-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الصحافة العُلمائية الباديسية.. البصائر أيقونة الصحف الإصلاحية

حسن خليفة
  • 446
  • 0
الصحافة العُلمائية الباديسية.. البصائر أيقونة الصحف الإصلاحية
ح.م

تحدثنا في  مقال سابق عن الحسّ الصحفي للعلامة ابن باديس وإنجازاته في مجال الصحافة والإعلام، ورأينا كيف كان وراء كل الصحف الإصلاحية الثقافية المجتمعية النافعة التي صدرت على مدار نحو خمس عشرة سنة (1925ـ 1940)، وقد ذكرنا منها ما ذكرنا، وعرفنا أنه كُلما سقطت صحيفة شهيدة أصدر صحيفة جديدة، وتلك لعمرى إرادة أحرى  أن تُدرسَ وتحتـذى في مجال التغيير وإرادة التغيير، والثبات على المبدأ، ومقارعة الباطل بالحق، والالتزام القويم والشموخ في المقاومة.

ونخصص هذه الأسطر لأيقونة الصحف الإصلاحية الثقافية ونعني بها صحيفة “البصائر” وينبغي التوقّفُ عند بعض تفاصيلها التي نسردها فيما يلي، لأهميتها.

لقد صدر العدد الأول من “البصائر” بالعاصمة يوم الجمعة 27 ديسمبر 1935 وكان مديرها ورئيس تحريرها الأستاذ الشيخ الطيب العقبي وصاحب الامتياز الشيخ محمد خير الدين. ثم صدرت “البصائر” في قسنطينة ابتداء من العدد 84 الذي صدر يوم الجمعة 29 أكتوبر1937. وكانت “البصائر” لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (ولمّا تزل إلى اليوم) ترأّس تحريرَها حين كانت تصدر في قسنطينة الشيخ مبارك الميلي وبقي الشيخ خير الدين صاحب الامتياز، وصدر منها في هذا الطور 180 عدد في ظرف أربع سنوات، انتهت سنتها الأولى بعدد 50 بتاريخ 8 جانفي 1937.

 وابتدأت سنتها الثانية بعدد 51 بتاريخ 15 جانفي 1937 وانتهت السنة الثانية بعدد 89. وابتدأت سنتها الثالثة بعدد 90 بتاريخ 10 ديسمبر1937 وانتهت السنة الثالثة بعدد 141 بتاريخ 25 ديسمبر 1938. وانتهت نهائيا بعدد 180 بتاريخ 25 أوت 1939 مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وقد استأنفت “البصائر” صدورها في سلسلة جديدة (الثانية) وذلك سنة 1947 إلى سنة 1956 وقد أشرف عليها في هذا الطور الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهو الكاتب والأديب النابغة الداعية العارف المعروف. وقد سجل المؤرخون أن “البصائر”، في كل عهودها، وخاصة في عهد الشيخين  الميلي والإبراهيمي عرفت تطورا كبيرا في الكثير من النواحي، إصدارا وانتشارا، وتغطية للأحداث، ودفاعا عن المقوّمات والمبادئ والقيّم.

وفي زمن الإبراهيمي ـخاصةـ كان الاهتمام بلغتها وأسلوب الكتابة فيها منضبطا دقيقا بمراعاة مقاييس وضوابط حددها الشيخ الإبراهيمي بنفسه وتحدث عنها (مقالٌ رائع في عيون البصائر يستفاد منه)، وذلك يعني ـ بكل وضوح ـ  أن صحافة الجمعية بصفة عامة لم تكن تصدر بشكل عفوي عادي سطحي، بل ثمة شروط ومعايير ينبغي الاهتمام بها؛ لأن الجريدة كما قال الإبراهيمي عنها “إن البصائر معرض من معارض البيان الأعلى” يتنـافس الكتّاب والأدباء في تدبيج المقالات وعيون النصوص لتُنشَر فيها.

 ومن يطّلع على الأعداد المجموعة، وهي بحمد الله تعالى متوفرة في المكتبات وبعض المساجد؛ إذ طُبعت مرتين، على الأقل، طبعها في المرة الأولى الحاج لحبيب اللمسي رحمة الله عليه في دار الغرب الإسلامي ببيروت (لبنان) ثم طبعتها وزارة الثقافة في وقت لاحق، في مجلدات جميلة رائقة راقية. وعند السياحة في صفحاتها سيدرك القارئ القيمة المعنوية والمستوى اللغوي، وقوة الطرح وحُسن التناول للموضوعات التي تطرحها “البصائر” بتدقيق وتبصّر ومعرفة بما يجب وما لا يجب، بما يعني وجود سياسة تحريرية حكيمة وقوية تعرف أهدافها بالضبط في كل مرحلة.

وحتى لا نغفل معلومة تاريخية مهمة نشير إلى أن البصائر التي صدرت في العاصمة في سلسلتها الأولى كانت تُطبع في المطبعة العربية للشيخ أبي اليقظان أحد أعمدة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والصحافي أو  فلنقل أحد آباء الصحافة الجزائرية الحديثة.

أما في قسنطينة فكانت تُطبع في المطبعة الجزائرية الإسلامية التي تأسست، بتبصّر واستشراف من الشيخ العلامة ابن باديس لاستباق العراقيل التي كانت الإدارة الاستدمارية تهيِّئها، وقد رأينا كم من الصحف أغلقت وعطلت.

لقد ذكرتُ ملتقى وطنيا تم تنظيمه في كلية علوم الإعلام بقسنطينة قبل سنتين، وشهد كل من حضر الملتقى ذلك الاهتمام الكبير العميق من شباب الباحثين والباحثات، وقد زاد عددهم على الثلاثين ممن شاركوا وتدخلوا… شهد كل من حضر تلك الحفاوة العلمية ـ إذا صحّ التعبيرـ من أولئك المشاركين الباحثين، وعبّر بعضهم عما اعتبره “اكتشافا” لخزان صحفي جزائري ذي قيمة عالية، خاصة فيما يتصل بالمضامين والأشكال الصحفية.. وأذكر أنه دار الحديث عن تنظيم ملتقى ثان يُخصص للقيم، وهو ما سعيتُ شخصيا مع مسؤولي كلية الإعلام والاتصال في العاصمة لتنظيمه وقد رحَّبوا بذلك ولكن الظروف كما نعلم حالت دون إكمال هذا الأمر، ولعله يكون في المستقبل لتعريف الأجيال بصحافة جزائرية حرة قوية متينة الأركان عالية المعايير زخّارة بالقيّم الإخبارية والنفس النضالي الحارّ.

في تقديري يعني ذلك أنه ما يزال أمامنا كأساتذة، ومهتمين بميراث الوطن وميراث الجمعية، جهدٌ كبير وربما شاقّ لإيصال الأمانة إلى الأجيال الشابّة من الطلبة والباحثين القادمين والباحثات.

ويستلزم ذلك النظر بشكل شامل إلى أهمية طرح الخطاب الصحافي- الإعلامي الجزائري للتداول للاستفادة والانتفاع منه ودراسته وبحثه،  وذلك ما نأمل أن  يتحقق، بعد أن يرفع الله تعالى علينا هذا الوباء، في ملتقى كبير في إحدى كليات الصحافة والإعلام في جامعة من جامعات الوطن، وحينئذ سنستمع إلى دراسات وأبحاث ومحاضرات عن البصائرـ وغيرهاـ في طورها الأخير (الحالي) بموضوعية وعلمية ودقة. ولعلنا نعقد المقارنات بين الصحافة الرصينة في ذلك الوقت زمنئذ؛ إذ كانت الظروف صعبة وشاقة، ولكن الصحافيين أدّوا ما عليهم وقاموا بواجباتهم، ولذلك ربّت وأثّرت وصنعت الوعي وحققت التغيير في الأنفس والأفكار، وبين صحافتنا اليوم التي تتداعى الأخبار عن أنها صحافة تكاد تكون بلا قيّم اللهم قيم التطبيل والتهليل والتضليل… وهو ما جعلها بعيدة عن تحقيق أهداف الصحافة الحقيقية. وبجملة مختصرة مفيدة: ما أحوجنا في فضائنا الإعلامي الجزائري إلى شيء يُسمى

“صحافةـ إعلام القيّم”؛ لأن ذلك هو حجـر الأساس في صناعة صحافة وإعلام حقيقيين مؤثرين باقيين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!