا البنت الكبرى للكاثوليكية، فإنَّها كانت على موعدٍ مع التاريخ الذي سَجَّل عليها سَنَّ ذلك القانون الشَّهير سنة 1905م بالفصل التامِّ بين الكنيسة والدولة، إلاَّ أنَّ السَّيرورة التاريخية أثبتت زَحفًا نحو “ما بعد العلمانية” في المجتمعات الغربية، فوجدت العلمانية الفرنسية نفسها أمام هذا المدِّ الدِّيني المتصاعد في المجتمع، وهي المفارقة المقلقة للدولة الفرنسية، بل أخذ “الدِّينيُّ” يتسلَّل إلى قلب علمانية “السِّياسي” بسلاسة، حتى أصبح إعلان الانتماء الدِّيني للسَّاسة الفرنسيين يشكِّل انحيازًا واضحًا إلى “المجتمع المتديِّن” ولو على حساب “الدولة العلمانية غير المتديِّنة”، ولا يمكن لفرنسا أن تختبئ وراء العلمانية لتبرير عنصريتها الدينية ضدَّ الإسلام والمسلمين، فإنَّ أغلب الرؤساء والوزراء والسَّاسة الفرنسيين علمانيون في حياتهم العامّة، ولكنهم ملتزمون دينيًّا في حياتهم الخاصة، فهذا الرئيس “ديغول” كان يعبِّر دائمًا عن إيمانه بالله واليوم الآخر، ويشهد القدَّاس الديني الأسبوعي في الكنيسة، وهذا أشدُّ الرؤساء عنصرية “نيكولا ساركوزي” نشر كتابًا تحت عنوان: “الجمهورية والديانات والأمل”، والذي اعترف كذلك بالتزامه الديني، ودعوته إلى إصلاح العلمانية الفرنسية، وهذا الوزير الأول الأسبق “رافاران” يقول سنة 2003م: “يلاحَظ حاليًّا عودة الديني..”، ثم نقل عن الفيلسوف والناقد والمفكر الفرنسي “أندري مالرو”(1901م– 1976م) قوله: “إنَّ القرن الواحد والعشرين سوف يكون دينيًّا..”، ثم قال: “الطاقة الحقيقية اليوم هي القيم الروحية والإنسانية.. وإني أعتقد أنَّ مستقبل السِّياسي أنْ يحرِّك هذه الطاقة..”.
هناك مفارقةٌ عجيبةٌ في حياة السِّياسي الفرنسي، فهو يعيش بشخصيةٍ مزدوجةٍ: بين ذلك العلماني دستوريًّا وقانونيًّا في العلن، وبين ذلك المتديَّن المنسجم مع ذاته في حياته الخاصَّة، وهي ضريبة العلمانية السِّياسية التي عفى عنها الزمن، فهو منسجمٌ مع دينه إلاَّ ما يتعلَّق بالإسلام والمسلمين فإنَّ هذا السِّياسي الفرنسي يتحوَّل من حِملٍ مسيحيٍّ وديعٍ إلى وحشٍ مفترس، يقذف بحمَّاماتٍ من الكراهية الدينية والعنصرية المقرفة.
وإذا كان البعضُ يعرِّف العلمانية بأنها: “عزل الدِّين عن الدولة”، أي: حماية النَّاس والقانون والنِّظام من إشكالات الدِّين بالمفهوم الغربي، فإنَّ البعض يعرِّف العلمانية أيضًا بأنها: “عزل الدَّولة عن الدِّين”، أي: حماية الدِّين من تغوُّل الدولة وتدخُّلها فيه ومعاداتها له.
ومع أنَّ المادة الأولى من الدستور الفرنسي تنصُّ على أنَّ الدولة علمانية وديمقراطية واجتماعية، تحترم جميع المعتقدات، وتكفل مساواة جميع المواطنين أمام القانون، دون تمييزٍ يقوم على الأصل أو الدِّين.
ومع أنَّ قانونَ العقوبات الفرنسيِّ وقوانينَ الصحافة تحظر الاتِّصالاتِ العامَّةَ والخاصَّةَ التي تنطوي على تشهيرٍ أو إهانة، أو تحرِّض على التمييز أو الكراهية أو العنف ضدَّ شخصٍ أو جماعةٍ بسبب مكان المنشأ أو العِرق، أو الجنسية أو الدِّين الخاصّ، فإنَّ فرنسا لا تزال غارقةً في عنصريتها الدينية المتنامية.

يقول كاتب الحاكم العامّ في الجزائر سنة 1832م: “إنَّ آخر أيام الإسلام قد دَنَت، وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إلهٌ غير المسيح، وإذا أمكننا أن نشكَّ أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا على أيِّ حال أن نشكَّ بأنها قد ضاعت من الإسلام وإلى الأبد”، ويقول الجنرال “بيجو”: “إنَّ أرض الجزائر أرضٌ خصبةٌ لزرع المسيحية… أما العرب فلن يكونوا مِلْكًا لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعًا”.

ويظهر ذلك البُعد الديني واضحًا في هذا التمييز العِرقي والعنصري في تنامي ظاهرة “الإسلاموفوبيا” كاختراعٍ مفبرك، وكاختزالٍ سخيفٍ للانتماء، والتي سمَّاها البعض “طاعون العصر الحديث”، وهي في حقيقتها ليست “الرُّهاب غير الإرادي من الإسلام” كحالةٍ نفسيةٍ وعقليةٍ مرضية، بل هي “الكراهية ضدَح الإسلام والمسلمين” المدفوعة والمتغذِّية بشكلٍ نمطي، إذْ هي شعورٌ فيه قدرٌ من الإرادة والمسؤولية.
هذا الكيل بمكيالين في الحرية الفرنسية المقدَّسة في اعتدائها على جوهر حرية المعتقد للآخر تفضح تناقض العلمانية وقيم الجمهورية الفرنسية في تعاملها الإقصائي مع الهوية الإسلامية، وهي التي استقدمت هؤلاء المسلمين في ستينيات القرن الماضي من مستعمراتها القديمة من أجل نهضة فرنسا، حتى أصبحوا في نظر المتنورِّين الفرنسيين الآن: “مستعمرين جُددا”، فوصلت إلى سنِّ قانونٍ يمنع استعمال الرموز الدينية في المدارس والفضاءات العامة وأماكن العمل في الوظيفة العمومية يوم 15 مارس 2004م، وسَنِّ قانونِ حظر النِّقاب يوم 13 جويلية 2010م، وكان المستهدَف الرئيس هو حرية المرأة المسلمة في لباسها الشَّرعي: “الحجاب” و”النِّقاب”.
ومع تحفُّظ “مجلس الدولة الفرنسي” على هذا القانون، واعتباره: لا أساس له من الصحة، لأنه يتعارض مع أهمِّ مبادئ الدستور، وأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وأنَّ الحجاب لا يتعارض مع النظام العامّ للمجتمع، فقد وصلت العنصرية المؤسَّسية إلى منع الشرطة الفرنسية “البوركيني” كلباسٍ نسائيٍّ محتشم في شواطئ البحر، وتنامَت العنصرية الدينية إلى الاعتداء على المساجد ومحاولات حرقها وإطلاق الرصاص على روادها، مع ما يصاحب ذلك من تطرُّفٍ في السُّلوك والممارسة والدعاية الإعلامية السَّاخرة من الرموز الدينية، فحسب بعض الإحصائيات فإنَّ: 42 بالمائة من المسلمين، و60 بالمائة من المسلمات تعرَّضوا للاعتداء والعنصرية بسبب دينهم، بل أصبح ذلك مادةً دسمةً للحملات الانتخابية، والبرامج السِّياسية للأحزاب اليمينية المتطرِّفة الصَّاعدة، والخيارات الحكومية الرَّسمية بما يهدِّد مبادئ العيش المشترك.
إنَّ المعنى الأصلي للعلمانية يقتضي حياد الدولة اتجاه الدِّين، والديمقراطية الحقيقية تقتضي التنوُّع والتعددية، وقبول الآخر هو ما يحافظ على السِّلم الاجتماعي، وهو ما يفرض على فرنسا احترام دستورها الذي يعرِّف هوية الدولة بأنها: علمانية، ديمقراطية واجتماعية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!