-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مذكرات لخضر بن طوبال: قراءة أولية

بن يغزر أحمد
  • 2619
  • 0
مذكرات لخضر بن طوبال: قراءة أولية

تمثل هذه المساهمة قراءة أولية لمذكرات لخضر بن طوبال الصادرة منذ أسابيع قليلة، والتي صاغ عباراتِها وفقراتها الأستاذُ الباحث في التاريخ والأكاديمي دحو جربال.

المذكرات هي حصيلة حوارات مطولة أجراها الكاتب مع المجاهد بن طوبال بين سنتي 1980 و1986 بحضور عالم الأنثروبولوجيا، والكاتب الشخصي لصاحب المذكرات خلال الثورة محفوظ بنون.

تتكون المذكرات من أزيد عن 400 صفحة متضمنة بعض الملاحق والفهارس، وهي تغطي الفترة الزمنية الممتدة من سنة 1923 تاريخ ميلاد بن طوبال إلى عام 1957 سنة انتقاله إلى تونس، ولست أدري ما إذا كان للمذكرات جزءٌ ثاني يتمم باقي الفترة المتبقية؟

لم يُكتب لهذه المذكرات النشر في الفترة السابقة رغم أن تجميعها يعود إلى فترة تزيد عن 30 سنة لأسباب يشرح المحرر بعضها في المقدمة، وبعض الأسباب الأخرى ذكرها في حوارات صحفية تلت النشر.

بداية لابد من تعريف موجز بالمجاهد بن طوبال.

هو سليمان بن طوبال المعروف أثناء الثورة باسم لخضر، وُلد سنة 1923 في ميلة، ناضل في صفوف حزب الشعب أثناء الحرب العالمية الثانية، انضمّ إلى المنظمة الخاصة وأشرف على تنظيم الخلايا العسكرية بالشمال القسنطيني، كما كان عضوا في مجموعة الـ22 المفجّرة للثورة الجزائرية، أشرف على العمليات الأولى للثورة بنواحي جيجل وميلة، شارك ضمن وفد المنطقة الثانية في مؤتمر الصومام، عُيِّن عضوا إضافيا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، خلَف زيغود يوسف بعد استشهاده على رأس الولاية الثانية، التحق بتونس عام 1957، وعُيِّن عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ.

عند تأسيس الحكومة المؤقتة عُيِّن وزيراً للداخلية وحافظ على منصبه فيها حتى الاستقلال، شارك أيضاً في المفاوضات مع السلطات الفرنسية في لي روس وفي إيفيان، وهو من الذين شاركوا في تأسيس المخابرات الجزائرية رفقة مؤسِّسها الأول عبد الحفيظ بوصوف، توفي في 21 أوت 2010.

وبالنظر إلى هذا التعريف الموجز، فإن مذكرات بن طوبال تبدو ذات أهمية بالغة، فالرجل تشرَّب الوطنية بالمفهوم السياسي لها في وقت مبكر من حياته من خلال انخراطه في حزب الشعب، كما كان له حضورٌ واضح في المنظمة الخاصة، وبعد اكتشافها انتقل إلى الأوراس حيث تعرّف هناك إلى البنية الاجتماعية والثقافية للمنطقة وكان له احتكاكٌ بما كان يُعرف آنذاك بـ”لصوص الشرف”.

تحمّس للثورة عند انطلاقها وشارك في التحضير لها باعتباره عضوا في مجموعة الـ22، وله وجهة نظر عميقة حول الثورة ومفهومها أوردها في المذكرات، كما قاد الولاية التاريخية الثانية بعد استشهاد قائدها الأول زيغود يوسف، حضر مؤتمر الصومام ضمن دائرته الضيقة، وشارك في الحكومة المؤقتة وزيرا للداخلية سواء في فترة فرحات عباس، أو فترة بن يوسف بن خدة.

عبَّر في هذه المذكرات عن مواقف جريئة من قضايا كثيرة، كقضية استشهاد بن بولعيد، وقرار ضمّ كل التوجهات السياسية للثورة بعد مؤتمر الصومام، خصوصا التوجهين الإصلاحي والإدماجي، وقرارات هذا المؤتمر، وإضراب 8 أيام… كما كانت له تعليقاتٌ على شخصيات مهمة في مسار الحركة الوطنية والثورة من أمثال عميروش وابن مهيدي وكريم بلقاسم ومزهودي وفرحات عباس…

توزعت المذكرات على المحاور التالية:

– الحديث عن طفولة بن طوبال وعن عائلته ووسطه الاجتماعي والبيئة التي شكّلت شخصيته.

– اتصاله بنشاط الحركة الوطنية من خلال حزب الشعب وكذا ملاحظته لنشاط جمعية العلماء في ميلة من خلال ما كان يقوم به الشيخ مبارك الميلي في مدينة ميلة، ويحاول هنا أن يفسر الشعبية التي كانت للجمعية وفق نظرته المخاصِمة عموما للجمعية.

– بداية النّضال الفعلي في حركة الانتصار لكن بنظرة تستبطن رفضا للتوجُّه الانتخابي (1946 و1947) وتماهيا مع ضرورة التوجُّه للعمل الثوري وبعيدا عن الانخراط في المسار السياسي والانتخابي.

– الانتماء إلى المنظمة الخاصة والمساهمة في تأسيسها، ولجوؤه لاحقا إلى الأوراس تجنبا للاعتقال بعد اكتشاف المنظمة من طرف الأمن الفرنسي سنة 1950، وتوصيف البيئة الاجتماعية في هذه المنطقة ذات الخصوصية، وتقديم لمحة عن ما عُرف بـ”لصوص الشرف” وعلاقتهم بالحركة الوطنية.

– تشريح الأزمة التي ضربت حزب الشعب من خلال تداعياتها المحلية وتأثير ذلك على مسار الأحداث.

– حضور اجتماع الـ22 وتقديم بعض التفاصيل المهمة عن النقاشات والحوارات التي دارت في هذا الاجتماع.

– اندلاع الثورة والعمليات العسكرية الأولى لها في المنطقة الثانية، ويتوقف بن طوبال عن صدى هذه العمليات سواء على المستوى الشعبي المحلي أو المجاهدين وحالتهم النفسية التي تزامنت مع الأيام والأسابيع الأولى التي تلت الحدث.

– تفصيل التفاعل الشعبي وكيفية تنظيمه وتعبئته خصوصا عقب هجمات 20 أوت 55 التي يعدّها صاحب المذكرات حدثا محوريا في الثورة وهي النفس الثاني لها، ويتوقف هنا عند شخصية زيغود يوسف باعتباره صاحب الفكرة ويُبرز المزايا القيادية له.

– تقدِّم المذكرات توصيفا دقيقا لمسار مؤتمر الصومام وأهم المحطات التي قادت إليه، وكذلك المداولات التي سبقته أو كانت خلاله، وبعض هذه التوصيفات مهمة وجديدة قد تسمح بإعادة قراءة هذا الحدث وقراراته وأهميته.

– يتوقف بن طوبال عند الكثير من الشخصيات السياسية والثورية ويقدّم من خلال هذه المذكرات تقييما لها -من خلال وجهة نظره طبعا- بكل عفوية وصراحة غير مسبوقة أحيانا.

– تخللت المذكراتِ بعضُ التأملات والقراءات لمفاهيم تخصّ مثلا النضال السياسي، الثورة، الاستقلال، وإيديولوجية الثورة…

ينتمي هذا المطبوع إلى جنس المذكرات التي تعدُّ مادة ومصدرا مهما في الكتابة التاريخية، خصوصا إذا تعلق الأمر بمذكرات شخصيات مؤثرة وذات علاقة قريبة بالأحداث التي تتناولها، وقد ذكرنا سابقا علاقة صاحب هذه المذكرات بوقائع كثيرة لا تزال تشكّل محطات فارقة في مسار الحركة الوطنية والثورة الجزائرية، هي ليست تاريخا لكنها تمثل للباحث في الحقل التاريخي مادة خاما يمكن أن يجد في طياتها معطياتٍ ومعلومات وانطباعات تُفيده في إعادة بناء الحوادث التاريخية، أو استكمال الأجزاء الناقصة أو الغامضة منها.

تتميّز المذكرات عموما بالذاتية، كما أنها تمثل المساحة التي تغطيها الزاوية التي ينظر منها كاتبُها أو راويها للأحداث، وتتأثر بعوامل عديدة تُنسب من صدقيتها، كالقدرة على التذكر، ومنسوب الأمانة في ذكر ما ينبغي ذكره، ودرجة التفريق بين المعلومة والانطباع الشخصي…

ولا يمكن استثناء مذكّرات بن طوبال من هذه الملاحظات، فضلا عن احتمال تأثر محتواها بتدخلات من صاغ نصها (المحرر) ولو بشكل غير مقصود، خصوصا وأنها نُشرت بعد وفاة صاحبها.

طبعا هذا لا يُنقص إطلاقا من قيمة هذه المذكرات إذا ما وضعناها في الإطار المنهجي الذي أشرنا إليه أعلاه.

تنقل المذكرات صورا لفظية نصية عن تفاعل صاحبها مع الأحداث والأشخاص والسياقات المحيطة به، ليس وفق معطيات زمن وقوعها فقط، ولكن أيضا وفق تأثيرات للزمن التالي لها، فهناك فرقٌ في توصيف حدث وهو يقع، وبين محاولة تقديمه نصا بعد زمن من وقوعه، لأن الحدث سينحل في تداعياته ونتائجه وما يطرأ على صورته مع مرور الزمن.

يؤكد بن طوبال أن هجمات الشمال القسنطيني أوت 55 كانت النفس الثاني للثورة، وأن زيغود هو مهندسها، وكان يريد من خلالها الإقحام المباشر للشعب في الثورة نحو اللاعودة، وقطع كل محاولات الالتفاف عليها. (ص231). وكان لمؤتمر الصومام أوت 1956 نصيبٌ معتبر في هذه المذكرات، يتوقف بن طوبال عند حيثياته، ورهاناته، وما سبقه، وعن الحضور والغيابات، وعن استشهاد بن بولعيد قبل انعقاده.

الجديد الذي يمكن توصيفه في هذه المذكرات هو تناول الأحداث باعتباره تجربة شخصية، والتعبير بشكل عفوي عن أحداثه بدون محاذير مسبقة، وبدون ضوابط منهجية أو معرفية يتقيد بها عادة الباحثُ الأكاديمي، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يكون محور المذكرات ومركزها هو صاحبها، وأن تكون معاييره في تقييم الأحداث والأشخاص والمسارات هي المعتمَدة.

يظهر بوضوح في المذكرات أن لخضر بن طوبال يلتزم بهذه القاعدة في سرده، فهو يصف ما عايشه في طفولته وشبابه وكيف تواصل مع الفكر الوطني في بيئته الأولى في ظل ما كانت تشهده مدينة ميلة من تنافس بين تيار مصالي وبين تيار جمعية العلماء ممثلة في نشاط الشيخ مبارك الميلي، ويبدي نوعا من الانزعاج من توجيه الدعم الشعبي وخاصة المالي لهذه الأخيرة (ص58)، وكيف كان عموم الناس يسمّون نشطاء تيار حزب الشعب بـ”جماعة التام” أي المطالِبة بالاستقلال الكامل.

وبكل وضوح يعبر بن طوبال عن انزعاجه من أن الشعب، على الرغم من حديثه عن الاستقلال والحرية، لكن استعداده للنضال وللتضحية من أجل ذلك لم يكن مؤكدا حسب تقديره (ص55) وهو ما جعله يعتبر أن الثورة كما كانت ضد الاحتلال، كانت أيضا ثورة (الشعب على نفسه) أي على بعض (الأوهام) التي كانت تحكمه والتي ترسخت في ثقافته مع مرور الوقت.

يتحدّث بن طوبال عن اجتماع الـ22، ويعطي تفاصيل عن المداولات والنقاشات التي ميزت جلسته الليلية، وعن طبيعة الحضور، وعن فكرة البحث عن زعيم للثورة، وعن ضرورة أن لا تكون الثورة مجرد عمل عسكري محدود، وأن لا تتوقف إلا بانتصارها (ص156).

يتوقف صاحب المذكرات عند حدث أول نوفمبر، خاصة العمليات الأولى وصداها، مفصِّلا ذلك على مستوى المنطقة الثانية “الشمال القسنطيني” بقيادة زيغود يوسف، الذي يشيد به كثيرا مع ديدوش مراد ويعتبرهما من القادة المميزين للثورة رغم استشهادهما المبكر (ص208).

يؤكد بن طوبال أن هجمات الشمال القسنطيني أوت 55 كانت النفس الثاني للثورة، وأن زيغود هو مهندسها، وكان يريد من خلالها الإقحام المباشر للشعب في الثورة نحو اللاعودة، وقطع كل محاولات الالتفاف عليها. (ص231).

كان لمؤتمر الصومام أوت 1956 نصيبٌ معتبر في هذه المذكرات، يتوقف بن طوبال عند حيثياته، ورهاناته، وما سبقه، وعن الحضور والغيابات، وعن استشهاد بن بولعيد قبل انعقاده،

وعن مداولاته، وعن بعض كواليسه، وعن قراراته، (بداية من ص 275)، وبعض التفاصيل التي ذكرها بن طوبال في حاجة أن يقرأ الباحثون في تاريخ الثورة من جديد هذا الحدث على ضوئها.

بكل وضوح يعبر بن طوبال عن انزعاجه من أن الشعب، على الرغم من حديثه عن الاستقلال والحرية، لكن استعداده للنضال وللتضحية من أجل ذلك لم يكن مؤكدا حسب تقديره (ص55) وهو ما جعله يعتبر أن الثورة كما كانت ضد الاحتلال، كانت أيضا ثورة (الشعب على نفسه) أي على بعض (الأوهام) التي كانت تحكمه والتي ترسخت في ثقافته مع مرور الوقت.

من القضايا التي تناولتها المذكرات أيضا حادثة تحويل الطائرة التي كانت تنقل بعض قادة الثورة من المغرب نحو تونس (ص349)، إضراب الثمانية أيام والذي يعتبره بن طوبال خطأ فادحا وأثر سلبا على الثورة (ص365)…

لا يمكن الادِّعاءُ أن هذه المساهمة قد أحاطت بما جاء في هذه المذكرات المهمة، لكن اعتقادي أن أهمية موقع ودور صاحبها، والأسلوب السلس الذي صيغت به من قبل الأستاذ جربال، تجعلها وثيقة ذات أهمية بالنسبة للباحثين المشتغلين على تاريخ الثورة، على أمل أن يكون لها جزءٌ ثاني لاستكمال شهادة الرجل حول المحطات الهامة الباقية التي عايشها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!