-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الضّرورة المستقبلية للتوافق الوطني

ناصر حمدادوش
  • 474
  • 1
الضّرورة المستقبلية للتوافق الوطني
ح.م

أثبتت تجارب الانتقال الديمقراطي أنّ عملية الدّمقرطة ليست طريقًا معبّدًا بالشّكل الذي تريده القوى الثورية، فهي المرتقى الصّعب والعملية المعقّدة التي تناطح العقبات والتحدّيات المتعدّدة، وهذا ما يفرض علينا الحديث مجدَّدًا عن الاستشراف المستقبلي لصيرورة التحوّل الديمقراطي بعد موجات الرّبيع العربي، وربط حالات الوعي السّياسي المتنامي بمساراته ومآلاته.

ومع الاعتراف بأنّ التحوّل الديمقراطي تكتنفه حالاتُ التعقيد بسبب تشابك مصالح القوى الفاعلة والمؤثّرة فيه داخليًّا وخارجيًّا، ومع التسليم بعدم وجود نموذجٍ موحّدٍ يمكن القياسُ عليه لاختلاف التجارب بسبب خصوصيات كلّ دولة، فإنّ محل النّظر في المسألة يتجاوز المفاهيم والأطروحات النظرية المؤصِّلة لعمليات الانتقال الديمقراطي، ويقفز فوق رصد وتحليل أسبابه، ويضرب صفحًا عن طرائقه وأساليبه، ويتركّز على أهمّ مقوّمات نجاحاته وتجنّب إخفاقاته، وهو الضّرورة الإستراتيجية للتوافق الوطني من أجل العبور الآمن بهذا الانتقال نحو الإرادة الشّعبية وتجذير الديمقراطية وتحقيق التنمية. وهو ما يعني أنّ التهافت على الجانب الإجرائي للديمقراطية وهو الإسراع بتنظيم أيّ انتخابات – ولو كانت نزيهةً وشفّافة – لن يكون كافيًّا في نجاح الانتقال الديمقراطي.

ذلك أنّ الثورات الشّعبية التي انتفضت ضدّ الأنظمة التسلّطية الفاسدة والفاشلة لم تختزل أهدافها في مجردِ هذا البُعد الإجرائي والتقني للدّيمقراطية، بل أعطت لعمليات التغيير الحقيقي فرصته في الزّمان لكي يستوعب كلّ أبعاد التحوّل الديمقراطي، ومنها التوافقات العابرة للحزبيات والتنازلات العابرة للإيديولوجيات والتحالفات العابرة للانقسامات، وهو ما يدلّل على أنّ الثورات الشّعبية ليست مجردَ ثوراتٍ انتخابية، وأنّ الدّيمقراطية ليست مجرد انتخابات، وأنّ الانتخابات هي ركنٌ واحدٌ فقط من أركان العملية الدّيمقراطية، وأنّها آخِرُ ما يتوّج هذا المسار التغييري وليس العكس، وأنّ نجاح عمليات الانتقال الديمقراطي يرجع إلى الدقّة في تحديد طبيعة الصّراع، وأنّ المنهج العقلاني في التغيير يتطلب واقعيةً في التدافع، بأن يكون صراعَ حدودٍ وليس صراع وجود، أي أنّ العملية التغييرية تمسّ حدود الصلاحيات الدستورية والسياسية بين الشّعب والسّلطة، وليس صراع الوجود بإلغاء أيِّ طرفٍ للآخر، لأنّ من أهمّ مظاهر النّجاح في الانتقال الآمن هو الحوار والتوافق والشّراكة بين شركاء الوطن الواحدومهما تعدّدت عوامل الانتقال الديمقراطي الداخلية والخارجية وتفاوتت تأثيراتها، فإنّ عملياتِ الاستقراء الواقعي لنماذج هذا الانتقال أثبتت أن هناك 04 طرائق له، وهي:

1/ الانتقال من الأعلى: عن طريق الجناح الإصلاحي من داخل النظام السياسي، بحصول القناعة لديه أنّ كُلفة الانتقال الديمقراطي أقلّ من كُلفة الاستمرار في الحكم، مثلما حدث في إسبانيا والبرازيل..

2/ الانتقال من الأسفل: وهو الانتقال الذي يحدث نتيجة انتفاضةٍ أو ثورةٍ شعبية، تؤدّي إلى انهيار شرعية السّلطة وتفكّك بنية النّخبة الحاكمة وتخلّي الجيش عنها، وهو ما يُجبر النظام السياسي على تقديم التنازلات التي تفتح الطريق أمام هذا الانتقال السّلس، مثل ما حدث مثلاً في كوريا الجنوبية والبرتغال..

3/ الانتقال المتفاوض عليه: وهو الانتقال الذي يقع عن طريق التفاوض والمساومة بين النظام السّياسي والمعارضة، نتيجة التوازن النّسبي في ميزان القوة بينهما بسبب اندلاع المظاهرات والاحتجاجات الشّعبية، فلا النظام السياسي له القدرة على تحمّل أعباء كُلفة الاستمرار في الحكم، ولا المعارضة قادرةٌ على الإطاحة به والحسم معه، مثل ما حدث في جنوب إفريقيا..

4/ الانتقال الخارجي: وهو الذي يتمّ عن طريق التدخّل العسكري الأجنبي، نتيجة عدم بروز نخبةٍ إصلاحية من داخل منظومة الحكم أو لعجز قوى المعارضة على التغيير فتتدخّل دولةٌ أو مجموعةٌ من الدول لإسقاط نظامٍ تسلطيّ ديكتاتوري لدوافع متعلقة بالديمقراطية أو بالجانب الإنساني أو لحسم صراعاتٍ محلية طاحنة.

وقد ينجح هذا الانتقال مثل ما حدث لألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وقد يفشل لعدم الصدق في هذه الدوافع مثل ما حدث في أفغانستان سنة 2001م، والعراق سنة 2003م..

وبالإسقاط على الحالة الجزائرية، فإنّ النّموذج الأقرب لنا في الانتقال الديمقراطي هو نموذج الانتقال المتفاوض عليه، والذي يجب أن يعبُر على حتمية الحوار الجادّ والمسؤول بين السّلطة والمعارضة، وضرورة التوافق الوطني الحقيقي والفعلي بينهما.
لا الحَراك الشّعبي استطاع أن يحقّق مطالبه، وفق رؤيةٍ وطنية ومشروعٍ سياسي وقيادةٍ تمثيلية وقدرةٍ تفاوضية، بالرّغم من الثبات الأسطوري على السّلمية وعلى الحدّ الأدنى من المنسوب الشّعبي الضاغط على السّلطة طيلة 42 أسبوعًا، ولا النّظام السّياسي استطاع الحسم بسياسة الأمر الواقع، بالرّغم مما يملكه من أدوات القوّة وإدارة الصّراع، مثل الجيش والقضاء والإعلام والإدارة والمال والخارج.

كما أنّه لا يمكن اختزال أزمة الجزائر في مجرد تنظيم الانتخابات؛ فقد تمّت المحافظة على الدورية الدستورية لها منذ 1995م بتنظيم 15 استحقاقًا انتخابيًّا بين الرّئاسيات والتشريعيات والمحلّيات، ومع ذلك وصلنا إلى نتيجةٍ خطيرةٍ يعترف بها الجميع الآن، وهي تنطق بالإدانة الكلّية للنّظام السّياسي بأكمله، وهي: التزوير في الانتخابات، والفساد في الحكم، والفشل في تحقيق التنمية، رغم ما توفّرَ له من البحبوحة المالية والصلاحيات المطلقة والسّلمية الشّعبية والقاعدة السّياسية والغطاء الخارجي.
إنّ الضرورة المستقبلية للتوافق الوطني تقوم على عدّة اعتبارات وتستند إلى عدّة مبرّرات، كما طرحتها حركة مجتمع السّلم في مبادرتها للتوافق الوطني في جويلية 2018م، وهي:

– المبرّر الاقتصادي: بسبب الارتباط المزمن بالمحروقات، والفشل في الانتقال الطاقوي، والعجز عن تنويع الاقتصاد، والشّلل في الذّهاب إلى الاقتصاديات البديلة، واستدامة العجز في الميزانية وفي ميزان المدفوعات وفي الميزان التجاري، وتعقّد أزمة المحروقات بسبب تراجع الانتاج وارتفاع الاستهلاك المحلي منذ 2006م، وإمكانية التوقّف عن تصدير البترول سنة 2025م والغاز سنة 2030م، وخطورة الإفلاس في احتياطي الصّرف في حدود سنة 2022م..

– المبرّر الاجتماعي: بسبب تراجع منظومة القيم، وتآكل رصيد الشّعور بالمواطنة، وتكسير مختلف الوسائط بين المجتمع والدولة، وهيمنة الرّوح الاتكالية وعقلية البايلك، وارتفاع سقف المطالب الشّعبية، واستحالة المقاربة الأمنية في مواجهة التوترات الاجتماعية..

– المبرّر السّياسي: بسبب الإدمان على تزوير الانتخابات، وأزمة الشّرعية السّياسية للسّلطة، واهتزاز الثقة في مؤسّسات الدولة، وتكريس منطق عدم الجدوى في التغيير بالطّرق القانونية والسّلمية، وغياب معايير الحكم الرّاشد في البلاد..

– المخاطر الأمنية الإقليمية والدولية: والمتمثّلة في المخطّطات الاستعمارية التي تستهدف الثروات والسّيادة والوحدة الترابية للبلاد، وتوتّر الأوضاع الأمنية على كامل الحدود مع دول الجوار، وتحمّل الجزائر لتبعات التدخل الأجنبي فيها، وتهديدات الإرهاب والمخدرات وتجارة السّلاح في السّاحل، ومخاطر الهجرة غير الشّرعية..

كلُّ هذه المبرّرات وغيرها تضع الرئيس القادم -مهما كان الجدل حول شرعيته- أمام حتمية الحوار الجادّ والمسؤول من أجل التوافق الوطني، لاستحالة قدرته على تحمّل المسؤولية السّياسية لوحده في مواجهة هذه الأزمات المعقّدة والمتعدّدة الأبعاد، وفق رؤيةٍ سياسيةٍ واقتصادية، تنطلق من الاستفتاء على الدستور التوافقي الجديد، وتعديل القوانين المرتبطة به وعلى رأسها قانون الانتخابات، والذّهاب إلى الانتخابات التشريعية والمحلّية المسبقة، والعودة إلى الانتخابات الرّئاسية الحقيقية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • خيرالدين

    كل هاته الافكار قرأتها قي كتاب : لمادا تجح الاخرون وتأخر العرب عن الديمقراطية ..... كناب قيم يشرح طرق الانتقال الديمفراطي من دولة الربيع العربي او الحراك الي دولة المؤسسات لا دولة الزعيم الملهم
    لن يحدث التغيير في الجزائر الاّ حينما يدرك الشعب حقيقة وجوده الذي هو اليوم رهينة وعيه المغيب او الزائف
    من يعرق أبجديات الانتقال الديمفراطي لن يغتر بشعارات " يتنحاو قاع "
    التجرية الاسبانية فريدة من نوعها وقريية الينا من حيث التطبيق وكذلك الحال للنجرية الرازيلية أمّا العنف الثوري فلن يجلب لنا الاّ أوليعاركيات أخري

    التغير يبدأ بنشر الوعي في اوساط الجماهير .. وليس بنشر الغوغائية والتخوين ....