-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
في ذكرى رحيل صانع الرّجال

هكذا زرع ابن باديس بذور الثورة والتحرّر

سلطان بركاني
  • 626
  • 0
هكذا زرع ابن باديس بذور الثورة والتحرّر

لعلّ من المناسب ونحن نحيي الذّكرى الـ84 لرحيل الإمام عبد الحميد بن باديس، أن نضع فوق طاولة التشريح، دعوى لا نراها إلا كاذبة خاطئة، خامرت نواصي بعض العلمانيين في بلادنا، ونطقت بها ألسنتهم وخطّتها أناملهم، مفادها أنّ الإمام هادن الاستعمار الفرنسيّ البغيض، ولم تكن له أيّ خطة ولم يبذل أيّ جهد في محاربته وتخليص البلاد من أنيابه!

العجيب في أمر هؤلاء العلمانيين أنّهم في الوقت الذي يدعون فيه إلى إعمال العقل والتحلّي بالحكمة في كلّ مواجهة، إلا أنّهم يصرّون على محاكمة الإمام ابن باديس إلى عبارات نشرت على بعض الجرائد التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يُفهم منها أنّ الشيخ -رحمه الله- كان وديعا مع الاستعمار الفرنسيّ، غير مراعين لسياق تلك الكلمات، ولا للتضييق الشديد الذي كان يسلط على جرائد الجمعية، بسبب ما تنشره من فكر يهدف إلى اجتثاث الجذور التي يتغذّى عليها الاستعمار وتُطيل وجوده.

عبارات ابن باديس التي يجتثها هواة التدليس، كانت تحاكم الاستعمار إلى الشعارات والدعاوى التي يرفعها، ومنها أنّ فرنسا تريد تمدين الشعب الجزائري وإلحاقه بالحضارة (!)، حيث كان ابن باديس كأنه يقول للمستعمر بلسان الحال والواقع قبل المقال: إذا كنت تريد فعلا أن تلحق الشعب الجزائري بالحضارة فنحن نساعدك على ذلك، لأنّ اللحاق بالحضارة لا يتمّ إلا بالتحرّر من الاستعمار والاستعباد، وتمكين الشعب من بناء بلده وفق مقومات هويته.. ولا تزال كتب التاريخ تحتفظ للإمام بمقولته المشهورة: “إنه لا يقف ضد المدنية أو الحضارة العصرية الغربية، لكنه يدعو إلى أن يتمدن الجزائريون بشروطهم هم لا بشروط فرنسا، وأن يتمتعوا بحريتهم واستقلالهم وأن تتوقف فرنسا عن استغلالهم”، هذه المقولة التي خطّتها يد عالم يختلف عن كثير من علماء جيله الذين لا يدرون عن الحضارة الغربية قليلا ولا كثيرا؛ فالشيخ قد درس الحضارة الغربية وخبر الأسس التي تقوم عليها، حتى كان عضوا في الجمعية العالمية للثقافة بباريس، وناقش مفكرين فرنسيين مشهورين مثل “ألبير كامو” و”أندريه مارلو”، وأقام عليهم الحجّة من خلال الشعارات التي كانوا يناضلون لأجلها: “الحق، والعدل، والمؤاخاة”، ليستميلهم لصالح القضية الجزائرية العادلة.

أسس الإمام ابن باديس -رحمه الله- مطبعة خاصّة، لضمان أقصى قدر ممكن من الاستقلالية عن الاستعمار، وأصدر جريدة “المنتقد” عام 1925م، واختار لها خطا ثوريا انتقاديا، اختصره في قوله: “ننقد الحكام والمديرين والنواب والقضاة والعلماء والمقاديم وكل من يتولى شأنًا عامًا، من أكبر كبير إلى أصغر صغير من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين، وننصر الضعيف والمظلوم بنشر شكواه، والتنديد بظالمه كائنًا من كان”.. وكان خطًّا مناهضا لذلك الذي كانت تسير عليه كثير من الطرق التي ترفع شعار “اعتقد ولا تنتقد”، هذا الشّعار المخدّر الذي اقتات عليه الاستعمار وروج له من خلال عملائه الذين تزيا عدد غير قليل منهم بزيّ المشايخ وسلبوا عقول النّاس وارتهنوا إرادتهم ووأدوا كلّ رغبة لديهم في التحرر من القيود، من خلال الترويج لفكرة أنّ المريد بين يدي شيخه، ينبغي له أن يكون كالميت بين يدي مغسله، وبالتالي إذا كان الشيخ خانعا للاستعمار فالمريدون لأثره مُقتفون!

وظلّت مجلة “المنتقد” تنشر الوعي وتبثّ روح التحرّر، حتى ضاق بها الاستعمار ذرعا وأوقفها في سنة 1939م، أي قبل عام من رحيل الإمام ابن باديس، رحمه الله.

كانت جهود الشيخ، منذ انطلاقته في سنة 1913م، كلّها تصبّ في مواجهة الاستعمار الثقافي الذي يقوم عليه الاستعمار العسكري الفرنسيّ، وكان من أهمّ تجليات المواجهة الثقافية: إصراره على كسر ثقافة حرمان النساء والبنات من التعليم، التي كان يقتات منها الاستعمار البغيض، حيث حرص الشيخ -رحمه الله- على تشجيع الآباء لضمّ نسائهم وبناتهم للجمعيات التعليمية مع ضمان مجانية التعليم حتى يكون ميسورا لكلّ الأسر. ولا تزال الأجيال تحفظ لابن باديس مقولته المشهورة: “إذا علَّمتَ ولدًا فقد علّمتَ فردًا، وإذا علَّمتَ بنتًا فقد علّمت أمّة”.

أمّا تكوين الجيل الذي يحمل مشعل الثّورة، فقد كان أهمّ هدف سعى الشيخ لتحقيقه، وبذل له ثمرة فؤاده ومهجة عمره وأوقف له حياته، حتى حُفظت عنه تلك الكلمة العظيمة التي تدلّ على نبل هدفه: “شُغِلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب”، وبالفعل لم يرحل الإمام عن دنيا الناس، حتى بدأت بوادر الثورة تتجلّى في الجيل الذي تربّى على دعوته ودعوة رجال وعلماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!