-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مكسبُ الحرّية مقدّمٌ على تطبيق الشريعة

ناصر حمدادوش
  • 2418
  • 0
مكسبُ الحرّية مقدّمٌ على تطبيق الشريعة
ح.م

تعدُّ الحرّيةُ قوةً غريزيةً ونزعةً فطريةً متأصّلةً في الإنسان ابتداءً، وهي مَن تعبّر عن الإرادة الذّاتية والطاقة العقلية والقوّة السّلوكية له، إذْ أنّ الله تعالى خلق العقل للإنسان ووهَبَه القدرة ومنحه الإرادة وأكرمه بالاختيار تكريمًا نوعيًّا واستعلاءً خِلْقيًّا عن غيره، وهو ما يؤكّد على البُعد المقاصدي لمركزيّة الإنسان في هذا الكون وِفق التصوّر الإسلامي. وما حركة الإنسان في الحياة وصناعته التاريخ إلا أثرٌ من آثار تمتّعه بالحرّية، وإطلاقٌ لإمْكَاناته النّفسية والعقلية والبدنية من أجل العمل والتضحية والإنتاج والإنجاز وصناعة النّهضة وبناء الحضارة.

فالحرّية هي قدَرُ الإنسان الذي يميّزه تمييزًا استثنائيًّا عن سائر المخلوقات، فهي ليست مجردَ إباحةٍ مطلقة، بل هي وعيٌّ وإرادةٌ واختيارٌ ومسؤوليةٌ وأمانة، وهي محور العدل وأساس التكليف وعلامة التكريم الرّباني للنوع الإنساني. إنّ مفهوم الحرّية من أكثر المفاهيم التباسًا ومن أعمقها إرباكًا للفكر الإنساني، وهي تحتلّ مركز الصّدارة في الفكر السّياسي المعاصر، ولا يزال حُلْمُ “الحرّية” من أهمّ المطالب الأساسية للشّعوب في ثوراتها ضدّ الفساد والاستبداد، وهي تتطلّع إلى تطبيقاتها على مستوى الحرّيات الدّينية والسياسية والفكرية. ولقد أثبت الفقهُ السّياسي الإسلامي الرّصِين أنّ مكسب الحرّية مقدّمٌ على تطبيق الشريعة، وأنّ قيم الإسلام لا تنبُت إلا في تربة الحرّية، فالسّيادة على الأرض هي مَن تضمن إقامة الدّين، كما قال تعالى: “الذين إن مكنّاهم في الأرض أقامُوا الصّلاة وأتَوُا الزّكاة، وأمرُوا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور.” (الحج: 41). وأنّ الفقه الجزئي، المشَبّع بالأدلة الظاهرية والشّحنات اللفظية التاريخية، والمسجون في السياقات المكانية والزّمانية التقليدية، بمثل مقولات الخضوع المطلق لوُلاّة الأمور وعدم الخروج على الحكّام غيّب المضمون التحرّري في الفقه السّياسي الإسلامي. إلاّ أنّ استقراء الأحكام الشّرعية والاستدلالات النصّية عليها، نجد أنّ الحرّية هي مقصدٌ من مقاصد الشّريعة، تفسيرًا وتعليلاً وتساوُقًا مع التصوّر التطوّري للشريعة عند الغوْص في أسرَار أحكامها. بل إنّها متماهيةٌ مع مقاصد الشريعة الخمسة الأخرى، وهي: حفظ الدّين والنّفس والعقل والمال والنّسل، بما يرتقي بها في القوّة التشريعية إلى الصّبغة التعبّدية والصّيغة القانونية الملزِمة، وأنّ جوهر الدّين وحقيقة التوحيد جاءت لتحرير إرادة وضمير الإنسان، ولإعلان الحرب على كلِّ أشكال العبودية. ومن تقديس الإسلام لحرّية الإنسان أنه ذكّر بها كحقٍّ أصيلٍ ومرافقٍ له منذ ولادته، مثلما قال سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا)، إذ أنّ الفطرة هي أهمُّ مدخلٍ من مداخل التأصيل والتقعيد لهذا الحقّ المقدّس، كما قال تعالى: “فطرة الله التي فطر النّاس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدّين القيّم..” (الرّوم: 30)، وجعل الله تعالى من أهمّ وظائف الأنبياء ومن أخصِّ خصائص التشريع الإسلامي هي تحرير الإنسان، كما قال عن سيِّدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “.. ويضَع عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم..” (الأعراف: 157)، لتصبح الحرّية أصلاً من أصول الإسلام، وقيمةً وُجودية ملازِمة للدّين والإنسان. ومن اللّمسات الإنسانية الجميلة في التشريعات ذات الحُمُولات التحرّرية والأحكام التي ترعى مقصد الحرّية، تلك القاعدة الأصولية في “الإباحة” في تقعيد علمائنا لها بقولهم: (الأصل في الأشياء الإباحة)، وهي المساحة الأوسع في الشريعة الإسلامية، مقارنةً مع: الواجب أو المستحبّ أو المكروه أو الحرام، والتي تعني: التخيير والحرّية بين الفعل والترْك. كما انحازت تشريعاتٌ تعبّدية إلى النّزعة التحريرية للإنسان، مثل: إلزام صاحب السّلطة السياسية – وبالبُعد التعبّدي المقاصدي- بصرف ركنٍ من أركان الإسلام وهو: الزكاة في مصرفيْن من مصارفها الثمانية المذكورة في الآية: 60 من سورة التوبة، وهما:

“الغارمين” كنوعٍ من التحرير المالي للإنسان من ذُلِّ الدَّيون، و”في الرِّقاب” (وهم العبيد والأسرَى والمختَطَفين) لتحريرهم بأموال الزّكاة، وكذا الحرب على ظاهرة الرّق، والتي تفقِدُ الإنسان الحرّية في التصرّف في: نفسه وماله وعمله وجميع أحواله، وهي الظّاهرة القديمة المتجدّدة بأشكالٍ مختلفة، فنجد أنّ من كفارة: اليمين والظِّهار والقتل الخطأ وانتهاك حرمة رمضان: تحرير رقبة، أي إخراجه من مظهر الممات بالعبودية إلى مظهر الحياة بالحرّية، لارتباط الحقّ في الحياة بالحقّ في الحرّية، كما يقول “ابن باديس” عليه رحمة الله: (إنّ حقّ الإنسان في الحرّية كحقّه في الحياة..). ومن أظهر الأحكام الشرعية في الدّفاع عن مقصد الحرّية: تحريمُ كلِّ أشكال الإكراه السّالب للحرّية والإرادة والاختيار، ابتداءً من الإكراه على التعبّد أو الإكراه على الدّخول في الدّين، كما قال تعالى: “لا إكراه في الدّين..”(البقرة: 257)، إلى رفع الحرَج عن المُكرَه وتخفيف الأحكام عنه، فقال تعالى عمّن أُكرِه عن الكفر: “.. إلا مَن أُكرِه وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان..” (النّحل: 106). وإذا كانت الحرّية من الألفاظ الجميلة ومن المعاني الآسِرة ومن القيم السياسية المعشوقة فإنّه لا يمكن التسليم بمقولة الحرّية المطلقة، وأنّ سقف الحرّية يجب أن يكون مفتوحًا بلا حدود، مثل الإباحية المطلقة التي أغرَقت الغرب، فيدّعي البعضُ بأنّ أحكام الشريعة الإسلامية جاءت لتقييد حرّية الإنسان بأحكام الحلال والحرام، مع أنّ هذا الغرب لا يتمتع بها بكلِّ تلك الإطلاقية الظّاهرة، فهو -كذلك- يخضع إلى الدساتير والقوانين والأعراف والتقاليد والمبادئ الدّينية والقيم المجتمعية والخصوصية الثقافية، وهي لا تقِلُّ عن أحكام الشّريعة في التقييد الظاهري للحرّية، إذ لا توجدُ حرّيةٌ مطلقةٌ في هذا الوجود، للتلازمِ بين الحرّية والمسؤولية، وللتناغمِ بين الحقّ والواجب، وللصّداقة بين الحرّية والاحترام، وللتوازن بين الحرّية الفردية والجماعية، وبين الحقوق الخاصّة والعامّة، وبين تقدير المصلحة الدّنيوية والأخروية، وللاختلاف في مفهوم:

المصلحة والمفسدة، والخير والشرّ، واللّذة والألم. وهو ما يجعل مفهوم الحرّية أوسع من مجرد حصرها في الحرّية الفردية أو الدنيوية، كما يريد الغرب تسويقها ضمن النّزعة الفردانية، وقد قيل: (حرّيتُك تنتهي عند بداية حرّية الآخرين.). وقد تتعارض الحرّية الفردية مع حرّية الآخرين، أو مع الآداب العامّة، أو مع قواعد السّلوك، أو مع أعراف وتقاليد المجتمع، أو مع أحكام الشريعة وقوانين الدولة، وهو ما يقيّدها ويحدّ من التمتّع بها. وهي -في الحقيقةِ- ليست اعتداءً على حرّية الإنسان وتقييدًا له، بل هي عيْنُ مصلحته، إذْ أنّ الحرّية والمصلحة تتوزّعان على الجميع، وليست حِكْرًا على البعض دون الآخر، ما دُمنا نعيش ضمن هذا الاجتماع البشري، وأنّ الشّعور بلذّة الحرّية هي عندما نتشارك بها مع الغير، وليس عندما يحتكرها البعض. لقد اعتبر الإسلامُ النّضالَ من أجل الحرّيات، والوقوف في وجه الظّلم والاستبداد من أرقى وأعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “أعظم الجهاد كلمةُ حقٍّ أمام سلطانٍ جائر”، واعتبر تضييع واجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر – وأخطره السّكوت عن المنكر العامّ- علامةٌ من علامات الموت باغتيال الحرّيات، والتي هي محرابُ حياةِ الثوابت والقيم، وهو ما يستوجب تعميم العقوبة الإلهية على الجميع، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “إذا رأيت أمّتي تهابُ أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُودِّع منهم”، وقال عن معركة الحرّيات ووجوب الإصلاح الجماعي، والذي لا يشفع لنا في غيابهما مجردُ “الصّلاح الفردي” في النّجاة من العقاب الرّباني: “لتأمُرُنّ بالمعروف، ولتنهَوُنّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يعُمّكم بعقابٍ من عنده، ثم تدعونه (يعني: كصالحين) فأنّا يُستجابُ لكم.”، وأنّه لا مستقبل لأيِّ مشروعٍ سياسيٍّ نهضويٍّ -ولو كانت مرجعيتُه إسلاميةً- إلاّ في أجواءِ الحرّية والدّيمقراطية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!