-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وصية صدام حسين لمّا حمل المصحف بيديه

وصية صدام حسين لمّا حمل المصحف بيديه

عندما يستشعر الأبطال الخالدون اقتراب آجالهم، وهم في الأسر، يحتاجون إلى الرموزية وهم يواجهون الظلم. فتراهم يحرصون على تبليغ رسالة مشفرة ببراعة، ليقرأها كل حرّ أينما كان، تحمل في طياتها وصية ملهمة تخترق الأزمان، قد استوحاها أصحابها من الخبرة الذاتية أو من التجربة النضالية التي عاشوها أو صنعوها؛ ذلك ما تقصّد القيام به الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عندما حمل المصحف الشريف بيديه، طوال جلسات محاكمته المنقولة للناس على الفضائيات، قبل عشرين عاما تقريبا. مع الفارق الكبير بين مسار تجربته السياسية المتحفظ عليها كثيرا، وبين المصير المشرف الذي آل إليه شخصيا.

حزب البعث والخيارات المرّة

إن دلالة حمل المصحف الشريف لا تخطئها عين من كان يتابع باهتمام بالغ سجالات الرجل ضد مضطهديه، ممن سخّر كل ما ملك من أجهزة أمنية وقضائية، مكّنهم المحتل منها، لجرّ الرجل إلى المشنقة؛ انتقاما منه على ماض أذاقهم فيه الرجل كل طعوم الاستبداد، من تهميش وبطش وتقتيل، وإن كان في بعض ما فعل الرجل بهم شبهة حق، لكنه حق مطمور عميقا بخيارات البعث المتهافتة، البعيدة كثيرا عن تعاليم المصحف الكريم الذي تشرف بحمله صدام، وهو يطل على مصيره المحتوم الذي سيق إليه سوقا.

لقد حكم حزب البعث العربي الدولة بأيديولوجية غريبة عن ثقافة المجتمع العراقي، مجتمع لا تزال بغداد تذكّره بتاريخ جمع أطراف العالم الإسلامي- إبان القرون الوسطى- في ظل خلافة إسلامية، أتاحت للمذاهب العقدية والفكرية وللأعراق والقوميات مجالا فسيحا للتعايش والإبداع في جوانب الحياة كافة. خلافة منيعة تعترف بالآخر وتمنحه مرتعا خصيبا يحفزه على بذل ما لديه من قدرات ومواهب؛ فأصبح من الناس الفقهاء والحكماء والمعماريون والأدباء ورجال الدولة وقادة الحرب… كل ذلك تم بسياسة حكيمة غلب عليها الإنصاف والحرية والالتزام، فكان من تاريخ بغداد ما كان.

لقد حكم حزب البعث العربي بقيادة صدام حسين العراق بالرأي المتفرد وبالجمر، ودفع بالعراقيين مرتين إلى أتون حروب آثمة لم تجن الأمة منها شيئا يذكر، سوى ما يذكره لك بعض المحازبين للرجل من حسنات دفاعا عنه ليس إلا، كان من شأنها أن تتحقق بوسائل سلمية وثقافية، أدار لها البعثيون الظهر عشرات السنين. أمّا ما يخفونه عنك، ولا يحدثونك به إلا لماما، فحصاد مرّ جَنَوه على أمتهم، حين تهاوى سد منيف، كان بمقدوره صد التشيع الصفوي عن العالم الإسلامي غربا، وكان بإمكانه إصلاح شأن هذا العالم أيضا، لو أن قادة العراق حملوا المصاحف الشريفة بأيديهم مبكرين.

هل تلقف البعثيون الرسالة كما يجب؟

لقد أوصى صدام حسين بالمصحف الشريف، الذي لم يفارقه، إلى أحد المدافعين عنه في المحكمة، فهل تلقف البعثيون الإشارة كما يلزم؟ الجواب يشي بأن عقلية البعث لا تزال كما هي لم تتبدل، وآية ذلك ما يدلي به قادة الحزب في العالم العربي اليوم، منافحين عن خيارات زعيمهم الأوحد إبان حكمه، ما ساء منها وما حسن؛ وكيف لهؤلاء، بربك، أن يعوا وصية الرجل المشنوق ظلما، وهو يرى مقعده من الآخرة بعين ويسلم المشعل لمن بعده بعينه الأخرى، وأغلبهم لم يجرؤ على مصارحة تفوح منها توبة صادقة عما في البعثية من مبادئ تناقض الإيمان بالله والرسول، إيمان وظّف على عجل، آخر العهد بالحكم، لمقاومة المحتل، لعله أن يحرض الناس على الجهاد لدفع صائل لا يبقي ولا يذر، ومن دون أن يفصح هؤلاء المحرضون للناس عن ماهية العراق بعد أن يحرروه؛ وتلكم مفارقة بائسة تطفو على طبائع المستبدين كلما التفت على أعناقهم، بلا رحمة، الحبال الخانقة.

لا غرو أن تجد في التاريخ من كان بشخصيته الفذة يمثل ضمير الأمة بلا مسوح، كما كان الشهيد عمر المختار (عليه رحمة الله)؛ لم يك هذا الرمز بحاجة، وهو يعدم، إلى رسالة مشفرة يورثها الآخرين. لقد كانت سيرته تنضح بمآثر باقية، فيكفيك أن تذكر للأجيال الجديدة الدال ليتداعى إلى مخيالها المدلول. لقد كان هؤلاء الأبطال مصاحف تتهادى على جياد العزة والتحرير، ولم يكونوا بحاجة البتة إلى حمل نسخة من القرآن الكريم لتمرير وصية، والقرآن الكريم كله كان محمولا عندهم في الصدور. أما من تقصّد فعل ذلك، كصدام حسين، فواضح أن بونا ما بين مسيرته حين حكم العراق وبين مصيره، استدعى منه أن يوحي، وهو مكبل بالقيود، لأتباعه ومحبيه إيحاء بما يجب أن يفعل، لو أن من تلقى الراية من بعده أحسن الفهم.

للشعوب المسلمة فطرة سليمة، فمحال أن تنخدع مشاعرها المكنونة حيال أبطال صنعوا لها أمجادا، وصدام حسين من أولئك الذين حظوا بمقام كريم في قلوب الملايين من الناس، لما أيقنوا منه بأسا شديدا في مقارعة المحتل، ورجولة أبية لا تنحني حتى وهي في الأسر. إنه سر تعظيمه ولا يوجد غيره، جوابا لمن يحب أن يقرن بقصد أفعال الرجل الظالمة بنهايته المشرفة، كي يرمي سائر الأمة بالقصور في الفهم ليعتلي هو منصة “الحق المطلق” كما يتوهم؛ وأغلب من يفعل ذلك من كان عميلا سار في ركاب الغزاة، أو كان رجلا له ولاء مذهبي لدولة الخميني. وبين هؤلاء وأولائك سلك رفيع جمعهم على تدنيس بلاد المسلمين، الذين لا يزالون يستطلعون قائدا مغوارا يعقدون بين يديه اللواء.

معنى أن تكون قرآنيا

لا يتحرر من ميشال عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي من رضع لبان فكرهم يافعا فأنبت لحمه وأنشز عظمه، إلا قليلا ممن تربى في أرقميات أو درج في حوزات؛ لذلك كان أحرار العراق، من السنة والشيعة، أحجارا كأداء أمام البعث العربي الساعي بجد إلى أدلجة البلاد بأكملها. لولا أن بعضهم مالأ قيادة الحزب الحاكم عندما لاحت لناظريه من بعيد مخاطر مدلهمة، توشك أن تعصف ببلاد الرافدين من كل حدب وصوب؛ وقد أظهرت السنين العجاف، التي خلت من عمر العراق، أن في اجتهاد هؤلاء حظ من النظر.

لا يمكن للبعثي أن يكون قرآنيا بين صبح وعشية، ولا يستقيم له أن يشد العصا من وسطها فيسوس أهله بفصل الدين عن الدولة ويكون في الوقت نفسه تقيا، يحصر التدين في حق الله على عبده فحسب، من دون أن تكون لله حقوق أخرى على العباد. وفي مجادلة فكرية جمعتني بقائد من البعث العراقي، في مناسبة ثقافية، حول مفهوم الأمة التي كان ينادي بها منظرو الحزب، انتقدت فيها تجاوز المنظرين مفهوم الأمة المسلمة في بعدها السني من المعنى الذي أرادوه، فرأيته في رده عني قد راح يتهمني بأنني طائفي، فأجبته بأن من جمع الأمة المسلمة السنية مع غيرها في أمة سماها عربية وألقى عليها لبوس العلمانية هو الطائفي. ولا أظنني قد أقنعته بهذا، وسُقط في يدي أن عقل هذا الرجل كان متحجرا للغاية.

ولقائل من البعث العربي أن يقول: “لقد بالغت كثيرا في تحميل رسالة القائد صدام حسين ما لا تحتمل يا هذا! فالشهيد عاش بعثيا ومات بعثيا، فلا تكونن ملَكيا أكثر من الملك”. والرد على ذلك يستدعي مني التذكير بمعنى أن يكون المرء قرآنيا، وأن يكون المصحف الكريم شعارا ترفعه عاليا. إن معنى ذلك، وأنت ترمز للحكم في مجتمع مسلم، أن تكون بسلوكك ربانيا، تسعى بكتاب الله تعالى بين الناس لا خائفا ولا مرائيا؛ فتقرأه الرعية منك في حلِّك وترحالك، وتشتم روائحه الزكية في أنفاسك، وتراه بريقا يلمع في لمح بصرك حين تنظر إليك. أي أن تكون عبدا لله لا يقاسمه فيك شريك. إنها درجة رفيعة من العبودية، لا تتأتى بطفرة سياسية، بل تنال بمثابرة وإخلاص وجدية. وفي ذلكم قسطاس مستقيم، يعدل به من أراد أن يزن أعمال البعثيين، السابقين منهم واللاحقين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!