-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الثورة والمشروع الذي ينبغي أن يكتمل

بن يغزر أحمد
  • 429
  • 0
الثورة والمشروع الذي ينبغي أن يكتمل

السياقات التي يمكن أن تتموضع فيها الثورة الجزائرية (1962-1954) كثيرة، فهي ليست مجرد انتفاضة مسلحة ضد محتل أجنبي، ولا مجرد رد فعل طبيعي ومنتظر على سياسة استدمارية قمعية، ولا مجرد حركة تحررية واتتها ظروف مناسبة ميزت العالم مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي، أكيد أن لها نصيبا من ذلك، لكنها في الحقيقة أكبر من كل ذلك.

تنتمي الثورة الجزائرية إلى ما يسمى في سجلات التاريخ بالأحداث الفارقة، وهي التي يكون ما بعدها مختلفا عن ماقبلها، ويظل ذكرها حاضرا، وتتجدد رمزيتها باستمرار، كما تشكل معلما ومرجعا، ولا يمكن أن يندرج ضمن هذا التوصيف إلا الوقائع التي تجمع في خصائصها بين الجدارة والفرادة وقوة التأثير، وهذا ما استحقته الثورة الجزائرية بتميز.

كانت الثورة الجزائرية تتويجا لمسار طويل من المقاومة خلال ليل الاستعمار الطويل، واستثمارا فعالا لتجربة مريرة تراكمت فيها مظاهر الصمود، وآلام التضحيات والاخفاقات، امتحنت فيها إرادات، وكتبت فيها مصائر ومسارات، وتعرج خط التاريخ خلالها باتجاهات مختلفة، وبهذا المعنى لم تكن الثورة “بذرة” زرعت ذات نوفمبر من سنة 1954، لكنها كانت “ثمرة” أينعت في هذا التاريخ لتكون عنوانا ودليلا لمرحلة تالية.

لقد اكتسبت الثورة جدارتها، وفرادتها، وقوة تأثيرها بفضل ما تميزت به من خصائص وميزات يمكن أن نحدد أهمها في ما يلي:

أولا: لم تكن ثورة 54 ثورة طبقة اجتماعية محددة ولا تيارا إيديولوجيا معينا ولا توجها نخبويا خاصا، وتعد “الشعبية” من أهم ميزاتها، وقد راجت عبارة “أن البطل الوحيد في الثورة هو الشعب” لتأكيد هذا المعنى، لقد كان الشعب بكل فئاته ومكوناته هو السند المباشر للثورة، انخراطا في صفوفها، وإمدادا لها بكل ما تحتاج، وحاميا لها في لحظاتها الحرجة، يبتهج لانتصاراتها، ويحزن لكبواتها، وكان ذلك يعطي لقادة الثورة وأفرادها الثقة في الطريق، واليقين بالنصر.

ورغم أن نخبة من المناضلين هي من خططت للثورة، وهي من حددت خطواتها الأولى، لكن الرهان الأساسي لهذه النخبة في استمرار وانتصار الثورة كان قائما على احتضان الشعب لها، علما أن هذه النخبة كانت منبثقة من الأوساط الشعبية ومعبرة عنها.

ثانيا: كانت رؤية الثورة واضحة، وأهدافها جلية، صاغها بيان أول نوفمبر بطريقة مبدعة، وجعل منها معبرة عن كل آمال وطموحات الجزائريين باختلاف توجهاتهم وتياراتهم، وقد ساعد ذلك في تيسير التعبئة الشعبية والسياسية للثورة، وتجنيبها كل التأويلات التي يمكن أن تُدفع إليها بدوافع ضيقة، أو استدراجها لمناطق الصراع والخلاف.

والأكيد أن لذلك علاقة بالدروس المستنبطة من تجربة المقاومات الشعبية التي شهدها القرن التاسع عشر، التي بقدر ما أبانت عن استماتة في مواجهة الاحتلال بقدر ما أفقدها غياب الاجماع على أهداف مشتركة –إلى جانب عوامل أخرى – فعالية الإنجاز الحاسم كما كان الشأن بالنسبة لثورة 54.

ثالثا: اعتمدت الثورة في الـتأسيس لقوتها على القدرات الذاتية للشعب الجزائري، وعلى الميزات القيادية والشخصيةلرموزها، ولم ترهن إرادتها لأي طرف أو محور خارج الوطن، خصوصا أن مرحلة قيامها تزامنت مع استقطاب إيديولوجي دولي بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة وبين الاتحاد السوفياتي والدول المنخرطة في تكتله، ولقد أعطاها ذلك استقلالية في قرارها وقدرة على استغلال الاصطفافات العالمية القائمة لصالحها، دون أن تضطر إلى تقديم أي تنازلات.

تمكنت الثورة بهذه الميزات أن تتجاوز كل العوائق والتحديات، وبالرغم من حجم التضحيات التي كانت تقدم طيلة الفترة الممتدة ما بين 1954 و1962، إلا أن الثورة كانت تتجه صوبا نحو هدفها المركزي: الاستقلال واسترجاع السيادة، مدفوعة بقوة الإيمان الشعبي الذي كان يتراكم ويترسخ من يوم لآخر، وبالإصرار القيادي على الوصول بالثورة إلى أهدافها وغاياتها مهما كانت الأثمان.

في الطرف المقابل عملت الإدارة الاستعمارية الفرنسية على استغلال أقصى ما تملك للقضاء على الثورة، ومحاولة سحب كل مقومات القوة والاستمرار والتجذر الشعبي منها، وفي هذا الاتجاه لجأت إلى القمع بأقسى صوره، وإلى المناورة بكل أشكالها، وإلى التضليل بأقذر أساليبه، لكن الثورة كانت كالفكرة التي حان وقتها، وبالتالي لم يكن ممكنا إيقافها ولا إفشالها.

لم يكن الاستنجاد بالجنرال شارل ديغول سنة 1958 لإنقاذ فرنسا من الورطة التي كانت تتجه إليها بسبب الثورة إلا تعبيرا عن حجم التحدي الذي أصبحت تشكله هذه الثورة على فرنسا، فديغول بالنسبة للفرنسيين ليس شخصا عاديا، فهو من قاد مقاومة الفرنسيين للألمان بدعم من الحلفاء بعد وصولهم إلى باريس واحتلالها خلال الحرب العالمية الثانية، وقد حوله هذا الإنجاز إلى بطل في نظر مواطنيه.

كانت الآمال قائمة عند الطبقة السياسية الفرنسية، وعند غلاة المستوطنين في الجزائر أن ينقذ شارل ديغول فرنسا من تحدي الثورة الجزائرية كما أنقذها من تحدي الاحتلال النازي، لكن قوة الحق الذي كانت تمثله الثورة كان أكبر من أن ينجح ديغول أو غيره في مواجهته، وبعد سنتين من استراتيجية الترهيب ومناورات الترغيب التي حاول بها ديغول إجهاض الثورة، وإثارة الانقسام في صفوفها أدرك أنه لا مجال لأي مخرج إلا بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتلك معركة أخرى أثبتت الثورة فيها جدارتها وقدرتها.

بعد سبع سنوات ونصف من المقاومة والتضحيات، وبعد أثمان هائلة قدمت كقربان للحرية والانعتاق، كان الجزائريون على موعد مع بداية صفحة جديدة من تاريخهم سنة 1962، بامتلاك مصيرهم، ونيل استقلالهم، واسترجاع سيادتهم، وذلك عقب 132 سنة من الاحتلال والغياب عن ساحة التاريخ.

اليوم ونحن نحتفل بالذكرى 67 للثورة، ونستعد للاحتفال بالذكرى 60 للاستقلال في العام القادم في حاجة لوقفة تأمل في منجز الثورة والحدود التي يوجد عليها، فالثورة لم تكن مجرد حرب على الوجود العسكري الفرنسي في الجزائر، بل إنها من خلال وثائقها وغاياتها وأهدافها تمثل مشروعا يمثل الاستقلال بمعناه السياسي والعسكري خطوته الأولى وليس محطته النهائية.

يكفي أن نقرأ بيان أول نوفمبر وهو الوثيقة التأسيسية للثورة لندرك ذلك بوضوح، فالأمر يتعلق بتحرير مجتمع، وببناء دولة، والـتأسيس لمشروع توحيدي لمنطقة الشمال الإفريقي في إطار بعدها الحضاري العربي الإسلامي كما ورد نصا في البيان، وهذا يعني أن مشروع الثورة ممتد لما بعد 62، وأنه سيكتمل فقط عندما تتحقق كل أهدافه.

إن ثورة 54 والمكسب الذي حققته بالاستقلال واسترجاع السيادة، سيظلان من الإنجازات الحضارية المعتبرة المحققة في مسيرة الشعب الجزائري عبر التاريخ، وستحتل الثورة والاستقلال مساحة معتبرة في الوعي الجماعي المشترك لهذا المجتمع، وعلى أساسهما ستتم صياغة الرؤية المستقبلية التي ينبغي أن تقود الأجيال الجديدة نحو استكمال مشروع الثورة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!