-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وصفة الدكتور بلخادم

عابد شارف
  • 3353
  • 0
وصفة الدكتور بلخادم

يعتبر الأطباء أن أخطر الأمراض هي تلك التي لا تتميز بعلامات خارجية تنبئ بها ولا بمؤشرات تدفع إلى التكفل بها قبل أن يفوت الأوان. أما الأمراض التي تسبقها حمّى أو وجع أو ظاهرة ما تنبئ بها، فإن الطبيب لا يقلق لها عادة، لأنه يستطيع أن يحاربها قبل أن تستفحل، ويهيّئ المريض لمواجهتها، كما يتهيأ الطبيب نفسه لمحاربتها بما يكتسب من العلم قبل أن يزداد الوضع خطورة.وذهب العلم إلى أبعد من ذلك لما اتفقت الإنسانية على أن الوقاية خير من العلاج، ووضعت هياكل ومراكز أبحاث مختصة بالوقاية والتنبؤ بالأمراض قبل أن تبلغ درجة من الخطورة.وإذا كانت هذه النظريات صحيحة، وجب علينا الاعتراف أن الحكومة الجزائرية أسوأ طبيب على وجه الأرض. فالمرض الذي أصاب البلاد واضح ومنتشر، وعلاماته متعددة إلى درجة أنه لا يمكن إحصاؤها، سواء تكلمنا عن البطالة أو ظاهرة »الحرقة« أو العنف وانتشار الإجرام، وانهيار القيم، إلى جانب الفساد والرشوة والفشل الاقتصادي وغيرها. لكن الحكومة الجزائرية تبقى الوحيدة التي تعتبر أن الجزائر بصحة جيدة وأنها تتحول من حسن إلى أحسن.ويجمع المحللون على أن تعدد الإضرابات في بلد يترجم في حقيقة الأمر أزمة سياسية أو اجتماعية أو بسيكولوجية يجب على السلطة أن تتكفل بها. ومن هذا المنطلق، فإن الحكم الراشد يدفع السلطة إلى مساعدة النقابات لتنظيم العمال في إطار القانون، حتى تعرف السلطة ما هي الأجواء التي تسود في الأوساط العمالية، من خلال تصريحات ومواقف الممثلين النقابيين مثلما يساهم نضال الأحزاب في تنظيم المجتمع والتعبير عن طموحات المواطنين من خلال تنظيمات رسمية.ويمثل الخطاب النقابي في هذه الحال أحسن وسيلة لمعرفة الجو الاجتماعي والسياسي، مما يسمح للسلطة أن تتخذ التدابير الضرورية لا لحل المشاكل فقط، بل لتسبق الأحداث وتتجنب الأزمات، ومنع البلاد من السقوط في الأزمات والاضطرابات التي تتبعها. وقد أدت التجربة السياسية إلى تطوير هذه الطريقة في التسيير، مما دفع البلدان المتقدمة إلى مساعدة الجمعيات على النمو لتتكفل بالقضايا التي عجزت الحكومة والأحزاب والنقابات عن التكفل بها. وهذا ما سمح لتلك البلدان أن تصل إلى إقامة شبكات متكاملة متواجدة في كل المدن والأحياء والفئات الاجتماعية. وإذا فشلت في ذلك فإنها تعرف جيدا أن الوضع سينفجر مثل ما وقع في الأحياء الشعبية في فرنسا قبل ثلاث سنوات.أما الحكومة الجزائرية، فإنها اختارت أن تتجاهل المرض والمريض، وأن تتجاهل علامات المرض المنتشرة في الشوارع والأحياء. ورغم الصدى الكبير الذي يلقاه الإضراب في الوظيف العمومي هذا الأسبوع، فإن الحكومة قالت إن شيئا لم يحدث، وإن الإضراب لا حدث. وتجاهلت الحكومة هذه الحمى الاجتماعية الكبرى التي عبرت عنها النقابات المستقلة من خلال الإضراب، والتي تشير في نفس الوقت إلى وجود أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة. وبينما كان الجميع ينتظر كيف سيعالج الطبيب الحكومي هذه الحمى، وهل سيتكفل بأسباب المرض أم سيكتفي بإطفاء الحمى، قررت الحكومة ألا تفحص المريض إطلاقا، وألا تعترف بوجود المرض، حيث رفضت أن تعترف بالنقابات المستقلة التي نظمت الإضراب ورفضت بطبيعة الحال أن تتحاور معها.وستلجأ الحكومة، كالعادة، إلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين لتعلن عن مكاسب جديدة لصالح العمال وذلك في إطار تطبيق برنامج فخامة رئيس الجمهورية. ويعني ذلك أن الحكومة ستعالج مريضا وهميا، من مرض وهمي، لا علاقة له بالعمال ولا بارتفاع الأسعار ولا بانهيار القدرة الشرائية. وستنشر الجرائد أخبارا وهمية أخرى حول تحسن مستوى معيشة العمال وارتفاع قدرتهم الشرائية بفضل المجهودات التي تبذلها الدولة في إطار برنامج كذا وكذاومرة أخرى، أخطأت الحكومة في تشخيص المرض. فقد فضلت الحكومة أن تتعامل مع إدارة وهياكل ميتة، ولم تفهم أن النظام الجزائري انتهى، وأن النقابات المستقلة تشكل إحدى القوى القليلة التي مازالت حية، تحاول أن تقدم مطالبها في إطار قانوني، وتناضل من أجل الدفاع عن مصالح فئات تشتكي الغبن.وقد أدت الأزمة التي تعاني منها البلاد منذ مدة إلى القضاء على الكثير من المؤسسات والتنظيمات، ولم يبق في الجزائر إلا القليل من الكيانات التي مازالت حية، تناضل علنا وبطريقة سلمية من أجل تحقيق مطالب أغلبها مشروع. لكن الحكومة لا تريد أن تتعامل مع هذا الواقع، وكأنها تريد أن تدفع هذه الكيانات القليلة التي حافظت على سلامتها وتوازنها إلى الهامش أو إلى العنف: هذه هي الوجبة التي يقدمها الطبيب عبد العزيز بلخادم لمحاربة الأزمة.   

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!