-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في الشأن اللغوي

في الشأن اللغوي

خلال عام 2016، في زمن الوزيرة نورية بن غبريت، تم السعي إلى تدريس المواد العلمية، من رياضيات وفيزياء وعلوم طبيعية، باللغة الفرنسية في مرحلة ما قبل الجامعة. لكن المحاولة باءت بالفشل رغم أن الاقتراح أُعدّ ليُرفع إلى الحكومة، وربما رُفع آنذاك دون أن ندري.

تبريرات أصحاب هذا المقترح هو رفع مستوى التعليم والتحصيل العلمي للتلاميذ لأن اللغة الفرنسية هي لغة التقدم والمستقبل، وليست اللغة العربية في مستواها. وفي المقابل، نتذكّر هنا تجربة الوزير علي بن محمد في مطلع التسعينيات عندما أدرج في المنظومة التربوية الخيار بين اللغة الإنكليزية واللغة الفرنسية لأولياء التلاميذ في المرحلة الابتدائية، فأجهِضت المبادرة في المهد من قبل المناهضين.

وماذا في عام 2023؟

في جوان 2022، قرّرت الحكومة اعتماد تدريس اللغة الإنكليزية بدءًا من المرحلة الابتدائية على أن يدخل هذا القرار حيّز التنفيذ في سبتمبر 2022. وكان الأمر كذلك، رغم ما في تطبيقه من صعوبات وتسرّع (إعداد المنهاج، طباعة الكتاب المدرسي، تكييف الجدول الزمني لحصص جميع المواد، توظيف الأساتذة، تكوينهم، كل ذلك في غضون 3 أشهر…). وفي زمن مضى، كان قرار مثل هذا لا يمرّ بسلام عند المناوئين لكل ما يمسّ بمكانة اللغة الفرنسية في البلاد. لكنه لحسن الحظ، حدث ما لم يكن متوقعا إذ لم نعش ضجة إعلامية عنيفة أو اضطرابات حول الموضوع. وها هي المدرسة الجزائرية تخطو خطوة أخرى هذه السنة في الاتجاه ذاته بتوظيفها آلاف أساتذة الإنكليزية، وتواصل المسيرة بنوع من الاستقرار والتقبّل الجماعي، لاسيما من قبل الشباب.

والواقع أن عديد الدول في العالم الثالث التي كانت الفرانكفونية تفرض عليها تخصيص مكانة متميزة للغة الفرنسية في المدرسة قد تمرّدت؛ وبصفة تدريجية بدأت الإنكليزية تغزو مدارس دول كثيرة بشكل متسارع لم يكن المتتبعون من رسميين ومراقبين يتصورونه.

وفي أواخر شهر أوت 2023، أي قبل أقل من شهر، جاء في صحافتنا النص التالي على لسان “خبير تربوي” (هكذا قُدِّم) منتسب لوزارة التربية الوطنية -نفضل الرمز إلى اسمه بالحرفين الأولين ‘ك. ن.’: “أرى من الواجب تدريس المواد العلمية باللغة الإنكليزية، كالرياضيات والعلوم الطبيعية والعلوم الفيزيائية. ولا ننسى أننا نُحضِّر التلميذ للمرحلة الجامعية التي بدأت في تعميم هذه اللغة، وخصَّصت حصصا لتعلمها في العُطل”. وتضيف الصحافة وهي تحاوره: “ودعا المتابعُ للشأن التربوي ك.ن. إلى تعميم اللغة الإنكليزية على كل القطاعات والإدارات كونها مكسبا مهما والتخلي تدريجيا عن اللغة الفرنسية التي اعتبرها لغة ميتة…”. ويقول هذا الناشط التربوي (هكذا قُدِّم): “إن اللغة الإنكليزية هي لغة علم وحضارة، وهي الأولى عالميا، وكل البحوث تعتمد عليها في كل مراحل التعليم خاصة الجامعي”.

كيف لا نستغرب في هذا التنطّع من قبل “خبير تربوي” و”ناشط تربوي”؟ ومن قال إن اللغة الفرنسية لغة ميتة؟ وما معنى موت لغة؟ وما هو محلّ اللغة العربية في المدرسة لدى “الخبير التربوي”؟ وهل كل تلميذ جزائري سيحرز على البكالوريا؟… وهل كل تلميذ سيدرس في الجامعة؟ وهل كل طالب جامعي سيدرس علوما لن يستطيع توظيفها إن لم يدرسها بالإنكليزية؟ ماذا سيقول “خبراء التربية” الساهرون على التربية والتعليم في بلدانهم -المنتشرة عبر العالم- التي تدرّس العلوم قبل المرحلة الجامعية بلغاتها الوطنية والرسمية، وهي تتجاوز مائة دولة؟ وماذا سيحكم عليهم “خبيرنا التربوي”؟ هل أن كل هؤلاء في ضلال لا يفقهون؟ من الواضح للخاص والعامّ أن خبراء التربية في كل بلدان العالم المنشغلين بالشأن اللغوي يراعون عوامل كثيرة في خياراتهم اللغوية، وليس عامل “العالمية” دون سواه.

وفي هذا الخضمّ، نذكّر أن وزير التعليم العالي الأسبق، الطيب بوزيد، قد ركّز كثيرا عام 2019، على ضرورة إدخال اللغة الإنكليزية كلغة تدريس في الجامعة بدل الفرنسية، معتبرًا إياها لغة العلم في الوقت الراهن، ومبررا قراره أيضا بكون التدريس بها سيجلب الطلاب الأجانب إلى البلاد. وتمت مقاومة هذه المبادرة آنذاك، ورحل هذا الوزير من دون تحقيق ما كان يصبو إليه… رغم أن فكرته كانت وجيهة إلى حدٍّ معيّن إذ كان يدعو إلى إدخال اللغة الإنكليزية انطلاقا من رأس هرم التعليم الجامعي، أي من الدراسات العليا (الدكتوراه)، ثم الماستر… وفي الأخير تأتي السنة الأولى الجامعية.

التعليمة تلو الأخرى

أما خلال هذا العام، فمنذ شهور لم تتوقف وزارة التعليم العالي عن إصدار التعليمة تلو الأخرى لإقرار التدريس باللغة الإنكليزية لطلبة السنة الأولى الجامعية بدءا من 23 سبتمبر 2023. حاولنا تتبع منطق هذه القرارات فعجزنا عن فهم من هو المعنيُّ من الطلبة، وما هي الاختصاصات العلمية المعنية، وكيف ترى الوزارة تنفيذ ذلك في الميدان؟

الأستاذ الجامعي من الجيل الحالي درس بعد الاستقلال، وهو يتقن أو يلّم بالعربية إلا من أبى أو ادّعى، لكن إلمامه بالفرنسية أو الإنكليزية ليس مؤكدا رغم وجود أقليتين في الساحة، إحداها تحسن الفرنسية والأخرى تحسن الإنكليزية (وهي أقل عددا من الفئة الأولى). هذا هو الواقع الميداني، ومن واجب الوصاية تغييرُه، لكن هذا التحوّل المنشود لا يتم بجرة قلم وبين عشية وضحاها.

الكل يدرك أن هناك عاملا أساسيا لإنجاح عملية تعليمية: لا بد أن يتقن لغةَ التدريس المعلّمُ والمتعلّمُ معًا أو أن يُلِّمَا بها على الأقل إلماما كافيا للتواصل اليسير بينهما، لاسيما أن العلم يستوجب الدقة في التعبير. هذا الشرط شرط لازم (وغير كاف) ليتمكن المتعلّم من استيعاب ما يُلْقى عليه من دروس، كما أنه شرط لازم (وغير كاف) للمعلّم كي يحسن التعبير عن أفكار درسه ويدقّقها، فإن غاب هذا الإلمام من الجانبين فكيف سنضمن حسن تبليغ المعلومة للمتعلم؟ وكيف سنرقى بالتعليم؟

الأمر ليس سرا، والجميع يعلم أن الشرط اللازم السالف الذكر غير متوفر إذا ما تبنّينا اللغة الإنكليزية كلغة تدريس بدءا من السنة الأولى الجامعية: فالطالب كان قد تابع كل دروسه باللغة العربية حتى البكالوريا، ودرس اللغتين الفرنسية والإنكليزية كلغتين أجنبيتين نعلم كلنا أن استيعابهما على مستوى القطر من قبل غالبية تلاميذنا ضعيف جدا. كما أن الأستاذ الجامعي من الجيل الحالي قد درس بعد الاستقلال، وهو يتقن أو يلّم بالعربية إلا من أبى أو ادّعى، لكن إلمامه بالفرنسية أو الإنكليزية ليس مؤكدا رغم وجود أقليتين في الساحة، إحداها تحسن الفرنسية والأخرى تحسن الإنكليزية (وهي أقل عددا من الفئة الأولى). هذا هو الواقع الميداني، ومن واجب الوصاية تغييرُه، لكن هذا التحوّل المنشود لا يتم بجرة قلم وبين عشية وضحاها. وهنا نلاحظ أنه لو لم يتم إجهاض مبادرة الوزير علي بن محمد في التسعينيات لكان ما تسعى إليه وزارة التعليم العالي الآن قابلا للتطبيق بشكل أفضل.

نذكر كل هذا، والمنطق السليم ينادينا ليقول إن الخيار اللغوي لأي بلد لا يبني على عامل واحد إذ يستوجب مراعاة الواقع الوطني وقِيَمه التاريخية والحضارية ومستقبل البلاد والعباد. ومن هذا المنظور، نرى أنه يتعيّن على إستراتيجية منظومتنا التعليمية بجميع مراحلها، مراعاة:

– إيلاء اللغة العربية الأهمية التي تستحقها كلغة وطنية ورسمية وعالمية.

– إيلاء اللغة الإنكليزية أهمية أكبر في مختلف مراحل التعليم بصفة تدريجية، وهذا دون التفريط في اللغة الفرنسية التي ترتبط الجزائر بها ارتباطا تاريخيا. ودون إهمال تعلم لغات العالم لفئات من التلاميذ والطلبة.

– أن يواصل الطالب الجامعي تعليمه بالعربية، مع إدراج بعض المقررات (أو أجزاء منها) بالإنكليزية خلال السنوات الثلاث الأولى. ثم يتوجّه التدريس في الاختصاصات العلمية، بوجه خاص، نحو استعمال اللغة الإنكليزية استعمالا مكثفا.

إن المواضيع التربوية التي تمس بالتعليم والتحصيل العلمي للتلميذ والطالب تستحق منا عناية أكبر لتوفير أسباب النجاح لها قبل البدء في تنفيذها، وإلا خابت الآمال وأسأنا إلى تكوين أجيال وأجيال. جميلٌ أن نصدر القرارات والتعليمات، والأجمل قبل هذا وذاك، أن نضمن لها سلامة التنفيذ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!