-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
كلام‭ ‬حميم

الجزائر‭ ‬ومسلسل‭ ‬الصعود‭ ‬نحو‭ ‬الأسفل

محمد دحو
  • 5156
  • 5
الجزائر‭ ‬ومسلسل‭ ‬الصعود‭ ‬نحو‭ ‬الأسفل

كان الصديق الروائي الحبيب السايح من أوائل الكتاب والمثقفين الجزائريين الذي نبهوا إلى احتمالات التراجع والخيبة التي يمكن أن تصيب الجزائر فجأة، من خلال بعض الشخصيات الذي تمت نمذجتها في متون قصصية قياسا على مرحلة بناء الدولة الحديثة التي كانت البومدينية تسعى إلى‭ ‬ترسيخها،‭ ‬عبر‮ ‬مشاريع‭ ‬البناء‭ ‬والتشييد‭ ‬الضخمة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬سياسة‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬تلك‮ ‬الفترة‭ ‬الحاسمة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الجزائر‭ ‬عرضة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬النقد‮ ‬الداخلي‭ ‬والخارجي‮.

ولكن حوارات كتلك التي كانت بين بعض المفكرين الكبار آنذاك من أمثال المرحومين الدكتور عبد المجيد مزيان والدكتور عبد الله شريط، والدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي وغيرهم، كانت عونا للرأي العام الجزائري على أن يقول من خلال تلك المطارحات السياسية والفكرية ما لا يجرؤ على قوله أكثر الجزائريين الآن بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي الجزائري آنذاك ذي التوجه الاشتراكي المتشدد، وقد كان الجدل حول الميثاق الوطني من أخطر وأكبر الفرص التي سمحت حينذاك بما يمكن تسميته ثرثرة سياسية أتاحت للجزائريين الشروع في نقد الذات، ونقد السلطة بكثير من الرمزية والقسوة والتهكم السياسي، لقد تفاجأ ملايين الجزائريين بجرأة وصراحة ذلك العجوز الجزائري الذي شاهدوه في التلفزيون الجزائري، والذي لم يتوان في التهكم علينا على هرم السلطة في البلاد، من خلال استعارته لرأس العصا الأعوج، يقصد الرئيس‭ ‬بومدين‭ ‬دون‭ ‬لف‭ ‬أو‭ ‬دوران‮.‬‭ ‬
وقد كان نقد الرؤساء في تلك الفترة جنونا لا يجرؤ عليه إلا الحمقى والمجانين، ليس في الجزائر فقط بل وحتى في تلك الدول الاشتراكية الكبرى في العالم، ومع ذلك لم يسجن ذلك العجوز، ولم تقمعه وزارة الداخلية ولم يتعرض له أحد. لقد وصل بومدين إلى السلطة في الجزائر بقوة الجيش والعسكر، وكان نظام الحكم في البلاد اشتراكيا، لا يسمح بأي تعددية حزبية أو إعلامية، وبالرغم من كل ذلك الوضع الذي كان صعبا، فقد عاش الجزائريون أجمل فترات بناء الدولة وصعودها ليس في الجرائد والأحلام، بل في الواقع الملموس والمحسوس، صحيح أن الثورة الزراعية أخذت أراضي الفلاحين بقوة، وصحيح أن مجال الحريات كان مغلقا، وصحيح أن الانتخابات كانت فقط على شخص واحد، وصحيح أن الوزراء كانوا يعشعشون في مناصبهم، لكن الدينار الجزائري كان يساوي فرنكا ونصف فرنك فرنسي أو أكثر، وكان الدخل القومي الجزائري أقوى من الدخل الإسباني آنذاك، وكانت المدرسة والجامعة الجزائرية قويتين، وكان أمن المواطنين أمرا مقدسا، وكانت قبل كل ذلك كرامة الإنسان الجزائري محفوظة ومصونة، ولم يكن دم الجزائريين يجري في الشوارع والأحياء بهذه الكيفية من البرودة والرخص. إن الذي حدث للجزائريين والجزائر بعد رحيل الرئيس هواري بومدين لم يكن إلا حالة من ذلك الصعود نحو الأسفل كما يبدو في قصص الحبيب السايح، حالة من التمرد الممض، والقنوط السياسي الذي يضع العربة في المؤخرة، وصاحب العربة في المقدمة، (بالمناسبة الاعتداء على عربة أحد الشباب الباعة من طرف الشرطة في سيدي بوزيد بتونس كان إيذانا بخراب مالطا)، وهذه حالة من التشبيه العام للوضع الحالك لكثير من النظم العربية الظالمة لشعوبها، والتي لا تتقدم ولا تتأخر، ولكنها تراوح مكانها في شكل ينذر بالسقوط الحر الذي تمتزج فيه المأساة بالملهاة، والواقعية السحرية بالنفاق والمؤامرات، والوطنية بالخيانة، والدولة بالأشخاص المتنفذين، والاستبداد بالجهوية، والوعي بالغثيان، لقد كان طوفانا عارما ذلك الذي أصاب الجزائريين بعد رحيل الشاذلي بن جديد (ذلك أمر دبر بليل) بعد أن تمت إقالته من منصبه في صمت مطبق، ثم كان ما كان، من تلك الأحداث الدامية التي‭ ‬أعقبت‭ ‬تعطيل‭ ‬الانتخابات‭ ‬الجزائرية‭ ‬التي‭ ‬كاد‭ ‬فيها‭ ‬إسلاميو‮ ‬الجزائر‭ ‬أن‭ ‬يصلوا‭ ‬إلى‭ ‬سدة‭ ‬الحكم‮.‬‭ ‬
والمشكلة أن كل القراءات السياسية والمقاربات التحليلية التي دارت حول أحداث أكتوبر الدامية، لم تقدم وضوحا نهائيا حول ما حصل وكيف؟ ومن كان وراء ذلك السقوط تماما مثلما يحدث الآن من ثورة عارمة للشباب العاطلين عن العمل في المدن والأحياء، دون أي مرجعية سياسية أو حزبية‭ ‬أو‭ ‬جهوية‭ ‬أو‭ ‬فكرية‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬تام‭ ‬للأحزاب،‭ ‬وممثلي‮ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وغياب‭ ‬كامل‭ ‬لما‭ ‬يعرف‭ ‬بطبقة‭ ‬الشخصيات‮ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬ينبس‭ ‬منهم‭ ‬أحد‭ ‬ببنة‭ ‬شفة‮.‬
ولعل السؤال الأكبروالأخطر بعد الأحداث الأخيرة هو ما علاقة ما يحدث اليوم بما حدث خلال أكتوبر من عام ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين؟ أليس هذا هو أكتوبر الثاني؟ أليس هو غضب الشباب الجزائري الضائع في أمواج البطالة والحرمان من السكن والعمل والزواج؟ أليست هذه الاحتجاجات هي احتجاجات أكتوبر الأول نفسها؟ ثم أولم يقتل الجزائريون بدم بارد كما قتلوا أول مرة؟ ماذا يريد هؤلاء الشباب الغاضبين حقا؟ ما هي الرسالة التي تحملها احتجاجات الشباب الجزائري إلى السلطة والأحزاب والرأي العام؟ ومن يقف وراء هؤلاء؟ ألم تنشر إحدى الصحف الجزائرية خبرا يقول برغبة بعض الجهات في ترشيح شقيق الرئيس بوتفليقة لرئاسة الجزائر؟ ألم يرفع السيد عبد العزيز بلخادم أمين عام حزب جبهة التحرير ووزير الدولة عقيرته بأن الحزب سيرشح الرئيس بوتفليقة لعهدة قادمة بعد العهد السابقة؟ لقد فهم الجزائريون هذا الكلام جيدا، ووصلت الرسالة إلى السياسيين وغير السياسيين، وجاء الرد عليها سريعا كما يرى البعض، ولم تكن غضبة الشباب الجزائريين إلا ردا صريحا على ما قالته تلك الصحيفة بشأن شقيق الرئيس والعهدة القادمة للرئيس بوتفليقة، كما قال بعض الجزائريين. إن المزج بين معركة السلطة وثورة الشباب الجزائري البطال قد أصبحت أحد وجوه المسرح السياسي الجزائري الذي يحاول تدوير الحبكة الدرامية وتعقيدها، ثم الدفع بها بعد أن يقع ما يقع على عاتق الشباب وهمومه وقضاياه، إلى لحظة الانفراج التي تعلق شماعتها على غلاء الأسعار والبطالة ومن يريدون الإساءة إلى الجزائر؟ وإلا فمن هم أعداء الداخل الذين قصدهم وزير الداخلية الجزائري تعليقا على ما حدث أخيرا؟ هل هم الأحزاب؟ معلوم أن الأحزاب بعد إتلافها واعتلافها صارت كلها في قبضة الرئيس؟ هل هي الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة وقد ضرب خطيبها علي بنحاج في باب الوادي كما سمعنا؟ هل هي حركة العروش في بلاد القبائل والمستقلون وقد وقف كثير من الجزائريين في وجوه المحتجين بعد أن وصل الخراب إلى العظم في بعض المدن والأحياء الجزائرية؟ ما الفرق حتى الآن بين ما كان في حالة الطوارئ وما بعد رفعها؟ ما السر في تحميل الجيش الجزائري كل تلك الأعباء الجديدة القديمة؟ أليس ما أضمر في ما جاء بعد الطوارئ أخطر من حالة الطوارئ؟ ولكن بشكل خفي ومقنع؟ لماذا لا تزال السلطات الجزائرية حتى الآن ترفض الترخيص للراغبين في مسيرات الاحتجاج؟ أليس من حق الجزائريين أن يتظاهروا وأن يعبروا عن رفضهم لما هو قائم من استبداد سياسي ونهب للمال العام، ومن غياب للتداول على السلطة وحرية الرأي، ومن اللعب على الذقون الذي تمارسه تلك الأحزاب المنبطحة في أحضان الرئيس بوتفليقة حفاظا على مصالحها باسم الائتلاف الرئاسي؟ لقد كان حلم الرئيس هواري بومدين أن تكون الجزائر يابان العرب، وكان صعودها واضحا يقر به الأعداء قبل الأصدقاء، وظل حلم الذين جاؤوا من بعده أن تكون الجزائر لهم وحدهم بعيدا عن أحلام البناء والتشيد، آمنة بقوة الشرطة والجيش لكي يستمروا هم في الحكم دون معارضة، وذلك هو الفرق بين الصعود والهبوط، بين أكتوبر الأولى ومسيرات اليوم‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬الشهداء‭ ‬والثروة‮ ‬الضائعة،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬القادم‭ ‬أخطر‮.   ‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • الحر

    قد اتفق معك يا أستاذ في الكثير مما قلته.فلطالما استعمل الراحل بومدين الأقتصاد في خدمة السياسة لكن كانت نيته تقدم الجزائر وهذا ما يثبته التاريخ .و لكن العيب أننا لم نحافظ على ماتركه.فنحن شعب متواكل و كسول كثير الكلام نلوم النظام دائما.ما أعلمه أن الدولة مرآة الشعب.فان كنا ذو قيم و غيورين فاننا سنقدم النفس و النفيس للجزائر.

  • عاشقة الجزائر

    يا استاذ دحونحن من يعيش في الجزائر نريد ان يعيش اولادنا في سلام و لولا مجانية التعليم العالي لما استطعنا تعليمهم والجزائر بخير مادام ابناءها المخلصين الذين في الداخل بخير فلا نريد ان ندفع بارواح اولادنا وانتم تنعمون بالامن والرفاهية اتركونا بسلام او ارجعوا باولادكم وعيشو ما نعيش عندها قولوا ما تشاءون

  • يوسف الجزائرجي

    تعليق 1 لك مني كل التقدير.أعجبني وصفك بكلام شعبوي.أصبت الحقيقة فيما يدور بالوطن العربي.أتمنى أن تكتب اسمك المرة القادمة لأتابع آراءك.
    أما تأكيدا للأخ2 فللأستاذ دحو أن يتابع "جيدا جدا" الحراك هذه الأيام والتغيير قد بدأ فعلا وميدانيا.أتمنى من كتابنا أن يتركوا مكاتبهم وجلساتهم الدافئة.
    كلامك جميل لكن عليك أن تعرف أن المراد ربما هو غلق أصوات الغوغاء وما يعرف بالمعارضين الجدد إجتنابا لما ذكره رقم1.أي وقاية بسبب الغليان.أعتقد جازما أن هناك إرادة سياسية للتغيير لكن بعد هدوء تسونامي الفوضى المسمى ثورات

  • الوطني الرنداوي

    كلا يا استاذ دحو فالجزائر تصعد الى الاعلى ان شاء الله بفضل رجالها الوطنيين التيكنوقراطيين الذين لم يبرحوا الجزائر اثناء العشرية الحمراء كأشباه الرجال الذين اختفوا و عاشوا حياة سباتية خلال الفترة السوداء و هاهم الآن يظهرون من جديد و يتمنون للجزائر الصعود الى الاسفل في حين أأكد لك انها تنزل الى الاعلى بفضل الله و رجالها المخلصين الذين هم يعملون في الخفاء فكن على يقين ان الجزائر شامخة و تبقى شامخة . اما ثورة شباب الجزائر أخيرا فلم تكن بسبب ما ذكرته يا استاذ **
    و انما ثورتهم فجاءت نتيجة جشع التجار

  • بدون اسم

    كلام شعبوي يجعلنا في حلقة مغلقة ظلم فانتفاضة فعنف فتراكم للمشاكل واراقة للدماء ثم سلم مع مشاكل مضاعفة فظلم مضاعف فانتفاضة فعنف وهكذا, الخلاصة
    لا يغير الله مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ومن ابتغى العزة في غير الاسلام اذله الله من ابتغى العزة في الدمقراطية او الثورات الشعبية اذله الله والايام بيننا وسنرى ماستؤول اليه الاحداث في كل من تونس و مصر وليبيا و مثيلاتها