-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مسار النهضة والسقوط عند ابن خلدون

التهامي مجوري
  • 891
  • 2
مسار النهضة والسقوط عند ابن خلدون

العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، واحد من أعلام الأمة الإسلامية، وفضلائها الذين لا تزال الأمة والإنسانية قاطبة تذكر من فيوضات مقدمته الشهيرة الكثير من قضايا الإنسان وتحولاته وتغيراته، باعتبارها الأساس الذي بني عليه علم الإجتماع.

ورغم أن علم الإجتماع قد تطور كثيرا وأضحت فيه مدارس كبيرة، فإن لمسات إين خلدون لم تختف وما تزال تبحث عمن يفهمها أكثر كما أراد هو، وليس كما فهم الناس منه فحسب، أو قل تبحث عن الوعاء الذي أخذ منه ابن خلدون وصاغ مفاهيمه المتداولة، قبل أكثر من ستة قرون شمسية؛ إذ أن علم النفس وعلم الإجتماع رغم تطورهما؛ بل والعلوم الإنسانية كلها، لا تزال تعاني في الكثير من جوانبها الإنسانية –علمية وعملية- من نقائص بسبب إهمال هذه العلوم الإنسانية لأمور كان يعدها ابن خلدون من المسلمات، مثل اعتباره أن الدين ظاهرة كونية؛ بل هو ظاهرة لا تقل أهمية عن غيرها من الظواهر الكونية الأخرى، ليس كما يرى أهل عصرنا أنه ظاهرة إجتماعية، يمكن تجاوزها بتغيير عادات الناس وطبائعهم، وشرح ذلك يطول لا مجال للخوض فيه الآن، وربما نعود إليه في مناسبة أخرى، أما الآن فموضوعنا هو مسار النهوض والسقوط عند العلامة ابن خلدون.

إن الكثير منا يذكر قول اين خلدون: “المغلوب مولع بتقليد الغالب أبدا”، ونذكر أيضا أن “الظلم مِؤِذن بخراب العمران”، وغير ذلك من المقولات التي أصبحت كالأمثال في تداولها، ولكننا نغفل عن أن تلك المقولات التي أضحت قوانين جارية في أوساط الناس، متعلقة بجزئيات متناثرة لا يمكن أن تحدث خارج سياق يحكم سلوكات الناس الفردية والجماعية.

وهذا السياق هو الطبيعة البشرية التي يعيش وفقها ووفق قوانينها الناس كأعراف وعادات جارية أو كما يسميها ابن خلدون “العمران البشري والاجتماع الإنساني”، إن لم يدخل تعديل ما على هذه الطبيعة، فإنها تسير وفق نظام راتب ومطرد لا يتغير ولا يتبدل إلا بقدر ما يدخل عليه من تعديلات سلبية وإيجابية.

وسياق هذه الطبيعة –كما لاحظ ابن خلدون- يقتضي أن الناس لا يتوارثون النهضات وما تقتضيه من أنشطة وفعاليات وحرص…، بقدر ما تتوارث الأجيال ثمارها، ثم يتساقط هذا الإرث وهذه الثمار جيلا بعد جيل إلى أن يقع السقوط النهائي، عند الطبقة الثالثة بعد طبقة بناة المجد.

لاحظ ذلك ابن خلدون في نشأة الدول وكيفية سقوطها، طعادة ثابتة وجارية، ولكن هذا الموضوع باعتباره متعلقا بالسلوك الإنساني وطبيعته التي خلق عليها، يمكن تعميمه على كل ما يبنيه الإنسان ويتعرض للسقوط على يديه… كبناء المجتمعات والحضارات والأمم والثقافات… كل هذه الأمور تولد على أيد البناة ويتوارثها مَنْ بعدهم ثم تسقط بعد فترة حددها ابن خلدون بأربع طبقات أو أربعة أجيال.

فالبداية تعود إلى واقع ما قبل المجد والبناء، الذي ينطلق منه البناء، وهو التخلف والمهانة والضعف، كما هو واقع ما قبل النهضة، وقد عبر ابن خلدون عن ذلك بقوله “أن كل شرف وحَسَب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث ثم إن نهايته في أربعة آباء:

الأب الأول: وهو الجيل الأول أو الطبقة من الناس الذين بنشئون الدولة أو المجتمع أو الحضارة أو النهضة ويبنون المجد “باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه”؛ لأنه المؤسس الذي يعرف لكل جزئية قيمتها، ومن ثم يكون حرصه على الشيء بقدر ما أنفق في سبيل إحداثه، والمنشئ بطبيعة الحال قد انفق الكثير.

وهذا الجيل أو هذه الطبقة هي التي أعطت أقصى ما يمكن من الجهد والعمل والحرص من أجل تحقيق النهوض، ثم يأتي الأب الثاني، أو الجيل الثاني الذي لم يشارك في هذا البناء والنشاط والنهوض، وإنما يسمع عنه ممن سبقه إذ يأتي بعد أبيه مباشرة “وقد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له”، وليس من سمع كمن رأى كما يقال، فلا يُقدِّر ما سمع حق قدره، فيكون كمن اجتهد وجد وعمل فصنع وأنشأ، ثم يأتي الأب الثالث أو الجيل الثالث الذي لا يبقى له من الحظ إلا “الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد”، وهنا يبدأ النزول والشروع في السقوط الذي سيكون على يد الأب الرابع أو الجيل الرابع أو الطبقة الرابعة، الذي سيفقد كل ما له علاقة بالسابقين له، بحيث لا يحسن حتى التقليد الذي كان عند من سبقه، فيضل عن “طريقتيهم جملة و-قد- أضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم”.

ذلك هو واقع الأمم المتخلفة التي لا تجد ما تفخر به إلا ما صنع الآباء والأجداد وأجداد الأجداد.
ولكن هل ما ذكره ابن خلدون هنا حتمي بحيث يقع في أجيال كل نهضة تقع في العالم؟ يجيب ابن خلدون عن هذا السؤال بقوله “واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا أنه في انحطاط وذهاب واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة: بانٍ ومباشرٍ لهُ ومقلدٍ وهادمٍ”، فالباني والمئشئ للحضارة أو الدولة أو المشروع، والمباشر هو الممارس والمتعامل المباشر للثمار وللمنتوج المحصل عليه، والمقلد لم يشهد البناء وربما لم يحدث عنه وإنما هو مقلد للمارسة وحسب، أما الهادم فلا يشعر بمسؤولية تجاه ما بين يديه، بحيث يعجز عن مجدر التقليد كما أسلفنا، ويعلل ابن خلدون ما توصل إليه بكونه استقراء لواقع المجتمعات، فلو افترضنا ان إنسانا أنشأ مصنعا تحاريا، لا شك ان إنشاءه لهذا المصنع أخذ منه الكثير من الجهد والتفكير والنشاط غير العادي، أما إينه فلا يشعر بذلك التعب والشقاء الذي عانى منه والده، ولكن ربما حدث عنه، فنفسيته تجاه الموضوع ليست بنفس المستوى الذي كان عند والده، ومن ثم فإن الفاعلية نفسها تتأثر بهذا الشعور الأضعف، ثم يأتي إبن الإبن الذي لا يعلم عن نشاط الجد شيئا، وإنما وجد والده ينشط فيه فقلده ولكن اهتمامه سوف لا يمت لاهتمام المنشئ بصلة حيث لم يسمع عن كيفية الإنشاء والأتعاب التي كانت في سبيل إيجاد هذا المصنع، أما الرابع فعلى يديه يسقط المصنعح لأنه يتعامل مع هذا المصنع وكانه خلق مع العائلة، فلا يشعر بإمكانية زواله أصلا…

وقد شرح مالك ابن نبي رحمه الله ذلك، في رسمه البياني لنشأة الحضارات وزوالها، وربما كان ذلك تطويرا لفكرة ابن خلدون نفسها، حيث قسم مراحل النشأة والزوال إلى ثلاث، مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة.

1. فمرحلة الروح هي مرحلة الإقلاع والدافعية القصوى للإنشاء والبناء والصعود

2. أما مرحلة العقل فهي مرحلة تشبه الاستقرار والرتابة والاستمرار وربما التردد، لكن ما يفقد هنا

هو الصعود حيث تضمر الدافعية ويضعف التعلق بالمثل العليا تحت تأثيرات كثيرة، تحدث مع الزمن وتغير طباع الأجيال.

3. وأخيرا مرحة الغريزة وهي مرحلة التوقف والانحدار والتلاشي والغثائية.

يبقى سؤال ما هو الفرق بين تحليل ابن خلدون وبن نبي؟ خاصة وأن أحدهما قسم المراحل إلى أربع والآخر ثكرها ثلاثا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • elarabi ahmed

    شيء آخر وهو المهم --يقول ابن خلدون --( الشعوب المقموعة تسوء أخلاقها --)

  • خالد بن الوليد

    فلسفة وعلم ابن خلدون لا زالت تدرس في ارقي الجامعات ببريطانيا وكل اوروبا بامريكا الي يومنا هذا . ابن خلدون درس حياة الشعوب وحضاراتهم وسبب زوالهم ووضح وكشف ونقح واخرج للعالم كتبا تنير طريق البشرية والانسانية جمعاء نحو مستقبل افضل ومصير مشترك اروع .