قراءة في فـنجـان!
أنتَ في موقع مسؤوليةٍ فأنتَ إذنْ شخصٌ مهم، وموضع تقدير وإكبار وإعجاب من طرف الجميع ذكراناً وإناثا، وبالأخص إناثاً!
- وكأي مخلوق ضعيفٍ يتملكـُكَ الزهـو ويملؤكَ الغرور ــ كما يملأ القيح جرحا قديماً ــ وأنت تـرى ”إناثاً” يتحلقنَ من حولكَ كما يتحلقُ الذباب على الـ …… !
- في واقع الأمـر: الكل منزعجٌ منك .. لكنكَ حين تنظـرُ أمامك تجدُ نفسكَ محل إشادةٍ خارقـةٍ بمواهبكَ غير الخارقة، مع أن الكل يدعـو الله سـراً وعلانية ً أنْ يُفرغَ صبراً عليهم مادام الحـوْلُ قد دار وأنتَ تجثمُ كالوباء على رقابهم .. وحين تلتفِـتُ من حولك تجدُ الجميعَ يهلل ويسبح بحمدك مع أن الجميعَ ينتظـر بفارغ صبـرٍ رحيلَـَك غير المأسوفِ عليه … تأخذكَ العـزة بالوهم الذي أنتَ فيه، وتتخيلُ أن الوقـتَ أضيق من أن يستوعبَـك، فتأمر سكرتيرتك أن ترد على كل من يطلبُك في الهاتف بأنك في “قيلولة” مطولة!
- وعندما يتجرأ أحدُهم ويفاجئك بالحضور إلى مكتبك، تتعمدُ أن تتركَه يتجرع مرارة الانتظار قبل أن تتكرم باستقباله، حتى تعطـيَ لنفسك أهمية ًلستَ أهـلاً لها، وحجماً أكبر من حجمك الحقيقي الأصغـر من الكرسي الذي تجلس عليه، وحتى تعـطي ضـيفكَ غير المرغوب فيه درساً في حـُسن الاستقبال وكـرَم الضيافـة لِكيْلا يفكـر في العودة مرة أخرى، لأنك ترفـع شعـار ”إعادة الهيبة للمؤسسـة” بغـلـق أبوابهـا وإعادتها ألف سنة إلى الوراء!
- وأنتَ في هذا الموقع: لا تنقطعُ هواتفـُك عن الرنين، الثابتُ منها والمتنقل … وأمام هذا التقدير الزائف، والإكبار المتملق، والإعجاب المزور، وأمام الرنين الذي ينفـُخُ فيكَ كِذبة أهميتِك، تحس أن الفجر لا يبزغ إلا بإذنك، وتقتنعُ في داخلِك مثلَ ديكٍ مغـرور أن الشمسَ لا يمكنُ أن تـُشرقَ دون صياحـك، ثم تتخيلُ مثل كاتبٍ مغـمور أن الفاعـل لا يُرفـَع إلا بإذنك، وأن المفعولَ به لا يُنصَب إلا بأمرك!
- في خِضَم كل هذا: تنسى تماماً أنها لو دامتْ لغيرك ما وصلتْ إليك، ولو بقيَ فيها من سبقـك لما خلفـك من لحـقـك.. وفي خـضم هذه الأبهة الزائفة تنسى ذلك العام الأسـود الذي مررت بـه يوم طـاف عليك طائفٌ من ربـك الذي كنت وما تـزالُ في مِريـةٍ من لقائـه!
- ويذهبُ بك الأمـرُ أمام ما تراه و”تلمسه” وتحس به من تقدير زائفٍ وإعجاب مزور إلى حد أن تتوهـمَ مثلاً أنه لا يمكنُ أن تمتد إليك يدٌ بتنحيةٍ إلا بعدَ عمر طويل أو عندما تقرر أنت التنحي بمحض إرادتك … لكنْ، فجـأة ًودون أن تقرر أنت، ودون أن تحسِبَ أي حساب، وعلى حين غـِرة: تتوقفُ الصورة الملونة المـزخـرفة، ويحل محلها سـواد قاتم مكتوبٌ عـليه بطريقة الأفـلام القـديمة: يومٌ من بعـد… !
- بعـد يـوم واحـد من تنحيتـك: تظهر في الصورة الموالية في الفـيلم بالأبيض والأسود وقـد أتى الصلع على ما تبقى من شعراتِ رأسِك الذي يشبِّهُـه مـستخدَموك فـيما بينهم بـ “راس الكابويـة” … لقد توقفَ مسارُ حـياتك الملونة، ودخلتَ خانة الأبيض والأسود إلى الأبـد هذه المـرة، وعندئذٍ فقـط تتذكرُ حكمةً قديمة قرأتـَها قبل أن يضيقَ بك الوقـت، تقول: منْ كانَ في نعمةٍ ولم يشكرْ، خـَرجَ منها ولم يشعـرْ ..
- ويا معز يا مـذل: تنطفئُ جذوة التقدير والإكبار والإعجاب .. لم تعُـدِ الآن موضعَ تقديرٍ حتى ممن أغرقتهم بنعمائك.. ولم تعدْ محـل إكبار حتى ممن ارتقيتَ بهم إلى جانبـِك .. بل لم تـعُـدْ مثارَ إعجابٍ حتى من زوجتِك التي لم تكن تـُعـيرُ اهتماماً لصولاتِك وجولاتِك بين ”العجائـز” لثقتِها أنك ستعـودُ إليها في نهاية المطافِ صاغراً ذليلاً كأن شيئا لم يكـنْ ”وبراءة الأطفال في عينيـهِ…”!
- ينتابك لأول مرة إحساسٌ مؤكدٌ بأنك مثل القطار الذي يرحـل وتبقى المحطة شامخة في مكانها، ويعتريك شعـورٌ أكيدٌ بأنك عندما تستيقظ صباح الغـد ستجدُ أن الشمسَ سبـِقتك إلى الأفـق دون أن تنتظر صياحك … عندئذٍ، وبسببِ الفراغ القاتل ــ الذي نبهك إلى أن الوقـتَ أوسـعَ من أن يضيق بـمخـلوق مُـعـقـدٍ مـثـلك ــ تـُجَـربُ الكتابـة، فـتكـتشِـفُ أن الـفـاعـلَ مـرفـوع “دوريجين” منذ أن علم الله آدم الأسماء كلها، وأن المفعـولَ به لا ينتظـر جـرة قلمك حتى يكون منصوبـا!
- يمضي النهار فإذا هاتفـُك قد استلذ الصمت، حتى أن يَدَكَ تمتد بشكـل تلقائي متكرر لتتأكدَ ما إذا كان هذا الهاتف اللعين يشتغـل، وأحـياناً تـمُـد يـدك لتلفـونـك الثانـي ــ قبل أن تسحَـبه الإدارة الجديدة منك ــ لتطلبَ رقم هاتفك، فتجدُه يرن بشكل عادي، وتتأكـدُ أنك تظـلِمُه، وأن المشكل فيهـِمْ هـُمْ، وليس في جهاز الهاتف المسكين!
- في الليلة الأولى من استدارةِ الدنيا عنك، تحاولُ أن تنام، فإذا الجفون ثقيلة، وإذا النوم بدوره يُقاطـِعـُك … لقد تأكدتَ الآن أن الزمن فعـلَ فعلته ودار دورتـَه دون أن يستشيرَك، وأن من كنتَ تحسَبهم أصدقاءك ولـوا عنك مدبرين دون استئذانٍ كما دخلوا من قبلُ دون استئذان!
- أنت تعرفُ أنك لم تقرأ كتاباً واحداً مُـنذ أنْ وضعَـتـْـكَ الأقدارُ بالخطأ في الزمان الخطأ وفي المكان اللي خاطـيك… تتذكرُ هذا فتمتد يدُكَ إلى أقرب كتابٍ إليكَ من الكتب التي أهـدِيَتْ لـكَ “شيتة ً” وتملقاً يومَ كنتَ في الموقع المُشار إليه أعلاه … تـفتحُ صفحـته الأولى فإذا به هـو أيضاً يتآمـرُ عليك ويُذكـِّــرك بمن كنتَ تـُحيطـُهم بك، فيواجهـُك ببيتٍ واحدٍ لشاعـر مجهولٍ يقـول:
- جربـتـُهـُمْ فوجـدتـهـُـمْ … حـِبـْراً على غـيْــِر وَرَقْ!
-
- تتحسرُ الآن ولاتَ حينَ تحسُّــر .. تندم اليوم ولا ينفعـُك الندم .. تضيقُ بك الدنيا بما رحـُبتْ فـتفـكـرُ بالانتحار وأنا لا أنصحـُك… إبـقَ كمـا أنت، يجبُ أن تظـل كالمعلقة، لا أنت حي ولا أنت ميت..لأنك سـتندمُ فعـلا ًإن أقـدمتَ على الانتحـار.. لن يسير أحـدٌ من الأحياء في جنازتـك، وسيهربُ منك الموتى كما كان الأحياء يـفـرون منـك، وستتسببُ في أزمـة بالمقبـرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشريـة… باختصار شديد: سينزعجُ الموتى منكَ إن التحـَقـْتَ بهم ، تماماً مثلما كان الأحياءُ منزعجـينَ منك!
- فاصل قصير:
- بقي أن أخبركم أنني كنتُ أعْـددتُ لكم مقالاً عـن “ضيف عزيز في طريقه إلينا يستقبله المدخنون بالإقلاع عن التدخين، والمقصرون في حـق المولى عز وجل بالشروع في الصلاة أسبوعاً قبل مجيئه، وتستقبله البيوت الجزائرية كعادتها الكريمة المتفردة بتيجان الزهـر وأكاليل الرياحين”، لكن ورقـة وقعـتْ بين يدي مساءَ أمس بالصدفـة بدلتْ موضوع المقال وغيرتْ كل شيء!
- لقـد نقلتُ لكمْ بكل أمانـةٍ ما قرأته في تلك الورقـة .. ويبدو ـ من تموجات الخط الأنيق الجميل وانكساراته ـ أنها كُتبت بأنامل امـرأة .. أنـا لا أجزمُ أنها جميلة، فجمالُ الخط قـلما يلتقي مع ملاحة الوجـه، لكنني أؤكـدُ لكم أنها شوافـة مثقـفة ومحترفة ..
- ومع أنني لا أعرف المرسـل إليـه فأنـا أطـمْـئِـنـُـه عن مستقبلـه، لأننـي ــ بخلافـِه تمامـاً ــ أؤمـن بالحديث النبـوي الشريف القائل: كـذب المنجمون ولو صدقـوا!
- Souleymen @ maktoob.com