-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نضالُ فلسطينيات الجزائر.. أمِّي أنموذجا

نضالُ فلسطينيات الجزائر.. أمِّي أنموذجا

مازالت قضية فلسطين تحظى بالاهتمام والوجاهة في ميادين ومجالات بحثية أكاديمية ودعائية ومحورية شتى منذ ما يزيد عن قرن من النكبة والتآمر والانتكاسات، ولاسيما بعد صدور وعد بلفور المشؤوم سنة 1917م، وقد خلف لنا ذلك القرن (1917-2023م) تراثا فكريا وأدبيا وبحثيا غزيرا ومتنوعا: مكتوبا ومسموعا ومرئيا ونحوه.. وقد نالت المرأة الفلسطينية حقها وحظها المناسب من كل تلك الكتابات والمنتوجات والإبداعات، تبعا لطبيعة ولون وخصوصية كل مرحلة من مراحل النكبة والنكسة والشتات.. وصولا إلى مراحل التراجع والنكوص وإدارة الظهر لقضية فلسطين قضية العرب والمسلمين أجمعين، ووضع اليد والتطبيع والتحالف مع اليهود الغاصبين.
وعلى الرغم من تقادم وتعفن جرح النكبة النازف، وميلاد أجيال كثيرة أخرى لم تشهد فواجع النكبة ومآسي التهجير وآلام الحرمان والقهر والتشريد، إلاّ أن المرأة الفلسطينية لم تَخِبُ جذوة نضالها، ولم تخمد شحنة وقود نارها الكامنة بالتمسك بفلسطين وحبها الأبدي، وإحياء قيمة وعاطفة هوى فلسطين في نفوس وقلوب أبنائها. وذلك عبر إعادة إحياء واستنساخ كل معاني وقيم ومشاهد وتفاصيل وعادات وتقاليد وأعراف حياة فلسطين قبل الهجرة والتشريد.. وشتان بين أم تشردت وروحها وهواها في فلسطين، ولم تنس لحظة واحدة أيامها ولياليها في فلسطين.
ولعلني كنت واحدا ممن حباهم الله تعالى أن أنجبتهم أمٌّ فلسطينية من مواليد بلدة طبرية شهر ماي 1935م، عاشت حياة سعيدة في بلدتها بين أهلها وعشيرتها.. يعملون بالزراعة والصيد وتربية الدواجن والمواشي على ضفاف بحيرة طبرية الجميلة، ويجاورهم بعض السكان اليهود الذين هاجروا إليها قبل عقود من نكبة 1948م ويعيشون معهم بسلام، حتى حلّت بديارهم عصاباتُ (الهاغانا والأرغن والشتيرن) يغيرون عليهم ليلا، لأن طبرية كانت من الأهداف التوراتية الأولى الواجب احتلالها وطرد سكانها منها، وبالرغم من مقاومة أهلها تحت قيادة خال والدتي المجاهد (حسن خليل العجلوني، صاحب الاسم الحركي حسن شلبك 1909- 1972م) وبيت (الشيخ الطبري)، إلاّ أن أهل البلدة اضطروا للخروج ليلا فارّين بعد أن نفدت الذخيرة منهم، وخرجت والدتي وعمرها ثلاث عشرة عاما في حكاية مثيرة ومؤثرة ترويها لنا بتفاصيلها ليالي الشتاء الباردة يوم أن كانت الأم والجدة هي وسيلة الإعلام والتسلية الوحيدة في البيت.

أما تاريخ فلسطين وسائر محطاتها التاريخية فقد كانت أمّي مرجعَنا الوحيد، وقد روت لنا أحداث خروجهم من فلسطين ومن بلدتهم طبرية شهر أفريل 1948م ومعاناتهم على جسر الجنرال اللنبي على نهر الأردن، وخيانة (بيت شيخ البلد الطبرى) الذين باعوا طبرية لليهود والإنجليز خِلسة وفتُّوا في عضد المقاومة التي كان يتزعمها خال والدتي حسن خليل العجلوني، كما روت لنا ما تناقلته الرواية الفلسطينية عن ثورة البراق سنة 1929م بقيادة المجاهد الكبير عبد القادر الحسيني، وعن ثورة عز الدين القسام سنة 1935م، وعن مقاومة الفلسطينيين للإنجليز.

وقد شاءت الأقدار أن تتزوج والدتي بوالدي المجاهد (محمود بن علي بن أحمد عيساوي 1927-2000م) بمهر اسمه (الجهاد في فلسطين)، لأن والدي كان مجاهدا لا يملك مالا، فزوّجه جدي بعبارة (زوّجناك ابنتنا بمهر الجهاد في فلسطين) سنة 1953م بدمشق، وقد عشتُ أنا وإخوتي التسعة ومازلنا نعيش إلى اليوم في بيتٍ فلسطيني بامتياز في الجزائر سنوات 1963-2023م، في كنف أمي (فتحية بنت محمد حامد حسن المصري 1935- حية 2023م) عاداته تقاليده أعرافه أمثاله وحكمه وتجاربه وقيمه ولهجته وحتى لكنته وقصصه وحكاياته ومشاعره وخيالاته وآماله وآلامه يوم الهزائم والنكسات وحرقته.. وعلى هذا تشكَّلت نفسياتُ هؤلاء الأبناء التسعة على قيم وهوى وحب فلسطين إلى اليوم، وأفرزت هذه التربية مكتوبات ومدونات ومنشورات بحثية أكاديمية عن فلسطين.
وقد كان جدي (محمد حامد المصري 1909-1984م) من أب مصري من القاهرة اسمه حامد يسكنون في درب الأتراك خلف الجامع الأزهر قدِم إلى سورية في سنة 1906م للعمل لما بدأ السلطان عبد الحميد الثاني في إنشاء سكة حديد الحجاز وعمل جد والدتي في الخط الحديدي المعروف بخط سكة الحديد برلين إسطنبول بغداد الحجاز. حتى وصل إلى مدينة حمص وهناك تزوَّج جدّةَ والدتي المدعوّة (خضرة) الحمصية وأنجب منها أحد عشر ولدا وبنتا. وللأسف الشديد فقد فَقَدَ جدي كل إخوته الأحد عشر (11) ووالدته في وباء الجدري الذي اكتسح بلاد الشام أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، وقضى على كامل أسرته بما فيهم والدته (خضرة) الحمصية جدة والدتي، ونجا جد والدتي حامد وجدي محمد والبغل الذي كانوا يركبونه حتى وصلوا منطقة (سحم الجولان) في محافظة درعا وفي قرية إزرع وسكن مع أبناء عمومته الذين استقروا في منطقة سحم الجولان، ومازالوا يسكنونها إلى اليوم.
ولعلّ من أطرف ما كنت أسمع من جدي (محمد حامد المصري 1909-1984م) قصة نجاته من مرض الجدري بعد أن التهم الوباء كامل أجساد إخوته وماتوا، فقد لاحظ جدي وأبوه أن البغل الذي كانوا يملكونه يتمرغ كل ساعة في الطين والوحل الأسود وسائر الخيول والحمير والبغال التي تتمرغ في الوحل الأسود لم تصَب بالداء، فما كان من جدي ووالده إلاّ أن صاروا كل يوم يطلون أجسادهم بالطين والوحل الأسود وبعد جفافه يغتسلون، وهكذا عدة أيام حتى نجوا.
ولما استقرّ عند أبناء عمومته بسحم الجولان عمل بالفلاحة وكان مزارعا ماهرا وعاملا مجدًّا وما كادت تصل سنة 1930م حتى قرَّر الزواج وخطب ابنة عمه ولكنه في ليلة زفافه سُرقت منه عروسُه، فهرب من القرية ونزل ببلدة طبرية وتعرّف على عشيرة وأسرة جدتي لأمي (يسرى خليل العجلوني 1916-1992م)، وعمل عندهم مزارعا في أراضيهم إذ كانوا من كبار ملّاك الأراضي بطبريا وعجلون بالأردن، وأثمرت الخيرات ودرّت عليهم الأرض الكثير من الخيرات، وهناك تشجع جدي بعد أن تعرّف على أشقاء جدتي (حسن 1909-1972م) و(يونس 1917م) و(محمود 1924م)، وتزوَّج جدتي (يسرى) وأنجب منها (11) ابنا وبنتا.
والأغرب من هذا أنه سنة 1972م كنت جالسا مع جدي في شرفة العمارة بحي البيروتي بدمشق بالقرب من جامع عمر بن الخطاب المدعو باب مصلى، وكنت شديد الارتباط بجدي لتدينه فقد كان حنفي المذهب ويملك مكتبة محترمة يضعها في صندوق خشبي أخضر أحضره معه يوم هجرته من فلسطين سنة 1948م وتضم مكتبته كتب الفقه والتوحيد والتاريخ الإسلامي وقد أهداني كتاب (فتوح الشام للواقدي طبعة بولاق بالقاهرة 1944م). وكان أسفل العمارة محطة سيارات درعا، وإذا بأسرة مكونة من عجوز وشيخ وامرأة ورجل قد انقطع بهم الطريق وفرغت المحطة من السيارات، فما كان من جدي إلاّ أن طلب مني أن أدعو تلك الأسرة للصعود إلى البيت كي يقضوا ليلتهم تلك في بيت جدي المضياف الكريم، وإذا بي أفعل وأخرج بسرعة لتلبية طلب جدي العزيز وسرعان ما صعدت بتلك الأسرة بالزي الحوراني البدوي، ويا للمفاجأة الكبرى أن تكون تلك العجوز هي زوجة جدي المسروقة، وبعد أن دخلوا الدار علا النواحُ والبكاء والصراخ والنحيب والذهول سماء البيت، ووجم الجميع بما فيهم جدتي التي خفت أن تسري إليها روح الغيرة من منافستها الأولى، ويا لله كيف تسير أقدار الله تعالى، وقضينا تلك الليلة في دار جدي مع القصص والأحاديث والروايات والبكاء.. ومن ثمتها انتقل جدي وزار أبناء عمومته في سحم الجولان الذين أبدوا ندمهم وتأسُّفهم عما حصل لابن عمهم سنة 1930م.
ولعل المتابع للأحداث عن فصول هذه الحكاية والقصة الحقيقية الغريبة التي كان يرويها لي جدي رحمه عن معاناته وغربته ويتمه وسائر فصول حياته حتى صار مديرا لشركة البوتاسيوم بالبحر الميت حتى اغتصاب فلسطين سنة 1948م، وقد روى لي أنه كان يملك صندوقا من الذهب جناه من عمله، ولكنه يوم هجرته لم يأخذه معه، وأخفاه في مكان في منطقة البحر الميت على الطرف الأردني، وذلك أن اللاجئين الفلسطينيين كانوا يتعرّضون لشتى عمليات السرقة والمصادرة والحجز للمال والممتلكات والألبسة، فقد روى لي رحمه الله أن جنودا أردنيين كانوا ينزعون منا حتى جواربنا فضلا عن معاطفنا وأحذيتنا.. وقد روى لي أنهم استقروا في منطقة عجلون عند أبناء عمومة جدتي (يسرى)، ولكن جدي فضَّل اللجوء إلى سورية، وبعد رحلة تهريب وعذاب تحملهم شاحنة عبر صحراء بادية الشام واستقرارهم في سورية شهر سبتمبر 1948م عاد رفقة والدتي إلى المكان الذي دس فيه صندوق الذهب، وعاد فاستخرجه منه وعاد متخفيا عبر بادية الشام، وظل ينفق من هذا الذهب طيلة خمس سنين على أمل الرجعة والعودة للديار.. حسبما كان يتردد عبر المنابر الأممية وخطط التهدئة ومشاريع التسوية والصلح والسلام الكاذبة التي عملت اليد الصهيونية والماسونية العالمية المتحكمة في مقاليد العالم تحت إمرة اليهود الغاصبين والنصارى والأمريكان المجرمين الحاقدين.. ولذا لن يخرج شعب غزة اليوم من أرضه ولو قُتل عن بكرة أبيه لعلمه وتجاربه ومعرفته بالخطط الصهيونية والأمريكية تحت مظلة المؤسسات الأممية..
ولعل القارئ يتمنى أن يسمع شيئا عن نضال المرأة الفلسطينية في الشتات، ودورها الثقافي واللغوي والأدبي والروحي والنفسي والتربوي والتعليمي والأخلاقي والقيمي.. من أجل زرع وتجذير عاطفة حب فلسطين في الأجيال. فقد كان لوالدتي الفضلُ في تعليمنا وتأديبنا وتربيتنا وتحفيظنا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وتعليمنا الصلاة والصيام وسائر أخلاق الإسلام فضلا عن الخط لأن خطها كان جميلا، كما تعلّمنا على يديها اللغة الإنجليزية وظلت تعلِّمنا وأبناء الحي العربية والحساب والإنجليزية حتى بلغنا السنة النهائية.

مازلت إلى اليوم أحفظ الكثير من أغانيها الفلسطينية الحزينة وهي تغني كل صباح ومساء وأنهار الدموع تشق جمال خديها، وهي تقول بالعامية الفلسطينية معللة حزنها على فقد أهلها وذويها وأرضها وذكرياتها (على الليمون الليمونة.. راح حبابي وتركوني..)، ولكم كانت تردد هذه العبارة مخاطبة والدي رحمه الله قائلة له: “لم أر خيرا كخير الجزائر مثلما رأيته في فلسطين”.

أما تاريخ فلسطين وسائر محطاتها التاريخية فقد كانت هي مرجعَنا الوحيد، وقد روت لنا أحداث خروجهم من فلسطين ومن بلدتهم طبرية شهر أفريل 1948م ومعاناتهم على جسر الجنرال اللنبي على نهر الأردن، وخيانة (بيت شيخ البلد الطبرى) الذين باعوا طبرية لليهود والإنجليز خِلسة وفتُّوا في عضد المقاومة التي كان يتزعمها خال والدتي (حسن خليل العجلوني 1909-1972م) المدعو باسمه الجهادي (حسن شلبك)، كما روت لنا ما تناقلته الرواية الفلسطينية عن ثورة البراق سنة 1929م بقيادة المجاهد الكبير عبد القادر الحسيني، وعن ثورة عز الدين القسام سنة 1935م، وعن مقاومة الفلسطينيين للإنجليز، وعن علاقتهم باليهود المتربصين، الذين كانوا يعيشون معهم ويبيِّتون لهم العداء، وتروي والدتي أن أسرة يهودية كانت تسكن بجوارهم، وكان الجد اسمه (مرياسس) والجدة اسمها (راحيل)، وكانا يناديان والدتي كي تشعل لهم المصباح وتوقد لهم النار وتضع لهم قدور الطعام على الموقد يوم عيدهم الأسبوعي (سابات) والذي يبدأ من مغيب الجمعة إلى مغيب شمس يوم السبت.. وغيرها من القصص والحكايات..
كما كان لوالدتي حفظها الله دورُ الأم الفلسطينية في إنشاء وتكوين بيت فلسطيني خارج أرض فلسطين، فقد رحلت مع والدي من سورية شهر أكتوبر 1963م وسكنت في الحي العسكري بشارع بلكور بالعاصمة عندما كان والدي في ثكنة علي خوجة، ولما حُوّل إلى قسنطينة سكنت في الحي العسكري بسيدي مبروك، وسرعان ما تعلّمت العادات الجزائرية وصارت تكسر الحطب وتعدّ الكسرة وتقول: هي العادة نفسها في فلسطين..
وظلت أيقونة للتربية والتعليم والتوجيه والتأطير والتكوين والشحن المعنوي والإيديولوجي.. وقد قامت حفظها الله ورعاها بدور الأم الفلسطينية في زرع القيم وغرس العواطف وتعديل السلوكات وفق الرؤية التربوية الفلسطينية الأصيلة. ولعبت دورا مهما في غرس العادات والتقاليد والفنون والأعراف والأزياء والأنماط والأطعمة في نفوس وقلوب وسلوكات أبنائها، ولكم كانت أصوات نغماتها الحزينة تنبعث في الدار وهي تقوم بمهامها اليومية، وهي تغني أغاني (الميجانا) و(العتابا) وتنشد الأناشيد الفلسطينية الحزينة كأغنية (بين الدوالي، والكرم العالي، يا محلى السهرة والبدر يلالي بين الدوالي آه بين الدوالي..)، ومازلت إلى اليوم أحفظ الكثير من أغانيها الفلسطينية الحزينة وهي تغني كل صباح ومساء وأنهار الدموع تشق جمال خديها، وهي تقول بالعامية الفلسطينية معللة حزنها على فقد أهلها وذويها وأرضها وذكرياتها (على الليمون الليمونة.. راح حبابي وتركوني..)، ولكم كانت تردد هذه العبارة مخاطبة والدي رحمه الله قائلة له: “لم أر خيرا كخير الجزائر مثلما رأيته في فلسطين”.
وقضى الله تعالى أن يُكتب التشريدُ على هذه الأسرة وغيرها من ملايين الأسر الفلسطينية المُهجَّرة، لأن المدنية الغربية الهمجية الوحشية اقتلعت أهلنا من ديارهم وبيوتهم وغرست يهودا غرباء على أرض فلسطين لتتخلص منهم على حساب الحق الملق الذي ييدعونه كذبا وزرا.. فإحدى خالاتي تزوجت لبنانيا، وخالتي الأخرى عراقيا، وخالتي الثالثة فلسطينيا، وخالتي الرابعة فلسطينيا وهاجرت إلى السويد، وخالان هاجرا إلى أمريكا، ولم يبق سوى خال واحد في سورية، والباقي قضوا نحبهم رحمهم الله من دون أن يروا وطنهم محررا..
فعليك السلام يا أرض فلسطين.. يا أرض المحبة والأنبياء والسلام، وعليك السلام يا أمي المجاهدة الصبورة، وعليك السلام يا جدي وجدتي وخالاتي وأخوالي، وعليك السلام يا أجيال الثأر ويا كتائب الرجولة ويا فصائل المقاومة الإسلامية الخالدة، فهبُّوا يا مسلمين ويا عربا شرفاء لنصرة فلسطين السليبة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!