-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في ظلال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

في ظلال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

نشأت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وقت عصيب، أحكم فيه الاستعمار قبضته على الجزائر وظن فيه أتباع الكاردينال لافيجري بأنهم قد أكملوا المهمة وأجهزوا على هذه الأمة وقضوا على عقيدة الهادي ومكنوا لعقيدة الفادي. حدث كل هذا بعد أن يئس بعض السياسيين الجزائريين من روح الله واستسلموا لفكرة أن الاستعمار واقعٌ ليس له دافع ومن الحكمة البحث عن حل توافقي بدلا من الاستمرار في المواجهة التي لا توصل إلى حل بل تزيد من معاناة شعبٍ اجتمعت عليه عاديات الزمن وتحالفت ضده قوى حلف الأطلسي وأحزاب فرعون وهامان وعصابات شارلمان.

نشأت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في زمن يموج بفتن كقِطع الليل المظلم، يصبح فيها بعض السياسيين الجزائريين وحدويين ويمسون اندماجيين يسبِّحون بحمد فرنسا ويبايعونها على السمع والطاعة. كان في الجزائر -كما نقرأ ذلك في آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي- أربعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون: الراهب الاستعماري والمعلم الاستعماري والطبيب الاستعماري والجندي الاستعماري، لكن كل هذا لم يرهب الوطنيين الحقيقيين لأن إيمانهم بعدالة قضيتهم كان ينبع من إيمانهم بأن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا وبأن ما يعانونه محنة تعقبها منحة. في هذا الظرف العصيب، وفي الخامس من ماي 1931، أعلن ابن باديس وإخوانه من العلماء ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي احتضنها الجزائريون عن بكرة أبيهم إلا من استهوتهم أخلاق العبيد وآثروا العبودية على الحرية، احتضن الجزائريون جمعية العلماء لأنهم رأوا فيها المنقذ من الضلال والمخلّص من مشاريع المسخ الثقافي والأخلاقي التي تستهدفهم وتسعى لقطع شأفتهم وسلخهم عن لغتهم وتراثهم وتاريخهم ودينهم.

لم يكن ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن صفقة بين ابن باديس وحكام باريس كما تروِّج لذلك بعض الأقلام المأجورة، فابن باديس رحمه الله رجلٌ نشأ على الفضيلة وصفاء السريرة وكان إخوانه في الجمعية على نفس السجيّة، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ولا يساومون على دينهم ووطنهم ولا يتلكؤون في مواقفهم ويرون أن الاستعمار كلَّه رجسٌ من عمل الشيطان كما وصفه الشيخ الإبراهيمي في مقال له بجريدة “البصائر”.

لم يكن الهدف من تأسيس جمعية العلماء أن تكون حزبا سياسيا، يستثمر في الفراغ السياسي الذي عاشته الجزائر في مطلع الثلاثينيات بعد أن أصابت الحركة الوطنية بعض الهنات بل كان الهدف من تأسيسها لتكون لسانا صادقا لشعب أشرِب حبَّ الدين والوطن كابرا عن كابر، وقد تحدَّث أستاذنا المرحوم عبد الكريم بو الصفصاف في بعض مؤلفاته عن دور جمعية العلماء في تطور الحركة الوطنية من 1931 إلى 1945 بالتفصيل.

لم تكن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولن تكون حزبا سياسيا أو حلفا عسكريا لأن رؤيتها مبنية على أن الإصلاح الاجتماعي لا يقوده السياسيون بل يقوده العلماء الرساليون، وفي التاريخ ما يثبت ذلك فقد نجح “مارتن لوثر” فيما أخفق فيه كثيرٌ من الساسة الأوروبيين، ونجح “ماسينيون” فيما أخفق فيه “نابليون”.

لقد أفضى رجال جمعية العلماء المؤسسين إلى ربِّهم ولكن آثارهم الطيبة في المجتمع الجزائري لا تزال شاهدة لهم، فإنه يمضي الرجال ويبقى الأثر، لا تزال الأجيال الجزائرية تغترف من معينهم وتقتفي آثارهم وتسترشد بتعاليمهم رغم طول العهد، لأن المبادئ التي  أسسوها ليست مستمدة من فلسفات ينتهي أثرها بنهاية أصحابها بل مستمدة من معين الوحي الصفي النقي الذي لا  يتغير ولا يتبدل.

مات ابن باديس أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين فخلفه الأديب الأريب محمد البشير الإبراهيمي الذي أكمل المسيرة بعزم وثبات، ثم جاء من بعده أحمد حمَّاني ثم علي غربي ثم عبد الرحمان شيبان وانتهت قيادة السفينة إلى عبد الرزاق قسوم، تغيرت الأسماء ولم يتغير النهج، وتغير القادة ولم تتغير المبادئ، فكان كل واحد منهم خير خلف لخير سلف، لقد زهت الجمعية بهم وازدهرت وكانت منذ نشأتها إلى اليوم “كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”.

اختارت جمعية سبيل الإصلاح ولكنها باركت العمل المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وانبرى رجالها يحبِّبون إلى الجزائريين الدفاع عن أرضهم وعرضهم، ويكرهون إليهم موالاة الاستعمار أو السكوت عن جرائمه وجرائره في حق الشعب الجزائري. لقد كان هذا الموقف من الجمعية نابعا من إيمانها بأن حرمة الأوطان من حرمة الأديان وهذا ما يجسِّده شعار إحدى صحفها الذي يحمل أكثر من معنى: “الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء”.

تطور العصر ولكن ظلت الحاجة إلى تعاليم جمعية العلماء ضرورة لا غنى عنه وخاصة في ظل تيارات التغريب التي تهدف إلى زعزعة أركان الأمة وتغيير مسارها والغارة على مرجعيتها من خلال إيجاد بديل مبتذل يناقض طبيعتها ويسير في اتجاه مضاد لقيمها.

كانت جرائد “الشهاب” و”المنتقد” و”البصائر” اللسانَ الذي يصدع بالحق في وجه الاستعمار وأعوانه، وأعيد إحياء “البصائر” التاريخية في صورة جريدة “البصائر” الحالية التي تمتلك أقلاما جادّة ومواهبَ متعددة وكفاءات فذة، تتصدى لطرقية هذا الزمان وتُفحم كلَّ أفاكٍ أثيم يروم النيل من شرف هذه الجمعية التي هي “خير جمعية أخرجت للناس”.

إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جمعية سلفية ولكن سلفيتها مستمدة من النبع النبوي الصافي الذي لم تكدِّره الدلاءُ ولم تُفسده الآراء، وسلفية سنية لا سلفية صوتية تُكثر من الصياح ولا يُرى لها حصادٌ يُذكر في مجال الإصلاح، تنتقد الكل وترفض كل البدائل ثم تعجز عن إيجاد البديل.

ضاقت فرنسا ذرعا بنشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فنشرت عيونها وجنَّدت مرتزقتها من أجل إجهاضها وإحداث القطيعة بينها وبين الشعب الجزائري، ولكن هذا التضييق لم يزد الجمعية إلا قوة إلى قوتها وازداد تعلق الشعب بها حتى أصبحت لسانه الذي ينطق به وركنه الشديد الذي يأوي إليه.

إن العبرة من ذكرى الخامس من ماي 1931 ليست باستذكار جمعية العلماء بالتداول على الخطاب وتنميق الكلام ثم تنتهي العبرة بنهاية الذكرى، إنما العبرة بمواصلة النهج الذي سارت عليه فكسب ود القريب واحترام البعيد، وبإدراك أن جمعية العلماء جمعية وطنية وليست جمعية فلان أو علان من الناس، يضع لها من مناهجه ما يتوافق مع هواه.

إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جمعية إصلاحية غايتها إصلاح الفرد والمجتمع وليست جمعية حزبية تحرص على خدمة نفسها وخدمة أتباعها أكثر من حرصها على خدمة أمتها، وتحسب لكل شاردة وواردة حسابها ولا تحسب حسابا لدينها ووطنها.

إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جمعية سلفية ولكن سلفيتها مستمدة من النبع النبوي الصافي الذي لم تكدِّره الدلاءُ ولم تُفسده الآراء، وسلفية سنية لا سلفية صوتية تُكثر من الصياح ولا يُرى لها حصادٌ يُذكر في مجال الإصلاح، تنتقد الكل وترفض كل البدائل ثم تعجز عن إيجاد البديل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!