-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كفانا هلعًا وجزعًا

سلطان بركاني
  • 3023
  • 0
كفانا هلعًا وجزعًا

في الأيام الأخيرة من العام المنصرم 2016م، وفي السّاعات الأخيرة من آخر يوم من أيامه، توافد كثير من الجزائريين على محطّات التزوّد بالوقود لملء خزانات مركباتهم قبيل بدء العمل بالأسعار الجديدة مع أوّل ساعات العام الجديد، ما نجمت عنه طوابير طويلة أمام المحطّات، أدّت إلى نفاد الوقود من المحطّات العموميّة وإلى تعمّد مسؤولي بعض المحطّات الخاصّة تعليق المضخّات لإيهام زبائنهم بنفاد البنزين!.. كما توافد كثير من أرباب الأسر على محلات الموادّ الغذائية لاقتناء السّلع والموادّ تحسبا لارتفاع أسعارها مع بداية العام الجديد، وهو الإقبال الذي استغله بعض صغار التجار لزيادة الأسعار قبل الأوان! وهي لا شكّ الفرصة التي كان ينتظرها المضاربون وكبار التجّار لممارسة هوايتهم المفضّلة في مضاعفة الأسعار.

الخوف من المستقبل والتوجّس ممّا هو آت، طبع جُبل عليه الإنسان، يقول الحقّ سبحانه: “إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا”.. لكنْ أن يصل الأمر إلى حدٍّ يعطّل معه العقل، ويُصغي فيه الإنسان لهواجس نفسه، ويستسلم لدوافع التشاؤم والتطيّر والجزع في داخله، ثمّ ينطلق مستبقا الأحداث ليدفع ما يخشى حدوثه، فهذا ربّما يكون داءً يحتاج الإنسان ليتخلّص منه، حتى لا يجني على نفسه ومجتمعه كما جنت براقش على قومها.

الغريب في الأمر أنّ هؤلاء الذين تملّكهم الهلع والجزع في آخر ساعات العام المنصرم، أغلبهم من فئة الميسورين الذين يعلمون أنّ الأزمة لن تؤثّر فيهم كثيرا، لكنّهم انقادوا لطبائع أنفسهم واختاروا أن يتدافعوا مع المتدافعين، ويقضوا السّاعات الطّويلة لتكديس ما يمكنهم تكديسه من السّلع والموادّ التي يخشون ارتفاع أسعارها، مع أنّ الواحد منهم يعلم أنّه لن يوفّر بحرصه هذا مبالغ معتبرة؛ فخزّان السيارة الذي ملئ ساعات قبل نهاية العام لن يوفّر لسائقها أكثر من 200 دينار، وهو في النهاية سينفد بعد أيام معدودة، ليضطرّ إلى ملئه مرة أخرى وفق الأسعار الجديدة.. كما أنّ إقباله على اقتناء ما يزيد عن حاجته من السّلع سيؤدّي بالتجار إلى رفع أسعارها، وهو ما يدفع المواطنُ الكادح فاتورته الباهظة، ويعطي المبرّر لكبار التجار لمضاعفة الأسعار أكثر من مرّة في فترة وجيزة، بحجّة زيادة الطّلب.

إنّنا بتمادينا في هذه الطّبائع نزيد الطّين بلّة، ونخلق الفرص ونعطي المبرّرات لمصاصي الدّماء من كبار المستوردين والمضاربين وكبار التجار وأصحاب الأموال الفاسدة الذين يستثمرون في الأزمات ويتحيّنون الفرص لرفع الأسعار وتحقيق وافر الأرباح.. نعطي هؤلاء وأولئك الفرصة لمصّ دمائنا ونهب أموالنا باسم أزمة هم من صنعها وتسبّب فيها بوساوسهم التي ألقوها في آذان شركائهم من المسؤولين وأصحاب المناصب الذين حوّلوا البلد إلى سوق مفتوحة للسّلع التي يصنّعها وينتجها الآخرون؛ نعم، هؤلاء هم من صنعوا الأزمة، لكنّنا نحن من ننقاد لها وفق ما يخطّطون وإلى حيث يريدون!.

لقد كان حريا بنا أن نلزم بالسّكينة والروِية، ونتحلّى بأخلاق ديننا وقيمه، لنعطي مصّاصي الدّماء درسا لن ينسوه.. إنّ الرّزق بيد الله سبحانه، وما من عبد من عباده إلا وله نصيب مفروض متى ما قدّم من الأسباب ما كان في وسعه.. ليس في وسع مخلوق أن يَحول دون وصول الرّزق إلى عبد من عباد الله، لكنّ العبد ربّما يستعجل فيضيّق على نفسه وإخوانه من حيث لا يشعر.. أتى النّاسُ سلمةَ بن دينار (ت 133هـ رحمه الله) فقالوا: يا أبا حازم، أما ترى قد غلا السعر! فقال: “وما يغمّكم من ذلك؟ إنّ الذي يرزقنا في الرّخص هو الذي يرزقنا في الغلاء”.. ربّما يرى بعض المتعجّلين أنّ هذا الكلام يدعو إلى التواكل، لكنّه في حقيقة الأمر يؤسّس لمبدأ مهمّ في التّعامل مع الأزمات، يقول ابن تيمية رحمه الله: “الغلاء بارتفاع اﻷسعار، والرّخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببا في بعض الحوادث، كما جعل قتل القاتل سببا في موت المقتول، وجعل ارتفاع اﻷسعار قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس” (مجموع الفتاوى، 8/ 519).

حلول الأزمات وارتفاع الأسعار، هو نتيجة حتمية لاستشراء الظّلم والأثرة، والإصرارِ على السياسات الترقيعية التي تزيد الطّين بلّة، ومن واجبنا جميعا أن نستنكر الظّلم والأثرة ونندّد بالسياسات العرجاء التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، لكنّنا مطالبون قبل هذا وذاك بتخلية أنفسنا من أدواء الأنانية والهلع والجزع والجشع، وتحليتها بحسن التوكّل على الله وحسن الظنّ به جلّ في علاه.

إنّه لأمر مؤسف حقا أن يكون الجشع والهلع صفتين لَصيقتين بكثير من المسلمين في هذا الزّمان، في الوقت الذي تقدّم شعوب العالم في اليابان، وفي بعض دول أوروبا أرقى الصور وأنصعها في التحلي بالتراحم والتآزر والإيثار في أوقات الأزمات، بل ربّما تتآزر تلك الشّعوب وتتكاتف لإجبار المسؤولين وأرباب الأموال على تعديل سياساتهم وإعادة النّظر في خياراتهم.. فمتى سنتعلّم الدّروس من غيرنا، ومتى نعود قبل هذا إلى قيم ديننا؟.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!