-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
في ذكرى اندلاع ثورة فلسطين، ثورة الفاتح ينّاير سنة خمس وستين (1965م):

الحقّ لا ينتصر بنفسه: الحقّ ينتصر بأهله

الحقّ لا ينتصر بنفسه: الحقّ ينتصر بأهله

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)” [الحجّ].

وقال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد،                       إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى”.

” ..إن تنصروا الله ينصركم: وما النصر إلّا من عند الله..”

إنّ المحنة الّتي يعيشها أهلنا في فلسطين تعتبر منعطفا تاريخيا غير مسبوق، سيرسم لا محالة مسارا جديدا للصّراع مع الصهيونية العالمية وكيانها الدخيل، في أرض فلسطين.

لقد انكشف الغطاء، وأطلّت البشرية على الوجه الحقيقي للكيان الغاصب، الّذي راح ينتقم من أصحاب الحقّ بوحشية، بشنّه حرب إبادة جماعية، من خلال القصف العشوائي لقطاع غزّة، وتدمير البنايات السكنية والمستشفيات والمساجد، والبنى التحتية، وقتل الآلاف من المدنيين داخلها، وأغلبهم من الأطفال والنساء؛  فضلا عن محاولة التهجير القسري الممنهج للسّكان الفلسطينيين. وعرف العالم، من حيث لم يكن يحتسب، مَن هم الوحوش البشرية. كما أدرك النّاس، بأُمِّ أعينهم، دلالات “الإبادة البشرية”، في القرن الواحد والعشرين (21)؛ ووقفوا على حقيقة الشعارات والمبادئ الّتي سوّقها مَن حمَلوا عناوينها، طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ ويسلكون، في تعاملهم مع قضايا الشعوب، سياسة ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين.

إنّها حرب دمار شامل، وجرائم ضدّ الإنسانية، مكتملة الأركان، دفعت بالرأي العامّ الدّولي إلى التعاطف  مع القضية العادلة للفلسطينيين، كما غيّرت من الرؤية الأخلاقية المركزية للغرب الّذي ظلّ يفهم حقوق الإنسان والسّلم والتعايش، ويفسّرها حسب مصالحه وأهوائه، ودوام هيمنته واستكباره.

لقد وقف العالم أجمع على عدالة قضيتنا، وحقيقة صراعنا التاريخي مع الكيان الصهيوني المحتلّ وامتداداته العالمية، وما له من تداعيات على واقع المجتمعات، وخطورة الأفكار النمطية الّتي باتت تكتسح الحضارة الانسانية؛ وأصبح تغيير العالم ضرورة حتمية لإنقاذ المجتمعات البشرية.

إنّ قضية فلسطين قضية مركزية محورية، بالنسبة إلى المسلمين. والمعركة الّتي تخوضها المقاومة الباسلة في غزّة هي معركة الأمّة جمعاء، من أجل استعادة الحقوق، ودفاعا عن الكرامة والشرف،                  وعن المقدّسات والحرمات. وقد برهنت المقاومة أنّ جهادها مشروع لدفع العدوان، كما قام به الشعب الجزائريّ  في كفاحه ضدّ الاحتلال الفرنسي، منذ مقاومة الأمير، إلى ثورة التحرير.

لقد عرف الجزائريون من دينهم أنّ المسلم قد تهون عليه حظوظ وحقوق، ولا يهون عليه أبدا حقّ الله وحقّ الوطن، ولا حقّ الكرامة والشرف؛ وأدرك شعبنا أنّ الجهاد شُرِع في الإسلام، دفعا للعدوان، وحماية لحرّية الأوطان، وتأمينا لعقيدة الإيمان، وصيانة لكرامة الإنسان؛ فمضى قُدما في ساحة الجهاد، وضحّى بما ضحّى بالملايين من أبنائه، وفلذات أكباده؛ وقد أيقن أنّ الشهادة في سبيل الله ليست موتا، ولكنّها حياة. وظلّ صامدا مرابطا، لا يضرّه ما يلقى من الشدائد والمصائب حتّى انتزع حرّيته واستقلاله، بعون الله، وبفضل كفاحه المستميت وتضحياته الجسام؛ وكان انتصاره على جلاّديه انتصارا لقيم الحرية والمقاومة والجهاد.

وهكذا هي الحال في أرض فلسطين، وعلى الأخصّ في غزّة العزّة والصمود؛ حيث يبذل أبناؤها               التضحيات الجسام، ويكابدون أعظم الآلام، صابرين مرابطين محتسبين. لقد قدّموا لنا وللعالم الحرّ،                        على اختلاف ملله ونِحله، أرقى آيات التضحية والصبر والجَلَد، لاسيما عند اشتداد المحن؛ وأبهروا العالم بقوّة إيمانهم، وعظمة دينهم.

ونحن في الجزائر، أعرف النّاس بما يعانون، وأعلم بما يحسّون، وندرك ما يدركون، من عدالة القضية، وقداسة الجهاد، وشرف الشهادة، واليقين بالنّصر المؤزَّر والفتح المبين.

إنّ الجزائر المجاهدة، دولة وشعبا، برجالها ونسائها وأطفالها وشهدائها، فخورة بإنجازاتهم،                    معتزّة بإبائهم، مطمئنّة لما خلصوا إليه من إيمان أنّ ما أُخذ بالقوّة لا يستردّ إلّا بالقوّة؛ وهي تشدّ على أيديهم، وتُمِدّهم بما تستطيع من عون ومساندة، هي لقوّتهم داعمة، وتكون، إن شاء الله، لصفوفهم جامعة.

إنّ ما يجب أن يُدركه كلّ مسلم أنّ فلسطين، كما أنّها أرض لأبنائها العرب الفلسطينيين، هي وقف                 لجميع المسلمين. وإجماع الأمّة منعقد على حرمة التنازل عن أيّ جزء من منازل الوحي وأرض الرباط.               ومسؤوليةُ رعاية الأقصى وحمايته والذود عنه، وتحرير أرض فلسطين من أيدي الغاصبين تقع على الأمّة جمعاء، وفي المقدّمة أولياء أمور المسلمين. وهذا يقتضي التصدّي لأيّ مشروع يفرّط في الحقوق، ويعترف بشرعية الاحتلال، ويمكّنه من استكمال مخطّطه الاستيطاني وبسط هيمنته على كافّة أرض فلسطين.

إنّ على كافّة المسلمين وأولياء أمورهم أن يقوموا بواجب النّصرة والمساندة لأهل غزّة المحاصرين،                   ومدّ يد العون لهم، وكفّ الأذى عنهم، كلّ من موقعه، وكلّ بحسب قدرته؛ وذلكم من أوكد الفرائض والواجبات. فإنّ من معاني الجهاد في أرض فلسطين القيام بواجب الإسناد، والدّعم اللوجيستي، وفتح المعابر والحدود، وتموين السّكان بالوقود، وبالغذاء والدواء، ومداواة الجرحى، وإسعاف المرضى، وإغاثة فئات المحتاجين.

إنّ الدول العربية ينبغي أن تكون على وعي وإدراك بأنّها ستظلّ على خطر، مادام بينها هذا الكيان العنصري الدخيل. عليها أن تؤمن بأنّ مصلحتها المادية، فضلا عن واجباتها الدينية، أن تعمل جاهدة لإحقاق الحقّ، واسترجاع السيادة على الأرض والمقدّسات. فإذا كانت هناك قضية كبرى تعني المسلمين، في جميع أوطانهم، فإنّ أهمّ قضاياهم المحورية هي قضية فلسطين. ونحن لا نطلب من أمّتنا إلّا جانبا من سلطان الضمير، ويقظة الإحساس، والشعور بالكرامة، والذود عن الحمى والحرمات، وصيانة الحقوق وحماية المقدّسات.

إنّ ما يحاك لأمّتنا في جنح الظلام، تحت مسمى: “حوار الحضارات، ووحدة الأديان، وحقوق الإنسان”، وما لحقها من محاولات بائسة لتسويق “التطبيع”، والإلهاء عن الدّين، وتدمير الذات البشرية،                       والخصائص الدينية والثقافية، لا يقلّ خطرا عمّا يواجهه أهلنا في فلسطين، بل هو أعظم وأخطر، ومحاربته              جهاد في سبيل الله.

إنّ من أوكد الواجبات وأكثر الأولويات إلحاحا العمل لبثّ الوعي، وإثارة الإحساس بقضية فلسطين،                  لتبقى حيّة في ضمير أمّتنا العربية والإسلامية، وهي الّتي تمرّ بأسوء مراحل تاريخها، وتعيش نكبة الذاكرة،                   وتواجه شتّى أنواع التحدّيات، وما فتئ الأعداء يتربّصون بها الدّوائر، يؤجّجون فتنها الداخلية، ويشغلونها  بأزماتها المتلاحقة؛ ويريدون لهذه القضية العادلة أن يفرّط فيها أصحابها، ويزهد فيها المسلمون، ويطويها النسيان.

إنّ تحرير الأوطان يبدأ من تحرير الوجدان، وتحصين الأجيال بأسس الإيمان، واليقين بالله، وتسليم الأمر إليه وحده، وعدم موالاة الأعداء، والحذر من الركون إليهم، وقبول أطروحاتهم. ومن يتولّهم فهو منهم،                 مصداقا لقوله تعالى: “.. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ” [المائدة.51]

لقد أمرنا الله سبحانه بإعداد القوّة لقهر العدوّ، حين قال، جلّ مِن قائل: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ..” [الأنفال 60]. ولعلّ البعض يفهم أنّ القوّة في السلاح والعدّة فقط. والحقيقة أنّ القوّة تشمل، أوّلا وبالذّات، قوّة في البناء الداخلي للأمّة. قوّة في إرساخ عقيدة الإيمان، وفي غرس قيم البذل والتضحية والفداء، من أجل الحقوق المشروعة، والدفاع عن حياض الدين، وحرّية الأوطان، وكرامة الإنسان.

إنّ من واجبنا أن نذكّر دائما أنّ للنصر المؤزّر أسبابا لا بدّ من توافرها؛ وفي طليعتها، بعد إعداد كلّ قوّة مادّية مستطاعة، الإيمان بالله القاهر فوق عباده، واليقين الجازم أنّ لهذا الكون خالقا، سبحانه، يدبّر شأنه،                ويتصرّف فيه بقدرته وحكمته. ولا يكون هذا الإيمان صادقا إلّا إذا دفع بصاحبه إلى العمل الدّؤوب،                          والمجاهدة في الله حقّ جهاده. إنّه البعد الإيماني، والبناء الروحي.

لقد قرأنا واستمعنا مرّات إلى من يرفع النّداء: “ألا من صلاح الدّين لأمّة الإسلام!” ولهؤلاء نقول:                       “إنّ صلاح الدّين وجُنده الأبرار لم يأتوا من فراغ”. لقد كانوا ثمرة صالحة لمدرسة ربّت الأجيال، وأعدّت الصالحين من الرجال؛ ألا وهي مدرسة أبي حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني، عليهما رضوان الله.

إنّ من أسباب النّصر صدق التقوى؛ فإذا هي عَمَرت القلوب الواعية، تنزّلت عناية الله، وجاء نصر الله؛             وهو القائل، جلّ في علاه: “إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسنُون” [النحل.128]. وهذا التوكّل على الله،              مع بذل الجهود، واستنفاذ المجهود، هو الّذي يحقّق الثّقة والاطمئنان في النفوس؛ حين يجعل المؤمن هجرته لله، ولا يخشى شيئا ولا أحدا سوى الله: “أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”[التوبة 13]،                          “قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” [التوبة 51].

إنّنا نَدين جرائم الكيان الصهيوني، وخيانة وكلائه في الأرض المحتلّة؛ ونُعلن مجدّدا مساندتنا لأهلنا        في غزة العزّة، ووقوفنا بثبات إلى جانبهم؛ ونُبشّر أمّتنا بأنّ النّصر آتٍ، بإذن الله، فوعد الله لا يُخلف، وكان وعد الله مفعولا. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .

هذا، والله نسّأل أن يحقّ الحقّ بكلماته، ويفتح لإخواننا في فلسطين فتحا مبينا، ويثبّت أقدامهم، وينصرهم على عدّوه وعدوّهم؛ وأن يقيّض لأمّتنا من أبنائها المخلصين من يرأب صدعها، وينهض بها من كبوتها. والله المستعان والموفّق للسّداد. وعليه وحده الاتّكال والاعتماد.

والحمد لله ربّ العالمين.

خادم العلم الشريف في المقام القاسمي

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!