-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثلث قرن على انتفاضة 05 أكتوبر 88.. قراءة في تركيبتنا النّفسية

أبو جرة سلطاني
  • 1065
  • 0
ثلث قرن على انتفاضة 05 أكتوبر 88.. قراءة في تركيبتنا النّفسية

كنت شاهدا على انتفاضة 05 أكتوبر 88، وعرفت كثيرا من أسرارها، ولا أرى فائدة من العودة إلى ذكر الأسباب التي أدت إلى اندلاعها، فقد عالجتها في كتاب حمل عنوان “الجزائر الجديدة”، ولكن من المفيد التّذكير بأربع حقائق جوهرية كانت- في نظري- القطرات الأخيرة التي أفاضت كأس الغضب الشعبي:

1- الاختلافات الحادّة بين مكوّنات الحزب الواحد قبيل انعقاد المؤتمر السّادس (الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين)، وتنامي أخبارها.

2- السّقوط الحر لأسعار النّفط بين 1986 و88 من 64 دولارا للبرميل إلى حدود 18دولارا، وتهاوي شعار “من أجل حياة أفضل”، وانكشاف مستور النظام الحاكم.

3- غلاء المعيشة وتدهور القدرة الشّرائية للمواطن وندرة كثير من المواد ذات الاستهلاك الواسع (زيت، سكر، طماطم، بقوليّات.. ) بعد تكدّس كماليات كانت تستورد بالعملة الصعبة كالموز والكيوي…

4- بروز خطاب مسجديّ حادّ لكثير من الأئمة المتطوّعين (في مسمّى الإسلام السيّاسي) لمواجهة تسيّب مجتمعي واسع في غياب هيبة الدولة، وظهور ملامح صدام وشيك بين اليمين واليسار.

اختلفنا -بعد التّصحيح الثوري- في تحديد الخيارات الكبرى، وتنازعنا بعد انتفاضة 05 أكتوبر 88 في تحديد وجهتنا، ولم نحسم معركة الهويّة إلا على مستوى الورق، ومثال ذلك في دستور 1963 مكتوب: اللغة العربية هي اللغة الرّسمية على أن يتم التعامل مؤقتا باللغة الفرنسية! وبعد 60 عاما مازال المؤقّت هو الرّسمي والعربية غريبة في عقر دارها، وهذا مثال واحد من سبعين مثالا وأكثر.

اجتماع هذه العوامل وغيرها كثير أعطى لصنّاع القرار وقتذاك فرصة لمعاقبة نظام الرّئيس بن جديد رحمه الله بجزء من حواشيه سعيا للتّخلص منه، لكن الذي حدث أن الرئيس بن جديد عاقب المارقين عن نظامه بتحريض الشعب عليهم في خطاب ناري ارتجله بالدّارجة الجزائرية يوم 19 سبتمبر 88، أوقد به شرارة الانتفاضة فاندلعت بمصنع رويبة يوم 04 أكتوبر 88 وتحولت الجمرة إلى ثورة روّج لها اليسار في الجامعات وفي جل ولايات الوطن، فلما كان يوم الجمعة 07 أكتوبر أخذ أئمة المساجد زمام المبادرة وانتزعوا مشعل الانتفاضة من أيدي اليساريين وقادوا ثورة الشارع بشعارات إسلامية مدويّة فرضت على الرئيس بن جديد الخروج من مخبئه ليلة 10 أكتوبر ليتوجّه بخطاب عاطفي إلى الأمة أعلن فيه عن حزمة من الإصلاحات الواسعة منها تعديل الدستور والانتقال من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، فكان دستور 23 فبراير 89.. ولكن “مخلفات الاستعمار” التفّت على إصلاحات الرئيس وتمّ تمييعها بانتقال طفراوي من ثقافة الواجهة إلى ثقافة المواجهة التي أفضت إلى ما سّمي “المأساة الوطنية” وتلك قصّة أخرى.

كيف نقرأ ملامح شخصيتنا في مرآة التاريخ؟

ورث جيل الاستقلال خللا هيكليّا في تركيبته النّفسية أحدثت تناقضا في النّسيج لاجتماعي للمجتمع الجزائري كان سببا في ما نحن فيه من مآسي، ولن نتمكن من بناء “المشروع النوفمبري” حتى نبادر بإصلاح هذا الخلل النّفسي فينا ونعيد الانسجام الواجب بين هويتنا ومنظومتنا الوطنية بالتحرّر الكامل مما زرعه المكر الاستدماري في عقولنا على مدار 132 سنة؛ فجراد المحتلّ لم يرحل من وطننا سنة 1962إلا بعد أن فقّس بيضه في منظومتنا الثقافية فأنتج أقلية نافذة تتحكم في رقاب أغلبية رافضة. هذا هو التناقض الذي تجب معالجته قبل الحديث عن أي إصلاح.

أقلية نافذة مصرّة على فرض “مشروع مجتمع” ولاؤه لـ”الكولون”، وأكثريّة رافضة لهذا المشروع وهي مصرّة على مقاومته بعقلية “البايلك” وكره كل نظام، والخاسر هو الوطن والدّين واللغة والتاريخ والمواطن الجزائري الأصيل، والسبب هو الخلل الموجود في تركيبتنا النفسية وفي نسيجنا الاجتماعي.

وبسبب هذا الخلل اختلفنا في مؤتمر الصومام، واختلفنا فجر الاستقلال حول تصوّرنا لبناء دولة بين موسكو وواشنطن وباريس وكوبا.. واختلفنا -بعد التّصحيح الثوري- في تحديد الخيارات الكبرى، وتنازعنا بعد انتفاضة 05 أكتوبر 88 في تحديد وجهتنا، ولم نحسم معركة الهويّة إلا على مستوى الورق، ومثال ذلك في دستور 1963 مكتوب: اللغة العربية هي اللغة الرّسمية على أن يتم التعامل مؤقتا باللغة الفرنسية! وبعد 60 عاما مازال المؤقّت هو الرّسمي والعربية غريبة في عقر دارها، وهذا مثال واحد من سبعين مثالا وأكثر.

بسبب هذا الخلل نشأ تبادل احتقار بين الشعب وإدارته وثقافته.. فتأخرت التنمية وضاعت مصالح المواطنين، وبقينا نراوح في نفس المكان، والذين حاولوا إصلاح هذا الخلل استخدموا أساليب غير مناسبة قبل تشخيص حقيقة دائنا، فأخفقنا في علاجه وفي تحديد قسمات “الوجه الحقيقي” لمجتمعنا عندما فسّرناها بظاهر الوضع الاجتماعي وغفلنا عن خلفيتها الثقافية وعن عمقها التاريخي المطمور في عناصر هويتنا وانتمائنا الحضاري، فارتسمت فينا تضاريس لا تمثل حقيقة شخصيتين كونها أصباغا طارئة على وجوهنا بما عانيناه من ليل الاستدمار، يمكن تلخيصها في العناوين العشرة الآتيّة:

1- دماء الثورة مازالت تصرخ في عروق كل جزائري، فلا يرى سبيلا لحلّ مشكلاته وفضّ نزاعاته سوى طريق القوّة، فهو متحفّزٌ دائما للصراع.

2- لا يساوم على حبّه للإسلام، حتّى لو لم يكن ملتزما به، وإذا نوديّ باسم الدين انتفض وأجاب.

3- يكره أي نظام قائم ويراه امتدادا لـ”الكولون”، ووجها للبيروقراطية و”الحقرة”، فكل نظام عنده “حقار” وظالم ومستبد وبعيد عن هموم المواطن.

4- متطرّف في حبّه وفي بغضه، فلا يرى إلا السّواد القاتم أو البياض الناصع، والناس عنده صنفان: ملك كريم أو شيطان رجيم، والتوسّط معدوم.

5- صبورٌ على الظلم، كتومٌ لما في نفسه، فإذا ثار صفّى حسابه مع الظالمين في وقتٍ وجيز، فألغى الموجود ولكنه لا يستمرّ في البحث عن المفقود.

6- عنيدٌ مع من يعانده، فلا يعمل ولا يتحرّك إلا إذا سبقه المسؤول للعمل والحركة، وكان له قدوة.

7- يكره من يقف على الحياد، ولا يستسلم للقويّ، ويتفاعل مع من يقوده إلى التّغيير، حتى لو جرّه إلى مواقع الصّدام والموت.

8- ثقافته سطحية (شعبية) فيها طيبة وبساطة تجعله يكره التّعقيد، ولا يناصر النّخب، ويقف مع البطولة الكاريزميّة، ويهبّ عند الملمّات.

9- النزاعات العرقيّة واللغوية والجهوية ليست متأصلة فيه، وإنما هي مفروضة عليه من النخب المستغربة لمصالح ضيّقة، لذلك لا يستجيب لها ولا يناصرها.

10- عقليّته سريعة الانفعال ولكنه رجّاع إلى الحقّ، وذاكرته الجماعية خاضعة لصناعة الجماهير لكن بخلفيات تاريخية.

وفي الخلاصة نقرّر: أن أسوأ ما ورثه العقل الباطن للجزائري عن الاستعمار ثلاث سلبيات: التوجّس من المسؤول، والبيروقراطية في التعامل، وكره كل نظام بالتركيز على سلبياته ومبادلته مشاعر الحقد والتّباعد، لذلك في عقل كل مواطن “دولة” وفي نفسه حلم بميلاد بطل أسطوري، إذا سقط أو تراجع أو خذله أسقطه سيكولوجيا ووضعه على رفّ التاريخ، وبحث عن بطل جديد.

تلك هي المفاتيح العشرة التي يمكن استخدامها لتفكيك عقدة الأغلبية الرافضة في مواجهة الأقلية النافذة لمن يفكر جديا في تقديم خدمة هادئة للوطن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!