-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا تبقى من الإشعاعات الحضارية في الأمة؟

صالح عوض
  • 759
  • 1
ماذا تبقى من الإشعاعات الحضارية في الأمة؟
ح.م

تعتمد عملية النهضة في كل حضارة على بؤر إشعاع حضاري لبعضها علاقة بمراكز ثقافة أو مراكز اقتصاد أو مراكز جذب جيوستراتيجي.. وعندما تخبو هذه البؤر وتنضب فإنها تصبح عملية ضرب في الأوهام والأماني الخادعات.. وقد تتواجد هذه البؤر ولا يصلح التعامل معها أو مع بعضها فتصبح فاقدة الجدوى بل قد توجه توجيها عكسيا فتصبح عالة على النهضة وفتنة للأمة.

تمتعت أمتنا طيلة دورتها الحضارية بمراكز إشعاع زوّدتها بإمكانات الاستمرار والعطاء منذ أن تكثفت جملتها الثقافية الإنسانية الأرقى في خطاب النبي والجيل القرآني الفريد فكان الإشعاع الحضاري الثقافي مميزا استطاع أن ينفخ في الأمة روحا جديدة تزيح عنها الغفلة والهوان والأوهام.. واستمر دفق هذا الإشعاع في بلاد الحجاز ليغطي بلاد الشام والرافدين مفيضا بنوره على الرقعة الجغرافية الممتدة على طول ساحل المتوسط الجنوبي.. وبعدها انطلقت إشعاعات حضارية متنوعة في دمشق وبغداد والأندلس زوّدت الدورة الحضارية بشروط الاستمرار حتى أصبحت الدولة الإسلامية مترامية الأطراف تضرب في عمق الزمن والجغرافيا كما لم تفعل من قبلها أيّ حضارة.

وفي طريق دورتنا الحضارية إلى نهايتها وقبل سقوط الخلافة العثمانية وسقوط القدس كتتويج لهزيمة الأمة وانهيارها كانت الأمة تبحث عن إشعاعات حضارية هنا وهناك فكان الأزهر وعلماؤه والزيتونة وعلماؤها والحوزات العلمية ومنصات الثقافة هنا وهناك في تركيا وإيران وباكستان.. وقاد العملية علماء نابهون رواد تجديديون على رأسهم السيد جمال الدين الأفغاني وأصدقاؤه وتلامذته في البلاد الإسلامية لكن المهمة كانت أكثر شمولا وتنوعا وتحتاج إلى مناخات مساعِدة.. فكانت جهودهم مجرد صيحات في واد لم توقف انهيارا ولم تنهض بأمة رغم ما أسهمت به في تنبيه المسلمين إلى خطورة الاستعمار وفي أحيان ما وفي بلدان معينة قادت الشعوب للتحرر من ربقة الاستعمار كما كان دور ابن باديس وعبد الكريم الخطابي وعز الدين القسام إلا أن التحدي كان أكبر من مجرد طرد جنود الاستعمار وهنا توقف العطاء الفكري والسياسي لعملية النهضة العربية الإسلامية وتشعبت الإجابات التي أمعنت في أحداث شروخ ثقافية اجتماعية أرهقت المجتمعات في تجارب فاشلة تحولت مع الزمن إلى حزبيات مستبدة بروحها ومقولات معطلة للتقدم والتفتح.

وبعد السقوط الأخير لأمتنا وجد المصلحون أنفسهم أمام واقع متشابك وقد تبدلت مهمة الأشياء فلم تعد الثروات كما ينبغي أن تكون وظيفتها بل أصبحت فتنة على المجتمع والأمة ودربا للتخريب والإفساد لِما تبقى من قيم وشبكة علاقات اجتماعية.. واستبدُلت الأفكار من بحث عن النهضة والتنوير والتجديد إلى إغراق في سلفية الأقوال والسلوك المقيد بزمان ومكان فأصبحت الدعوة إلى الأصولية دعوة إلى تفجير المجتمع ماديا ومعنويا.. واستبدُلت مهمات وأدوار الرجال فبعد أن كان البطل هو من يدافع عن قومه وثقافته وهويته أصبح المتقدمون في المشهد هم أولئك التغريبيون المتزلفون للعدو والراهنون مستقبل شعوبهم لمصالح أعدائهم.

هل من إشعاعات حضارية في امتنا؟ أم أن هذه الأمة قد كتب عليها التلاشي كما تلاشت أمم أخرى وإمبراطوريات أخرى؟ هل عجلة التطور البشري تقضي بأن تنصرف هذه الأمة إلى متاحف التاريخ وسجلات المكتبات مستسلمة لأمزجة الرواة والمؤرخين وأهوائهم.؟ هل النهضة من العثار تشترط السماح لها من قِبل الخارج المتحكم؟ أي المسارات تنهجها نهضة الأمة بعد أن كادت التكنولوجيا الغربية تفرض على الأمة تخلفا سحيقا؟

أسئلة عديدة تتولد من التحدي الكبير وبالتأكيد لن يكون سهلا تناول أحد جوانبه دون التطرق إلى الجوانب الأخرى وتصوّر الأولويات في عملية النهوض لكيلا تحدث الفوضى والارتباك الأمر الذي يقودنا إلى التناحر الداخلي والتشظي على رغبات وأمزجة.. هنا تقف مسألة الحريات والتكافل والعلم والثقافة والصناعة والمدرسة وإعادة النظر في وظيفة المسجد وتطوير اللغة وتقويتها والالتفات إلى الثروات الذاتية وكيفية استغلالها بأولويات وإعادة النظر في فكرة الحزب وإعادة تصوّر للعملية السياسية بما يتناسب مع هويتنا وشخصيتنا وحاجتنا..

نحن نتساءل بألم والأمة ليست في متسع من أمرها ولكننا نؤكد أن عمر الأمة لم ينقض وإنها ستظل شاهدة على الناس وإنها محمّلة بأمانة إلهية لخير البشرية يصدق هذا ما تكتنزه من عناصر النهضة وما عليه الغرب الاستعماري من انهيار منظومة الأخلاق والقيم على الصعيد الإنساني.. فكيف السبيل إلى تفعيل ما لدينا؟

لدينا كفاح وطني صاغ مشاعر العزة القومية فينا ونبهنا إلى مخاطر جمة يصنعها الاستعمار الغربي الحديث وأصبحت حركات التحرر الوطني في بلداننا هي أهم إشعاعات حضارية ولكنها مهدّدة بالانحراف والإفراغ من مضامينها.. ولقد حاول الغرب الاستعماري خلق طابور خامس وثورات مضادة لتدمير رموزنا القومية والدينية باختلاق رموز هزؤ ومقولات منحطة وتغيير معالم روايتنا الحضارية والنضالية.

ولحسن حظ الأمة أن ابتلاها الله بقضية فلسطين وما لها من قداسة عليها قد حصل إجماع الأمة وهي على هذا الاعتبار تكون المحرك النفسي القادر على إماطة اللثام عن طبيعة العلاقة بيننا والغرب الاستعماري وما يتبع ذلك من ضرورة الاستفادة من أشيائنا وضرورة بناء قوة حقيقية لنا نسترد بها كرامتنا.. وهنا نسير في الخط المعاكس لتيار الاستعمار الغربي المعاصر ونكون قد أبرزنا إشعاعاتنا الحضارية التي يمتلك كل شعب من شعوبنا بعضا منها إما مقاومة للمستعمر أو ثقافة متميزة أو إمكانات جيواستراتيجية مدهشة.

من جديد تبدو الأهمية قصوى بضرورة التأكيد على أن الأمة لازالت تمتلك إشعاعات حضارية كافية وهي تنبعث من إشراق فلسطين في الوعي والضمير الجمعيين ومن هنا تتولد أهمية استراتيجية جديدة للقضية الفلسطينية تلك التي تسهم في الوعي وما يقود إليه من فعل على طريق النهضة والوحدة.

العملية شاقة ومتعددة السبل وتحتاج وعيا وعزيمة وصبرا ولكنها حتمية ولا مناص منها ولا بديل للبشرية ولنا عنها.. فلقد اظلم الغرب بمظالمه وعنصريته وحيوانيته مهما حاول تزيين نفسه بأشكال من القوانين وأصبحنا وجها لوجه مع مهمتنا التاريخية لنكون شهداء على الناس.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • أيوب

    "هنا تقف مسألة الحريات والتكافل والعلم والثقافة والصناعة والمدرسة وإعادة النظر في وظيفة المسجد وتطوير اللغة وتقويتها والالتفات إلى الثروات الذاتية وكيفية استغلالها بأولويات وإعادة النظر في فكرة الحزب وإعادة تصوّر للعملية السياسية بما يتناسب مع هويتنا وشخصيتنا وحاجتنا.."