-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

منظومة التراحم

التهامي مجوري
  • 456
  • 0
منظومة التراحم

ينتمي الإنسان بطبيعته التي خلقه الله عليها، إلى أربع دوائر يشعر بالإنتساب إليها والاحتماء بها وهي: دائرة الأسرة، ودائرة المجتمع ودائرة الأمة والدائرة الإنسانية.

أما دائرة الأسرة فهي دائرة ذات طابع اجتماعي تراحمي، يتلقى فيها الإنسان جميع القيم التراحمية التي لا يجدها في غير الأسرة، ثم دائرة المجتمع وهي دائرة ذات بُعد سياسي تعاقدي، يتلقى فيها الإنسان القيم العقلية مفهومة المعاني والغايات؛ لأن الأمور التعاقدية أمور قابلة للقياس تمر بالأساس عبر العقل، ودائرة الأمة وهي ذات طابع عقدي ديني، يتلقى فيها المرء الأمور الإيمانية التعبدية التي لا يحسم فيها إلا الوحي؛ لأن مبناها على الأمور الإيمانية التعبدية، وأخيرا الانتماء إلى الإنسانية، وهو الإنتماء الذي يلتقي فيه الإنسان مع أخيه الإنسان ولو اختلف معه في كل شيء، وهو قانون الحاجة؛ لأن الجامع بين البشرية كلها هو الحاجة الفطرية البشرية التي لا يستغني عنها أحد.

آية الآيات في ذلك أن هذه القيم التراحمية: السكن والمودة والرحمة والإفضاء الذي يلمس كل فضيلة، قيم متعدّية إلى القرابات كلها، وليست قاصرة على الزوجين فحسب، ونصوص الوحي التي تصور علاقات الرحم المختلفة –أبوة وبنوة وأخوة…- في ذلك كثيرة جدا في القرآن والسنة، وكذلك كانت الخبرة الإنسانية في العلاقات الأسرية في جميع الثقافات  والشعوب.

وكل دائرة من هذه الدوائر الانتمائية تُشبع جانبا من مكونات الإنسان الخِلْقيّة، التي هي: العاطفة والعقل والروح والغريزة.

والانتماء الأسري التراحمي ينمِّي الجانب العاطفي في الإنسان، والانتماء للمجتمع الذي يمثل دائرة التعاقد ينمي العقل، والإنتماء إلى الأمة انتماء للدائرة العقدية الدينية فينمّي الجانب الروحي التعبدي، أما الانتماء إلى الإنسانية فينمي الجانب الغريزي ويهذبه، والتناغم بين هذه المنظومات الأربع، هو الذي يُحدث التوازن المطلوب في الإنسان وينمي قدراته وطاقاته الكامنة، فيفجّرها طاقة في إطار وحدة غائية تحقق للإنسان توازنه المطلوب في الحياة.

وما يقع فيه الناس من اختلالات وفهوم متضاربة في قضايا الإنسان بأبعادها المتنوِّعة، من إصدار أحكام وتسجيل مواقف وانطباعات، في كثير من الأحيان سببها الخلط في هذه الأمور، كأن يكتفي المرء بإصدار حكم فقهي في رأي سياسي آني، أو يسجِّل موقفا سياسيا في مسألة اجتماعية تراحمية، أو يسجل موقفا اجتماعيا في قضية سياسية من صلاحيات مؤسسات الدولة…

إن هذه المنظومات بأبعادها الانتمائية الأربعة متداخلة، ولكنها متمايزة في منطلقاتها وغاياتها، إذ تمثل كل منظومة في إطارها النسبة الأعلى وتبقى نسبة ضئيلة تمثل جسرا واصلة لها مع غيرها من المنظومات الأخرى، ولو أردنا توضيح الفكرة باستعارة قانون باريتو الإقتصادي الإيطالي المعروف بقانون 80/20، فإننا نقول كل منظومة من هذه المنظومات تمثل فيها القيم المتصل بها 80 بالمائة، اما العشرون بالمائة الباقية فتوجد في المنظومات الأخرى.

ومنظومة التراحم مثلا محلها الأسرة، فيها تنشأ وتنمو وتمارس 80 بالمائة من القيم التراحمية، و20 بالمائة يمكن استمدادها من المنظومات الأخرى بنسب متفاوتة، ولذلك كان تناول القرآن الكريم لقضايا الأسرة كلها وفق منظومة التراحم، باستثناء عقد النكاح وأنصبة الميراث التي نصّ عليها القرآن بشكل قانوني تعاقدي، أما باقي علاقات الرحم فعلاقات مشاعر تراحمية مبنية على المودة والرحمة وما ينبثق عنهما من قيم معنوية.

والعلاقة الزوجية التي هي أساس نشأة الأسرة، قال الله تعالى فيها (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم 21]، وقد صوّر الأستاذ سيد قطب رحمه الله هذه الآيات في تعليقه على قوله تعالى (وقد أفضى بعضُكم إلى بعض) بقوله: “ويدع الفعل: «أفضى» بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقا، يشعّ كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته، ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته، بل يشمل العواطف والمشاعر، والوجدانات والتصوُّرات، والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب، يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمَّتهما فترة من الزمان… وفي كل اختلاجة حب إفضاء، وفي كل نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء، وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء، وفي كل شوق إلى خلف كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: «وقد أفضى بعضكم إلى بعض” [في ظلال القرآن 1/606-607]. وآية الآيات في ذلك أن هذه القيم التراحمية: السكن والمودة والرحمة والإفضاء الذي يلمس كل فضيلة، قيم متعدّية إلى القرابات كلها، وليست قاصرة على الزوجين فحسب، ونصوص الوحي التي تصور علاقات الرحم المختلفة –أبوة وبنوة وأخوة…- في ذلك كثيرة جدا في القرآن والسنة، وكذلك كانت الخبرة الإنسانية في العلاقات الأسرية في جميع الثقافات  والشعوب، ولذلك اعتبر الله أن علاقات الرحم مقدسة كما جاء في الحديث القدسي “قالَ اللَّهُ: أَنا الرَّحمنُ وَهيَ الرَّحمُ، شَقَقتُ لَها اسمًا منَ اسمي، من وصلَها وصلتُهُ، ومن قطعَها بتتُّهُ” [صحيح أبي داوود عن عبد الرحمن بن عوف]. إن كل ما نلمسه من قيم تراحمية خارج إطار علاقات الرحم مصدرها الأسرة عن طريق تلك النسبة الضئيلة التي لا بد منها في إشباع العقل والروح والغريزة.

وما يمكن إثارته هنا في هذه المنظومة التراحمية وفي إطارها الطبيعي، معالجة الفقهاء للقضايا الأسرية، والوقوف عند أحكام الحلال والحرام والحقوق والواجبات، في حين أن المسائل التراحمية أعمق من مجرد الحكم الفقهي أو القضائي الذي قد يكون مخالفا لطبيعة العلاقات الأسرية، مثل إرضاع المرأة لابنها وخدمتها لأبوي الزوجين، وغير ذلك من المسائل التي تذهب بنا بعيدا عن طبيعة العلاقة التراحمية التي فطر عليها البشر.. فرضاعُ المرأة لابنها وخدمة الزوجة لأبوي الزوج، يرى الفقهاء أن ذلك ليس واجبا، وربما القضاء أيضا؛ بحكم أن الفقه والقضاء في الغالب ينظران إلى أمور قابلة للقياس حفاظا على حق الله وحقوق العباد… ولكن طبيعة العلاقة التراحمية تفرض على المرأة إرضاع ابنها وخدمة أبوي زوجها عند الحاجة، كما تفرض على الزوج احتضان أبوي زوجته أيضا، وغير ذلك من القيم المنبثقة على العلاقات التراحمية؛ لأن التراحم يفرض معاني تعلو على مجرد الحق والواجب محدود السقف.

صحيح أن الفقهاء مثل القانونيين، ينظرون إلى الأمور التي يدرسونها انطلاقا من أمور قابلة للقياس كما أسلفنا؛ لأن ذلك خاضعٌ للحقوق والواجبات، للاستعانة بها حفظا للحقوق، وهذا وإن كان ضروريا في الحياة الاجتماعية، إلا أن مجاله البُعد السياسي الاجتماعي المبنيّ على العلاقات التعاقدية؛ لأن أفراد الأسرة مواطنون خاضعة في جانب من حياتهم إلى مبدإ التعاقد، وهذا لا يَحلُّ محل التراحم؛ بل في الإطار العائلي والعلاقات الأسرية، لا يلجأ إلى مبدإ التعاقد إلا استثناء وليس أصلا؛ لأن منظومة الأسرة مبناها على التراحم قبل منظومة التعاقد الخاضعة للحقوق والواجبات؛ لأن اللحمة المفترضة في الإطار التراحمي أقوى من القوانين والتعاقدات والقيم التابعة لها.

على أن مبدأ التعاقد الأصل فيه مبني على اختلاف مبدئي في الدين والفكر والكثير من الأمور… فيلجأ إلى التوافق والمقاربات التي تبحث عن القواسم المشتركة من أجل الوصول إلى التعاقد؛ بل إن القرآن الكريم عندما أراد أن يصور لنا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون استعمل لفظ “الأخوَّة” المعروف في العلاقات الأسرية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات 10]، أي أن على المؤمنين أن يرتقوا بإيمانهم إلى مستوى علاقات الأخوَّة في النسب لما لها من قوة.

ويبقى الباب مفتوحا للكلام عن بقيّة منظومة القيم الأخرى نرجئها إلى مناسبة لاحقة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!