-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قصتي مع “الدكتور”

التهامي مجوري
  • 1549
  • 11
قصتي مع “الدكتور”

الألقاب العلمية: دكتور، بروفيسور، أستاذ، تعبر عن مستوى علمي معين، يكشف عن اختزال لتجربة علمية طويلة آخرها الدكتوراه أو البروفيسورا أو الأستذة..، وقد سكن في عقول الناس أن هذه العناوين تعبر عن مستويات عليا في الفهم والوعي والعلم والإحاطة بالكائنات؛ لأن المفترض في ذلك حقيقة هو هذا الذي سكن في عقول الناس، ولكن الحقيقة ليست بالضرورة كذلك؛ لأن المعتبر الحقيقي في ذلك هو مستوى الشخص نفسه، هل امتلك حقيقةً المستوى المطلوب والمطابق للشهادة التي يحملها؟ أم أن شهادته لا تمثل إلا شاهد زور على حاملها؟
وأنا في حياتي لم أتشرف بالتعرف على هذه الشهادة أو هذا اللقب العلمي؛ لأن وضعي الاجتماعي لم يسمح لي بمواصلة تعليمي، حيث عشت في أسرة فقيرة جدا لا تملك قوت أسبوعها..، وعشت أقل من عقدين من عمري في قرية يعد أغنياؤها على أصبع اليد الواحدة، ولم أتمكن من التحصيل العلمي إلا القدر الذي مكنني من الحصول على شهادة تؤهلني لمنصب في المحاسبة…، ومنذ بلوغي السن الثامنة عشر، وأنا عامل –بعد مغادرتي البلدة- إلى اليوم، باستثناء سنتين أو ثلاث قضيتها في دمشق، كانت لطلب العلم –غير نظامي-.. ودخلت عالم الصحافة والكتابة والمحاضرة من باب الاهتمام بالشأن العام، وليس بواصلة التحصيل الدراسي والحصول على الشهادات.
لا شك أن من كان مساره في هذا الاتجاه، تحدثه نفسه بالشهادات وكيفية الحصول عليها.. فيفكر في إتمام الدراسة حينا، ويبحث عن المؤسسات العلمية التي تختصر له الطريق حينا آخر، لا سيما عندما يكون المرء عاملا ويريد مواصلة التعليم…؛ بل إنني لما كنت في دمشق وكان عمري يومها 22 سنة، وكنت قد قطعت شوطا في قراءة الكتب ومناقشات الأقران، حيث كنت ولا زلت أحب الكتاب كحب والديَّ وأبنائي، قد فكرت في “شراء” شهادة ليسانس في العلوم الإنسانية، حيث كانت تباع يومها في لبنان بألفي ليرة لبنانية إن لم تخني الذاكرة، لألتحق بالجامعة وأواصل تعليمي لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه..، ولكني سرعان ما أحجمت عن الموضوع؛ لأنني كنت أستحضر صورا من السرقات العلمية والأدبية والشهادات المزورة التي كنت أقرأ عنها في المعارك الأدبية، التي كانت في مصر والعراق والشام…إلخ، ولكن نفسي كانت تقول لي إن العبرة بالكم الأدبي والفكري والثقافي الذي تملكه… فأنت ما شاء الله قرأت كثيرا من الكتب وتحسن القراءة والفهم والتعبير…، وتعرف الكثير من الأمور التي لا يحلم بها طلبة الجامعات… ولا يعجزك مواصلة طلب العلم انطلاقا من “الليسانس المزور”، ولكن مجرد منطق التزوير لم يسمح لي بخوض التجربة، وعزمت على ألا أفكر في الشهادة أبدا…؛ لأني وضعي الاجتماعي لا يسمح لي بذلك، والحصول على الشهادة بواسطة التزوير مرفوض، والمهم الذي أركز عليه هو أن أكون كاتبا، معتمدا على طريقتي العصامية في التحصيل بكثرة المطالعة، والمشاركة في الأنشطة الثقافية والعلمية والفكرية وكفى… وهذا وحده يكفيني في المساهمة في الحراك السياسي والثقافي والعلمي.
ولما تقدم بي العمر وكثرت مشاركاتي الثقافية والإعلامية تحديدا، أصبح الكثير من الإخوة الزملاء يقدموني في المناسبات الثقافية والإعلامية كمحاضر أو ضيف في حصة إعلامية أو مشارك في حدث ما، على أنني دكتور… وأنا لست دكتورا، وكان ذلك يحرجني كثيرا لأنني أقدم بعنوان لا أملكه، فمن ناحية إذا ذكر اللقب ولم أعلق عليه أشعر بأن سكوتي يتحول إلى انتحال عنوان لست له أو هو ليس لي، وإذا تكلمت سأحرج الذي يقدمني، لأنه سوف يظهر أمام الناس متابعين ومشاهدين ومستمعين أنه قد استضاف شخصا لا يعرفه.. وفي كل ذلك عيب لا يليق بي ولا بمن يستضيفني، ومع ذلك يصر البعض على ذكر هذه الصفة.
فقد كنت أعلق مباشرة بعد البسملة وتحية المشاهدين والمستمعين والمتابعين على كل من يحملني هذه الصفة بقولي لست دكتورا..، ولكنني تعبت من التعليق، لا سيما أن البعض عندما أنبهه إلى ذلك يقول لي “معليش”..؛ بل لاحظت أن البعض ينزعج من تعليقي، فأمسكت ورحت أتتبع هذه المشكلة، إلى أن أصبحت القضية عبارة عن قصة لها امتداداتها في العلاقات بيني وبين الناس خاصة مع الذين لم تكن لي بهم معرفة سابقة. وما لاحظته أن الجميع كان رهينة الوضع السائد وهو أن المعتبر هو الشهادة، في حين أن العالم قد تحول واتجه إلى اعتبار الخبرة والكفاءة قبل النظر في الشهادة؛ بل في بعض الجامعات في امريكا واستراليا يمكن للمرء أن يسجل في الجامعة بملأ استمارة باختيار أي مستوى يريد…
ففي سنة 2012 كنت في الحج في ضيافة رابطة العالم الإسلامي، وبحكم وجودي في مقر الرابطة طيلة شهر كامل، وكان المقر يعج بالأنشطة، طُلب مني إن أشارك بمحاضرة، فشاركت بما فتح الله علي، وأحسب أن المحاضرة كانت ناجحة؛ لأن التهاني التي استقبلتها في تلك الأيام كانت مطمئنة، وفي اليوم الموالي جاءني أستاذ سوري من الرابطة وسلمني استمارة وقال لي إننا نحضر لإنشاء هيئة علماء ويسرنا أن تكون معنا..، فاستلمت الاستمارة وقرأتها فلاحظت أنها تنطوي على الكثير من الأمور الشكلية: الشهادات.. الإنتماء إلى الجامعات… الإصدارات..إلخ. والأمور الشكلية في الحقيقة تصلح كأدلة على نشاط الشخص، ولكنها في تقديري ليست كل شيء، ولاحظت على صاحبي أنه خلال ثلاثة أيام كلما رآني سألني عن الاستمارة..، ولكن عندما فاجأتها أنني لست دكتورا وليس لي شهادات وإنما أنا عصامي.. قال لي إملأ الاستمارة ثم ننظر… واختفى الرجل ولم يعد يسألني عن الاستمارة، إلى أن سلمتها له من غير أن يطلبها مني.. بناء على طلبه السابق.
ومشهد ثاني، لاحظت أن البعض ممن يستضيفني يعجب بطروحاتي ولكنه يريد أن يقدمني على أنني دكتور؛ لأن الفكرة التي أعجب بها بالنسبة إليه تحتاج إلى وعاء، ووعاؤها الشهادة، فيريد أن يفخر على مسؤوليه ومتابعيه بالدكتور وليس بالمثقف أو المفكر أو الأديب أو المحلل أو الناقد…إلخ.
مشهد ثالث، بعض الناس يريدون أن يخدموني عندما يقدموني بهذا العنوان، ورغم أنهم من حيث المبدأ لا يعيرون اهتماما كبيرا للشهادات؛ لأن طبيعة نشاطاتهم –الاهتمام بالشأن العام- لا تتطلب الشهادات بقدر ما تحتاج إلى تنشيط الحياة الثقافية والسياسية بالأفكار الناضجة، ولكن الواقع كما يعتقدون، يفرض عليهم أن يقدموا الناس في قوالب معلومة، فالدكتور مفترض فيه أن سيقدم إضافات للناس، فيتجاوبون معها لأنها صادرة عن دكتور.
هذه الملاحظات الثلاث لاحظتها -وهي تعبر عن نفسها- وأنا أتعامل مع الواقع في نشاطاتي الثقافية والعلمية، وهي مُقدَّرة ومحترمة أو على الأقل أتفهمها، ولكن أخلاقي لا تسمح لي بقبولها؛ لأنها ليست حقيقة، وغير الحقيقة لا تكون إلا كذبا.
لا شك أنني لو كان لي من الوقت والقدرة والحاجة الملحة، ما يدفع بي إلى طلب الشهادة، لحرصت عليها وعلى تحصيلها، ولكن ما دمت لا أشعر بنقص وأنا والحمد لله أقوم بواجبي كمثقف ومطمئن، أو على الأقل لا أشعر بتأنيب ضمير في القيام بالواجب..، لا يضيرني فقداني للدكتوراه.
صحيح أن نفسي تحدثني أحيانا بأنني محروم من دخول الجامعة والالتقاء بالطلبة؛ لأن الطلبة هم المادة الخام لكل حراك اجتماعي ثقافي سياسي، وربما هذا الشعور هو الوحيد الذي لم أستطع التغلب عليه إلى اليوم.، ومع ذلك فإن الطالب يمكن الوصول إليه بأكثر من طريق، ومنها طريق مواقع التواصل الاجتماعي التي يعج بها عالم الاتصال الجديد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
11
  • الدكتور أحمد بلقاسم مجيد

    بارك الله فيك استاذنا الفاضل، يعلم الله اننا نستفيد منكم ومن علمكم العزير والمامكم بما يدور من حولنا, هذه شهادة من دكتور في العلوم والتكنولوجيا لكم بالخير المدر على اهل هذه البلاد، فبارك الله فيك وادامك علينا ذخرا.

  • الدكتور محمد .. تلميذ سي التهامي

    السلام عليكم، شيخنا الكريم، و أستاذنا العزيز، سي التهامي، ..
    القراء الكرام، سي التهامي مكتبة متنقلة، تبارك الرحمان .. تعلمت على يديه اجيال، و انا منهم، في الغرب حاليا، إذا طلبت الشغل في عمل معين، لا يطلبون منك الشهادة مباشرة ، بل يطلبون منك ان تترك شهاداتك في مدخل الباب، و تريهم ماذا تستطيع فعله، .. عباقرة السياسة و العمل النقابي اليوم مثلا في الغرب، يطلب منهم " الذكاء الاجتماعي"، كيف توجه قطيع من البشر ليتبعوك، ..
    انا اقترح على المؤسسات الجامعية، و المعاهد الخاصة منحك شهادة فخرية لتخرج مما انت فيه، مثل ما هو متداول في الغرب، " اونوريس كوزا" .. وجزاك الله خيرا عن ما قدمته للامة.

  • سليم عبدالسلام

    انا استاذ بالجامعة منذ 20سنة..اتممت رسالة الدكتراه..سلمتها..و رفضت مناقشتها من اجل لقب دكتور..هناك نماذج وضيعة تتبجح بالالقاب العلمية وهم كالقصب الفارغ ..اضافة الى الانحطاط العلمي و الاخلاقي و الموبقات المتفشية بين اسوار الجامعة..اشعر ان الجامعة لطخت كرامتنا اخي التهامي و اخي الطيب..موفق ان شاء الله

  • جلال

    عدم توفر الوسائل والإمكانات المؤدية إلي نقل العلوم والتكنولوجيا من المراجع اللازمة والنشريات والدوريات العلمية المتخصصة وخلق مناخ علمي وتحفيز الشباب علي البحث والدراسة والتنقيب ووجود مخابر وتجهيزها فقط نريد تقنية دون توفير الشروط الموضوعية والمادية لذلك إن النهوض بمستوي الأمة يتطلب وضع خطة علمية مدروسة وفق منهج بيداغوجي وفلسفي متدرج يراعي الظروف الموضوعية والسيكولوجية واللغوية والمقومات الحضارية والعقادية والسلوكية للأفراد .إن مثقفينا اليوم مع الأسف ليسوا هم من يقود التحولات الاجتماعيةلا يعبرون إلا عن أراء وليست لهم أفكار ولا نعتقد أن لهم أفكارا إنهم يخونون أعظم موهبة فيهم : الفكر والحرية

  • جلال

    إن الكلام عن العلم عندنا يعتبر من قبيل السخرية واللغو واللعب فان شغلنا الشاغل هو كرة القدم وتحضير المواسم الكروية والرعاية العلمية للشباب في مسابقات الحان وشباب ورصد الجوائز للمتفوقين في بحوث الرأي وتشجيع مهرجانات الرقص وإقامة الحفلات الصاخبة وتهميش الشباب وتميعه وتخديره ونشر الانحلال الأخلاقي والسلوكي بين أفراده وغيرها من الأمور التافهة وإضاعة المبالغ في أشياء منحطة انحطاط القائمين عليها ثقافيا
    وكمثال علي الجهل بالعملية العلمية ككل هو تصريحات بعض القائمين علي العملية العلمية في هذا المجال وتركيزهم علي الجانب العلمي ونقل التكنولوجيا ولكن الملاحظ في الميدان عدم توفر الوسائل والإمكانات المؤدية

  • جلال

    لقد اعتاد الناس عندنا الربط بين الشهادة والثقافة مع أن ما بينهما فرق ساشع ذلك لان الدراسة في البلدان المتخلفة تعتبر نهاية وإعطاء الامتحانات قيمة اكبر من قدرها بانتهائها يتوقف النشاط العقلي للإنسان فليس هناك من فلسفة من ورائها في الموقف الكامل من الحياة ومن الأهداف القريبة والبعيدة .هناك من تخرج من الجامعات أكثر أمية وجهلا من الأمي الحقيقي بلا تربية وسلوك خلقي وحضاري ينم علي انه تعلم في المدارس, إنسان متشدق مكابر ومتكبر يصر علي انه مثقف ويدعي العلم والمعرفة وهو فارغ كالطبل الأجوف إن محاولة إقناعه بفراغه الثقافي وجهله المطبق لما يدور في العالم لأمر صعب فكيف تقنع شخصا يحمل شهادة جامعية

  • الأندلسي محمد

    السلام عليكم أخي العزيز . أنا جامعي، وأحاضر في الجامعة منذ 37 عاما، ولست دكتورا...ولا يهمني أن أكون دكتورا. تخيل معي أن أحدهم يأتي بنظرية جديدة ... أو يبدع أو يخترع فكرة أو شيئا في غاية الأهمية، فهل يضاهيه دكتور " قد الدنيا" كما يقول إخواننا في مصر؟؟؟ أنا أعرف الجامعة وكواليسها وحيثياتها، ولا تغرني الشهادات ..." الصح" هو ما يأتي به الشخص من جديد...لا الألقاب العلمية.... فكم من حامل دكتوراه لا يفقه في العلم ولا في الثقافة...ولا السياسة. تحياتي وسلامي الحار...

  • محمد

    شكراااا

  • الطيب

    تحية خاصة لأستاذنا الفاضل تهامي ...فيها خير .

  • الطيب برغوث

    السلام عليكم اخي سي التوهامي. لقد عرفتك منذ ما يزيد عن اربعة عقود من الزمن فرايت فيك انسانا مثقفا حقا، وان كانت ظروفك لم تسمح لك بالدراسات الجامعية العليا فاني اشهد انني تعلمت وما زلت اتعلم منك كثيرا . فجزاك الله خيرا وزادك علما وتواضعا .
    واخوك الطيب. ب

  • السلام عليكم

    بما انك لاتملك شهادات فان طلبة الجامعات لايعتبرونك قدوتهم ماداموا يسعون لتحصيل هذه الشهادات
    كن قدوة لغير الجامعيين بل لغير المتمدرسين ممن لفظتهم المدرسة في نعومة اظفارهم وساعدهم ليكونوا مثلك ولاتنسى الشباب الضائع فهو يحتاجك اكثر من طالب الجامعة ..ان انقاذ شاب واحد من الانحراف ومن النار يوم القيامة افضل من جميع الشهادات ...ستموت يااستاذ تهامي ويموت اصحاب الشهادات لن يدفن معكم الا العلم الذي في صدوركم والعمل بمقتضاه
    اشكرك لانك اهملت الالقاب الدنيوية (دكتور بروفسور ) ولكنك حصلت القاب الاخرة (داعية مصلح مربي معلم ناصح ....) فكم من شاب دخل الجامعة جاهلا متواضعا وتخرج منها جاهلا مغرورا