-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ابن باديس يسبق عصره! (1/2)

التهامي مجوري
  • 503
  • 0
ابن باديس يسبق عصره! (1/2)

منذ مدة طويلة أسرّ إليّ بعض الإخوان من حملة همِّ الحركة الإصلاحية، ومنهم على وجه الخصوص الأخوين العزيزين: “حسن خليفة ومحجوب برضوان”، من أنهم مُحرجون مما ينشر عن ابن باديس من مقولات لا تليق به ولا بالإسلام ولا بالجزائر! بل قرأت مقالات لخصومه تتهم اتباع ابن باديس بإخفاء حقيقته، فهو ليس بالرجل المصلح والصادق في نضاله كما يسوقه أنصاره، وإنما هو رجلٌ تابع لفرنسا ويعمل لصالحها ولذلك تركته يعمل بحرية إلى أن مات ولم تمسّه بسوء! بل يوجد من لمزه بالطعن في أسرته.

واستشهدوا على أقوالهم بنصوص كتبها رحمه الله، مثل قوله “فللحكومة في هذا من الفضل بقدر ما فيه للأمة من النفع، ولقد كان رجال الحكومة الذين لقيناهم في جميع البلدان يلاقوننا بمزيد الإكرام ويزوِّدوننا بعبارات التأييد والتنشيط ويقول لنا الكثير منهم إننا مستعدون لمساعدتكم في كل ما تريدونه بدائرتنا ولا شك أنهم يتكلمون بلسان الحكومة ويعربون عن نياتها ومقاصدها، وأي مقصدٍ أشرف وأي نية أنفع من تعاون الحكومة مع العلماء لتهذيب الأمة وتعليمها؟ هذا أعظم ما قامت به فرنسا في أول القرن الثاني نحو أبنائها المسلمين الجزائريين الذين كانوا معها في جميع المواقف مواقف الحياة ومواقف الموت” (1)، وقوله “إرتباط الجزائر بفرنسا اليوم صار من الأمور الضرورية عند جميع الطبقات فلا يفكر الناس اليوم إلا في الدائرة الفرنسية ولا يعلقون آمالهم إلا على فرنسا مثل سائر أبنائها ورغبتهم الوحيدة كلهم هي أن يكونوا مثل جميع أبناء الراية المثلثة في الحقوق كما هم مثلهم في الواجبات وهم إلى هذا كله يشعرون بما يأتيهم من دولتهم مما يشكرونه ومما قد ينتقدونه وقد كنا نؤكد لهم هذا التعلق ونبين لهم فوائده ونبين لهم في المناسبات أن فرنسا العظيمة لا بد أن تعطيهم يوما -ولا يكون بعيداً- جميع ما لهم من حقوق وكنا لا نرى منهم لهذا إلا قبولا حسنا وآمالاً طيبة.” (2)، وهي مقولاتٌ منشورة ومعروفة وليست مدسوسة عليه، وقد ألحوا عليّ كثيرا بأن أكتب في الموضوع، ورأيت بالفعل ضرورة ذلك، ولكن ضيق الوقت لم يسمح لي بذلك، ولما سنحت الفرصة رأيت أن كتابة مقال لا يفي بالغرض؛ لأنه موضوعٌ متشابك ومعقد في بعض جوانبه، ويحتاج إلى لملمة المادة ودارستها دراسة متأنية بعيدة عن المواقف الحدية، إذ أن المصلح والمقاوم يتعامل مع وقائع مختلفة فيها التي تحتاج إلى ابراز المبادئ، ومنها ما يحتاج إلى موقف ظرفي مثل الفتوى، ومنها الموقف السياسي الذي يراعي الواقع الاستعماري وضرورة التعامل معه بحذر، ومنها الشرعي..

وأراء ابن باديس ومواقفه في ذلك، ليست قوالب جاهزة يقدّمها دائما بنفس الصيغة وبنفس الصورة وبنفس الشكل، وإنما يكيّفها وفق ما يريد تحقيقه من غايات لحركته ولشعبه الجزائري العربي المسلم؛ بل إن المفترض فيه أن يجتهد ويخطئ ويصيب… إلخ.

ولذلك لا أرى معالجة الموضوع في مقال كافية، ولذلك رأيت أن لا بد من إصدار كتاب في الموضوع، فوضعت خطة الكتاب وشرعت في تتبع المادة المتعلقة بالموضوع وبدء الكتابة، فكانت هذه فاتحته أضيف لهاعناوين عريضة لمحتوياته التي ستكون إن شاء في انتظار تجسيد الفكرة.

الشيخ عبد الحميد ابن باديس لم يعش في جزيرة منعزلة عن العالم، فهو جزائريٌّ من أصول بربرية ينتمي إلى العالم العربي والإسلامي، وبهمه كل ما يهم هذه الجهات التي ينتمي إليها، فقد عاش في مجتمع مستعمَر مستبَدٍّ به، في إطار مجتمع إسلامي متخلف، وفي ظل صراع دولي ساده ميثاقٌ استعماري ظالم، قضى بتقسيم هذا العالم الإسلامي إلى دويلات تشبه القبائل في النظم الاجتماعية القديمة، مجتمع غلب عليه الفقر والجهل وما ينبني عليهما من قيم خادشة للحياء… فحرم الحرية الفردية والجماعية على أوسع نطاق، كما عايش سقوط آخر معقل للنظام الإسلامي، وهو النظام السياسي بسقوط الخلافة الإسلامية في الربع الأول من القرن العشرين، بعدما نهشت أطرافها فمُزقت شر ممزق قبل أن تسقط الخلافة الإسلامية وتفقد الإنسانية شكلا من الأشكال النظرية السياسية، التي لم يكن عالمنا الجديد أفضل منها قبل أن يعرف النظم التعاقدية الجديدة، التي لا يُستبعد أنها استفادت من التجربة الإسلامية في جانبها التعاقدي المحض.

ومن يطلع على نظريات التعاقد الثلاث الأساسية في الفكر السياسي: توماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو، لا يصدق أن هذه النظريات انطلقت من فراغ أو أنها لم تطّلع على التجربة الإسلامية، على الأقل من الجانب النظري؛ بل إن الباحث يكاد يجزم أن أصحاب النظريات التعاقدية الثلاث، اطّلعوا على النظرية الإسلامية، مثلما عاش العالم عقودا من الزمان يقرأ لروني ديكارت ومذهبه في الشك، ولا لغيره هذا المذهب، وكما قال الدكتور بوعمران الشيخ رحمه الله ذات يوم، إن من يقرأ لديكارت في مذهب الشك، يحس بأنه قرأ للغزالي، ولكن لا يوجد ما يثبت ذلك، ولكن مع مرور الأيام اكتشُف أن ديكارت قرأ “المنقذ من الضلال” للغزالي ولم يُشر إلى ذلك؛ بل وُجد في مكتبته نسخة مترجمة لـ”المنقذ من الضلال” إلى الفرنسية، وفيها إشارة إلى فقرة أو فقرات وعبارة تقول “ينقل إلى المنهج” وأعلن عن ذلك في ملتقى الفكر الإسلامي بعنابة في الجزائر في سبعينيات القرن الماضي.

لا شك أن من يتابع تاريخ الأمة الإسلامية السياسي وما مرت به من مراحل غطتها الحروب والصراعات على السلطة والاستبداد، لا يكاد يصدق أن لهذه الأمة نظرية في الفكر السياسي أو أخلاق في ممارسة السياسة والحكم، حتى أن ابن باديس رحمه الله لم يأسف على سقوط الخلافة؛ لأنه كان يرى فيها من التخلف والضعف أكثر مما تملك من الشرعية التي تضمن لها البقاء. ومع ذلك فإن ما بين أيدينا من تراث في الفكر السياسي، لم ترتق إليه الإنسانية إلى اليوم، لما فيه من عمق فكري إنساني وأخلاق سياسية عالية لا سيما في الجانب العلمي التنظيري… فكتاب “غُياث الأمم” للإمام الجويني في الفقه السياسي يعدُّ نموذجا، وفي الجانب الإداري التنظيمي كتاب “الأحكام السلطانية” للماوردي، أيضا له قيمته في بابه.

ابن باديس يرى أن النهضة قد يكون طرف منها في التجربة الغربية، وفي بعض جوانبها وليس في كلها، ولكن بعضها الآخر لا يزال غائبا، وقد تكون جذورها في مساحات المجتمعات المتخلفة التي لا تعيش النهضة هي الأخرى، أو هي في مرحلة الإقلاع، كما يؤرخ لها الكثير من الكتَّاب بمصطلح النهضة العربية أو النهضة الإسلامية، وهي الفترة التي كان فيه الكثير من بقاع العالم الإسلامي مستعمَرا.

وابن باديس بوصفه طالبا زيتونيا وعالما بعد ذلك، شعر كغيره من أهل الهمم العالية، بضرورة النضال من أجل رفع الغبن عن مجتمعه الجزائري المستعمَر منذ ما يقارب القرن من الزمان يوم تخرّجه من الزيتونة في سنة 1912، وعن الأمة وعن الإنسانية؛ لأنه لم يكن يشعر بالغبن على المجتمع الجزائري المستعمَر فحسب، وإنما كان يشعر بأن هناك غبنًا آخر تتضرر منه الإنسانية، بسبب الإستعمار الذي سلك مسلكا غير إنساني، ومن ثم فإن ابن باديس كان يحمل همّ سؤال النهضة، ومستقبل المجتمع والإمة والفكر الإنساني، وليس همَّ المجتمع الجزائري فحسب.

والمسؤولة التي كان يشعر بها ابن باديس تجاه المجتمع الجزائري والأمة الإسلامية والإنسانية قاطبة، ليست منحصرة في جانب واحد من جوانب الحياة، وإنما هي مسؤولية موزَّعة على أكثر من جهة، مسؤولية علمية، ومسؤولية دعوية، ومسؤولية أخلاقية، ومسؤولية سياسية، وكل جانب من هذه الجوانب يحتاج إلى آليات قد لا تصلح لجانب آخر، وإمكانات ابن باديس الشاب الزيتوني لم تكن بالقدر الذي يمكِّنه من القيام بكل ذلك أو بأغلبه، ومع ذلك تعامل ابن باديس وغيره من رجال الأمة في العالم الإسلامي الفسيح مع ذلك الواقع الذي عايشوه، على أنه واقعٌ يفرض عليهم قدرا من المسؤولية تجاهه، ويبقى الطريق الموصل إلى إسقاط هذه المسؤولية وكيفية الوصول إليها، محل بحث ونقاش بين حاملي همّ النهضة.

لا شك أن شعور ابن باديس بأن الإستعمار نفسه الذي هو الغرب في مأزق، لا يلغي أن الغرب يعيش نهضة، ولكنها ليست النهضة التي يتمناها الإنسان، وإنما هي نهضة وفق منظور غربي قد لا تنجح بنفس الصيغة في غير بقاع الغرب، ذلك أن ابن باديس يرى أن النهضة قد يكون طرف منها في التجربة الغربية، وفي بعض جوانبها وليس في كلها، ولكن بعضها الآخر لا يزال غائبا، وقد تكون جذورها في مساحات المجتمعات المتخلفة التي لا تعيش النهضة هي الأخرى، أو هي في مرحلة الإقلاع، كما يؤرخ لها الكثير من الكتَّاب بمصطلح النهضة العربية أو النهضة الإسلامية، وهي الفترة التي كان فيه الكثير من بقاع العالم الإسلامي مستعمَرا.

ويذكر البعض أن بداية هذه النهضة كانت بحملة نابليون على مصر، وبعملية التحديث التي قام بها محمد علي باشا في مصر، ودعوة رفاعة طهطاوي لمحاذاة الغرب وخير الدين التونسي، وحركة الإصلاح التي دعا إليها الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وغيرهم كثير في العالم الإسلامي.

يُتبع

 (1) / (2) آثار ابن باديس 4/322

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!