-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا يحقِّق الاقتصاد الذكي الريادة للجزائر

د. عمر هارون
  • 1108
  • 0
هكذا يحقِّق الاقتصاد الذكي الريادة للجزائر

يُبنى الاقتصاد على محاولة الموازنة بين الحاجات المتجددة المتنوعة والمتزايدة للإنسان مقابل الموارد النادرة نسبيا في الطبيعة، هذه المقاربة جعلت البشر يبحثون عن كيفية تلبية ما يرغبون فيه بأجود الطرق وأرخص التكاليف وأسرع الطرق، وهذا ما أدى بالبشر للوصول إلى الثورة الصناعية والتي بدأت في النصف الثاني من القرن الـ16 لتكون المكنة الحل الأمثل لتقديم حلول عملية للبشرية من أجل تلبية حاجياتها.

العودة إلى الأساس

وقد تزامنت هذه الثورة مع أفكار رائد الفكر الرأس مالي الاسكتلندي آدم سميث (1723-1790) الذي قاد عجلة تطوير الاقتصاديات العالمية في مختلف المجالات، وبوصول العالم لنهاية القرن 17 كنا أمام بداية التحول للتركيز على الجانب الجزئي من الاقتصاد، إذ تحوَّل الأفراد في المجتمع إلى منتجين أو مستهلكين وفق ما عرفتهم به نظرية التوازن، ومع ذلك لم تعط أهمية كبيرة في تلك المرحلة لدور المقاول رائد الأعمال في تطوير الاقتصاد بحكم أن الحاجات التقليدية وتلبيتها كانت مسيطرة على الأسواق، بالإضافة إلى أن تركيز أكبر الاقتصاديات العالمية في تلك الحقبة كان على توسيع أسواقها من خلال الغزو والاحتلال والذي كان يهدف أيضا إلى البحث عن الموارد النادرة في مناطق أخرى.

الاقتصاد الذكي والذي يعرَّف أيضا بـ”اقتصاد المستقبل” أو “الاقتصاد الرقمي” أو “اقتصاد المعرفة” يرتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة على امتلاك المعلومة وإدارتها، فقبل عقود كانت الشركات المسيطِرة هي التي تملك أكبر الأصول والاستثمارات العينية، أما اليوم فأكبر الشركات الفندقية لا تملك فندقا، وأكبر شركات النقل لا تملك أيَّ سيارة بل تملك المعلومة وتجيد استعمالها.

رغم هذا إلا أن الملاحظ هو أن شومبيتر (1883-1950)  قدّم أعمالا مهمة في مجال تعريف المقاول رائد الأعمال، فقد ميّزه عن البقية من خلال قدرته على كسر حالة التوازن بين العرض والطلب بما يقدِّمه من ابتكارات جديدة، وأساليب إنتاج حديثة أو أسواق جديدة، وأطلق على هذه الحالة “التدمير الخلاق”، إلا أن هذه الأفكار لم تلاقِ ما تستحقّ من اهتمام بسبب ما كان يعيشه العالم الغربي في تلك المرحلة من سيطرة المنطق العسكري في البحث عن أسواق جديدة وموارد نادرة.

إن الحربين العالميتين جعلتا الدول الكبرى تتخلى من جديد عن الفكر الجزئي، لتبحث عن التكتلات الاقتصادية الصناعية من أجل إعادة إعمار ما تم هدمه في الحربين اللتين دمّرتا العالم، خاصة الحرب العالمية الثانية، إذ أصبح العالم يؤمن أكثر بالشركات متعددة الجنسيات وقوتها المستمدة من حجمها المهول والذي منحها القدرة على الوصول إلى إغراق السوق بالسلع والخدمات التقليدية، وهو ما جعل الاقتصاد العالمي يصل إلى حالة الاستقرار بعد أن تعرَّض لأزمات كبيرة على غرار أزمة “الكساد الكبير” التي ضربت العالم في 1929.

الأزمات الاقتصادية التي ضربت العالم في سبعينيات القرن الماضي مع ظهور نظريات اقتصادية جديدة مبنية على ضرورة تخلي الدولة على دورها التدخُّلي وفسحِ المجال أكثر للمشاريع الصغيرة في تطوير الاقتصاد، خاصة بعد التحول في استراتيجيات الدول الكبرى لمفهوم الديمومة الذي ظهر من خلال أعمال روبرت سولو والذي جعل الدول الكبرى تتحول إلى استراتيجيات النمو الذكي المعتمدة أساسا على الإبداع الابتكار والتطوير خاصة بعد أن أصبح سوق المنتجات التقليدية يعرف تشبعا كبيرا لا مجال فيه لتحقيق أرباح جديدة.

العولمة وما بعدها

إن الثورة التقنية التي أحدثتها الأنترت واقتناع العديد من المنظرين الاقتصاديين بدور الأفكار الرائدة في تطوير الاقتصاد الذي أصبح يعيش حالة من الاستقرار على غرار كتاب ماكليلاند (1917-1998) حول المجتمع المنجز الذي أوضح العلاقة بين حاجة الدولة إلى الانجاز وتطوُّرها الاقتصادي ووصل إلى نتيجة مفادها أن نموّ اقتصاد الدول لا يحدث إلا بوجود المقاولين رواد الأعمال، وهو ما جعل بعض المفكّرين يؤكدون على تحول الرأس مالية من رأسمالية الشركات الكبرى إلى رأسمالية المقاولين روّاد الأعمال، وفي مقدمتها تجارب كتلك التي حدثت في سنغافورة، وتايوان، والصين، وهونغ كونغ.

واقع أدى بالعالم إلى التحول نحو التعليم المقاولاتي من خلال تخصيص برامج تدريبية وتكوينية للشباب الراغب في دخول عالم المقاولاتية، وحدث تطوير كبير لمناخ الأعمال الخاص بهذه المؤسسات يتكون على وجه الخصوص من حاضنات الأعمال ومسرِّعات الأعمال، بعد غرس الثقافة المقاولاتية من خلال التعليم المقاولاتي في أذهان النّاشئة.

الوطن العربي حاول مواكبة الموجة الحاصلة في العالم من خلال إنشاء الجمعية المصرية لحاضنات المشروعات الصغيرة خطة لإنشاء 30 حاضنة أعمال في 1995 أنشأ منها 15 حتى 2002 أما باقي الدول العربية فأغلبها كان مركِّزا حتى منتصف العشرية الأولى من القرن الجاري على المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

الجزائر والاقتصاد الذكي

هل الجزائر بحاجة إلى الاقتصاد الذكي؟ سؤالٌ تبادر إلى ذهن العديد من المتابعين غير المتخصصين. وحتى نبسِّط الأمور، فإن الاقتصاد الذكي والذي يعرَّف أيضا بـ”اقتصاد المستقبل” أو “الاقتصاد الرقمي” أو “اقتصاد المعرفة” يرتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة على امتلاك المعلومة وإدارتها، فقبل عقود كانت الشركات المسيطِرة هي التي تملك أكبر الأصول والاستثمارات العينية، أما اليوم فأكبر الشركات الفندقية لا تملك فندقا، وأكبر شركات النقل لا تملك أيَّ سيارة بل تملك المعلومة وتجيد استعمالها.

نحن بحاجة لقفزة

لا يمكن لأحد أن ينكر أن الأسلوب المتَّبع سابقا كان يتتبّع مسار الدول المتقدمة للوصول إلى ما وصلت إليه، وهذا المسار يكفل التطور دون الريادة، ولكن الحال اليوم يختلف تماما عن ما كان عليه الأمر قبل 50 سنة أو حتى 20 سنة؛ فالمعلومة أصبحت اليوم متاحة، والمبادئ العلمية أضحت معروفة، والفرق اليوم هو في كيفية استعمالها وتطويعها لمصلحة الوطن في التطور، وهو ما يجعلنا اليوم نطمح من خلال الاقتصاد الذكي إلى تحقيق قفزة تمكّننا من تبوء مكانتنا الحقيقية التي نستحقها من التوجه نحو تفعيل القدرة على تطبيق الإبداع والابتكار، فالعبرة ليست بعدد الاختراعات التي تحققها بل بقيمتها في تحقيق القفزة التي تطمح إليها، ولهذا فإن الدراسات تؤكد أن الشركات التي تسجل أكبر عدد من الابتكارات وتسجلها في المنصات الدولية ليست بالضرورة الأكثر تحقيقا للأرباح، وهو ما يجعلنا أمام منطق الذكاء الاقتصادي الذي يجعل العامل البشري الحجر الأساسي في توجيه دفة الاقتصاد لخلق أكبر قدر من القيمة المضافة بأقل جهد وتكلفة.

الجامعة في قلب التحدي

لم يعد أحدٌ يُنكر أهمية التوجُّه الجديد الذي أخذته الجامعة الجزائرية نحو العمل على توجيه نتائج البحث العلمي لخلق مؤسسات ناشئة وإبتكارية لتحقيق معادلة التوجُّه نحو الغد بأدوات علمية ومعرفية نابعة من المصدر الأول للمعرفة، والقرار الوزاري 1275 جاء ليرافق الجهود المبذولة في أعلى هرم الدولة من اقتحام اقتصاد الغد بأدوات قادرة على صناعة التميز وتحقيق الأهداف المرجوة، وها هي الجامعات الوطنية تسجل نحو 100 حاضنة أعمال وأكثر من 9 آلاف فكرة قابلة للتحويل إلى مؤسسة ناشئة أو براءة اختراع، واقع يؤكد أننا ندخل سنة 2023 بعزيمة وإرادة قادرة على تحقيق نتائج متميزة في الآجال القصيرة والمتوسطة.

 

هل تكفي الشركات الناشئة؟

إن الجهود المبذولة في الجزائر تشمل كل القطاعات ومختلف المجالات بداية بقطاع المحروقات وتخصيص سوناطراك  40 مليار دولار لتطوير بناها لغاية 2026، وصولا إلى العمل الذي يدور الآن حول تطوير مناخ الأعمال.

وقرارُ رئيس الجمهورية الأخير حول عدم تجاوز المدة الإدارية لإنشاء المؤسسات الشهر الواحد، يضاف لما اتُّخذ من قرارات على غرار تحسين الجانب المؤسساتي لمختلف الهيئات المرتبطة بإنشاء الشركات الكبرى في مختلف المجالات، ولعل المجال الميكانيكي أولها من خلال استحداث الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار وإلحاقها بالوزارة الأولى واستحداث منصة المستثمِر. توحيدُ وزارة المؤسسات الناشئة واقتصاد المعرفة مع المؤسسات المصغرة هو الآخر خطوة مهمة مع العمل على إعادة النظر في قانون النقد والقرض، وهي كلها خطوات عملاقة في إطار تطوير اقتصاد متكامل يعمل بشكل متزامن على ملفات تكتسي أهمية قصوى في تطوير الاقتصاد الوطني، لكن التفكير في الجزائر الجديدة يقتضي دوما التركيز على الاقتصاد الذكي والذي يضمن لنا القفزة التي نؤمن بإمكانية حدوثها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!